..كأننا نتعلم!
كم من غارة جعلت الطالب يتيماً، ولأنه الأكبر صار المعيل لإخوته؟ وكم من طالب يعمل ليعيل أسرته؟ فيما يبحث طلاب آخرون عن طعام أو مكان آمن ينامون فيه!
-
غزة
لا أدري كيف أصبحت في المرحلة الثانية ثانوي، بينما كنت حين اندلعت الحرب في الصف الثالث الإعدادي. كل ما أعلمه هو أنني "ناجحة" و"مُرفَّعة". بهاتين الكلمتين اجتزتُ عامين دراسيين كاملين من دون أن أسير صباحاً إلى المدرسة. حتى إن آخر مرة كنت فيها طالباً بحق كانت يوم الخميس 5 تشرين الأول/أكتوبر 2023، أي قبل الحرب بيومين فقط!
هل تعلَمُ أنك لو سألتني: "ماذا تعلمت من منهاج الأول ثانوي؟"، لما وجدتُ إجابةً أُقدمها لك؟ بل لو عُدت إلى أساسياتي في الصف الثاني الإعدادي، لوجدت أن الذاكرة مسحتها غيوم الخوف والقتل والنزوح. يوماً بعد يوم من هذه الحرب الهمجية، فرغ العقل من محتواه.
أما النظام التعليمي الطارئ الذي جاء بعد عام من الحرب فلم يوقف هذا الأمر، ورغم وجوده أقول لك: لا تعليم حقيقياً في القطاع. فهو تعليم إلكتروني... هل سمعت عن تعليم إلكتروني نَجَحَ في هذا العالم؟ فكيف ينجح في قطاع غزة، حيث الإنترنت ضعيف، ومُعاناة شحن الهواتف، ولا توجد ظروف تعلم مناسبة؟ في غزة خيام لا شقق، ولا يملك الطالب غرفةً خاصةً، كما أن القتل يعيش بيننا كل لحظة وقد يجعل الطالب أو المعلم شهيداً بطرفة عين.
ربما شاهدت مقاطع فيديو لطلاب يحاربون الواقع والحرب. هؤلاء الأبطال استثناء لا يُغني عن القاعدة. كم عددهم؟ 10 من كل ألف؟ 100؟ أما الأغلبية الساحقة فغارقة في هموم البقاء على قيد الحياة. كم من غارة جعلت الطالب يتيماً، ولأنه الأكبر صار المعيل لإخوته؟ وكم من طالب يعمل ليعيل أسرته؟ فيما يبحث طلاب آخرون عن طعام أو مكان آمن ينامون فيه! هل تظن بأنهم سيفكرون بجدول الضرب أو النحو؟ كل هؤلاء الطلاب يُرفَّعون!
هُناك طفلٌ، بفعل الترفيع، أصبح الآن في الصف الخامس الابتدائي. وهو، بفعل جائحة "كورونا"، لم يدرس لا أول ولا ثاني ابتدائي. وبعد شهر في الثالث ابتدائي، اندلعت الحرب ثم رُفِّع ورفِّع. ولو أعطيتَهُ جملة "ذهب أحمد إلى السوق" لما عرف قراءتها أو كتابتها!
لذلك أرى الترفيع في هذه الظروف صفعة للتعليم، وغطاء من ورق يُوضع على جرح غائر، ومشاركة غير مباشرة وغير مقصودة في تضليل جيل كامل ودفعه إلى مراحل تعليمية غير مؤهل لها. فتزداد الفجوة عمقاً، ويغرق الطالب في دوامة من العجز والإحباط، مثلي تماماً، لا أصدق أن المرحلة المفصلية (التوجيهي) أوشكت على الاقتراب، وأشعر بالذعر من فكرة أنني سأُرَفَّع لها أيضاً!
أنا كطالبة أرفض الترفيع لأنه حل ظاهري لمشكلة عميقة. كل ما يقوم به هو تخدير للجسد التعليمي النازف. وبسببه، لن تتحقق أحلام طلاب كان بإمكانهم أن يصبحوا أطباء ومهندسين. ومن المروع أن تكون رسالة الترفيع المفاد منها: "استمروا في العيش كما أنتم، فشهاداتكم مضمونة". بينما الحقيقة المرة هي: "لقد تخلى عنكم العالم، حتى في حقكم في التعليم الحقيقي".