"التنور الطيني" والتقاليد الاجتماعية في اليمن
تتمازج في صناعته الوظيفة العملية بالنسق الثقافي وجذوره الأنثروبولوجية. تعالوا نتعرّف إلى عملية صناعة التنّور الطيني في اليمن.
من أهمّ خصائص الثقافة الشعبية في اليمن ــ ماديّةً وغير مادية ــ ما تتسم به من حيوية فاعلة في التقاء الحاضر بالماضي. وهي السمة المتجسّدة في "التنور الطينيّ" [1]، الذي يعتمد في وقوده على الحطب؛ بوصفه واحداً من أبرز مكوّنات الموروث المادي؛ لما يمثّله من أهمية محورية في المطبخ اليمني، ولا سيما في المناطق الريفية التي يكثر استخدامه فيها.
صناعة التنور الطيني وإجراءات التثبيت
-
تبدأ صناعة "التنور الطّيني" في اليمن من مرحلة اختيار النوعية المناسبة من التراب
من الحرف التقليدية التي لا تزال حاضرة في حياة اليمنيين، صناعة الفخار. وفي سياقها تأتي صناعة "التنور الطيني"، الذي لم يستغن عنه اليمنيون، بالرغم من انتشار بديله "التنور الصّناعيّ"، الذي يعمل بمادة الغاز. ويعود ذلك إلى تميّز الخبز ــ المصنوع في التنور الشعبي ــ بعدد من السمات، منها: لذّته ونكهته الفريدة، وقيمته الصحية. كما أن من أهم عوامل بقاء التنور الشعبي في حياة اليمنيين، جدواه الاقتصادية؛ إذ يوفّر استخدامه تكلفة شراء مادة الغاز المنزلي، ولا سيما حينما يصعب الحصول على هذه المادة، في الأيام التي تشتد فيها الأزمات الاقتصادية، التي تتداخل في إذكائها عوامل الصراع المختلفة.
تبدأ صناعة "التنور الطّيني" في اليمن، من مرحلة اختيار النوعية المناسبة من التراب، ثم تنقيته من الأحجار والحصى والشوائب، مروراً بخلطه بالماء وعجنه بطريقة تجويد فاعلة في إضفاء التماسك عليه؛ ليستوي عجينةً سميكة. تلي ذلك، مرحلة تشكيل عجينة الطين، ولفّها على قالب، بطريقة أسطوانية، مع تتابع عملية طرقها، وتمديدها بشكل ثابت حتى الانتهاء من عملية التشكيل.
ثم تأتي مرحلة التجفيف؛ إذ يتم نقل ما تمّ تشكيله إلى مكان آخر، تستمر فيه عملية التجفيف أيّاماً متفاوتة، قد تصل إلى 5 أيّام، وقد يتمّ الاكتفاء بأيام ثلاثة أو أربعة. أمّا المرحلة الأخيرة، فمرحلة إدخال "التنور الطيني" الجاهز إلى فرن خاص، وتعريضه للنار، بما يكفي لإكسابه نوعاً من الصلابة والمقاومة.
في الماضي القريب، كانت عملية تثبيت "التنور الطيني" قائمةً على تجهيز قدر مناسب من عجينة الطين المخلوط بمخلّفات الحيوانات. ثم يثبّت بهذه العجينة التنور الشعبي في إحدى زوايا المطبخ، وبها يتمّ تلبيسه، بطريقة تعمل على ربطه بأرضية المطبخ، وبالتلبيسة الطينية، التي تغطي جداري تلك الزاوية التي ثبت فيها.
وبعد أن أدخل الحرفيون على صناعة "التنور الطيني" بعض اللمسات الإبداعية والتطويرية، صار الغالب من هذه الصناعة مدعّماً بتلبيسة من الزنج، الذي تفصله عن جسد التنور طبقة من مادة الجص. وبذلك، لم يعد التثبيت بعجينة الطين تلك على ذاك المستوى من الأهمية، التي كانت عليه قبل هذا التدعيم. وعلى ذلك، لا بد منها للربط بين التنور والمساحة التي تم تثبيته فيها من قاعة المطبخ وجدرانه.
تقاليد التأهيل وتدشين العمل
-
تتمازج في صناعة التنور في اليمن الوظيفة العملية بالنسق الثقافي وجذوره الأنثروبولوجية
بعد الانتهاء من تثبيت "التنور الطيني" تأتي تفاصيل تأهيله وتدشين العمل فيه، بما هي عليه ــ هذه التفاصيل ــ من خصوصية محلية، وطبيعة تتمازج فيها الوظيفة العملية بالنسق الثقافي، وجذوره الأنثروبولوجية، الضاربة في تراكمية الثقافة الشعبية في اليمن.
من تلك التفاصيل، الحرص على إشعال النار في التنور التقليدي أكثر من مرة، مع تزويده في كل مرة بنوعية مختلفة من الحطب: فمرةً يتم استخدام حطب ذي أعواد رفيعة الحجم، وأخرى بحجم متوسط، وثالثة بحجم سميك. وفي كل مرة لا بد من أن يحمرّ جدار التنور من الداخل. ولا بأس من أن ترمى مع أعواد الحطب ــ عظمة أو أكثر، من عظام حيوان أليف ذبح قبل أيام.
وتتمثّل أولى خطوات التدشين الفعلي، في إعداد عجينة من كل نوع من أنواع الطحين، كأن تكون: عجينة قمح، وأخرى ذرة شامية، وثالثة من طحين الدّخن أو الشعير، وغير ذلك. ثم تتم صناعة كلّ صنف على حدة، وبصورة متتابعة، نوعاً بعد آخر. أمّا الخطوة الأخيرة، فتتمثّل في توزيع أول ما ينضج من أقراص الخبز على الجيران.
لا بد من أن تؤخذ هذه الإجراءات والخطوات بعين الاعتبار مع إدخال التنور التقليدي إلى المطبخ؛ لما تمثّله في الثقافة الشعبية من أهمية، في الوصول به إلى أعلى مستويات التأهيل الفاعل في إضفاء الجودة على كل ما يصنع فيه من طعام. وإن لم تؤخذ هذه الإجراءات ـــــــ أو بعض منها ــــــ بعين الاعتبار، فإن ذلك سيؤدي إلى حدوث إشكالات محتملة، منها سقوط أقراص عجينة الخبز، التي تثبّت في جداره الداخلي، قبل وصولها إلى النضج المكتمل.
طقوس شعبية: من "الجلب" إلى "شراء الإخوة"
-
يهدف طقس "شراء الإخوة" إلى معالجة حال أمّ توالى موت مواليدها بعد مولودها الأول
من أهم الطقوس الشعبية المرتبطة بـ "التنور الطيني"، التي تضفي عليه نسقاً من طبيعة الموروث الثقافي الشعبي غير المادي، طقسا: "الجلب"، و"شراء الإخوة".
يشير مصطلح "الجلب"، أو "التهبيبة"، إلى "طقس تمارسه النساء في المناطق الوسطى من اليمن، بهدف التواصل مع الشخص المسافر أو المغترب من أفراد الأسرة، وحثّه على العودة إلى أهله"[2]. وتتمثّل ممارسة هذا الطقس، في أن تقوم المرأة الراغبة في عودة غائبها بإشعال تنورها الطيني، ثم "يقوم شخصان بالصعود إلى فتحة التهوية الخاصة بالموقد (الكنّة أو السجّارة) ويستجيبان لنداء الأم، نيابة عن الشخص الغائب المستهدف بالطقس، وتتوجّه الأم إلى الفتحة أسفل الموقد، فتحرق عود البلس [3]، وتنادي بصوت مسموع "وااا عويد البلس"، فيجيبها الذي على السّطح "هااااو"، فتعيد الأم المناداة "قل لفلان (اسم الغائب) غلس". ويعاد هذا النداء مراراً وتكراراً في اليوم نفسه من حين إلى آخر. وتعتقد مؤدية الطقس أن الغائب سيعود من غربته بعد ذلك" [4].
أمّا طقس "شراء الإخوة"، فيهدف إلى معالجة حال أمّ، توالى موت مواليدها، بعد مولودها الأول، الذي بقي وحده على قيد الحياة. وعلى هذا المولود، يكون التعويل في معالجة هذه الحال؛ إذ يضطلع "التنور الطيني" بوظيفة جديدة، لا حطب فيها ولا نار. فقط يوضع هذا الطفل فيه، ومن فتحة إشعال النار، يتم تزويده بسبع بيضات، وسبعة أقراص خبز، فيقطع بأسنانه جزءاً من كل قرص، وبمعية ذلك يردّد الجملة: "بعك عيالي واشتروك اخوتي" [5].
وبذلك؛ يتجلّى حضور "التنور الطيني" في الحياة اليمنية المعاصرة، بوظيفته، ومكانته الأثيرة في الثقافة الشعبية، ولا سيما المادية منها، التي تنطوي على نسق من الإحالة على سياقات من الثقافة الشعبية غير المادية.
[1] تتعدد أسماء "التنور الطيني" في اليمن، وتختلف من منطقة إلى أخرى، منها: "الموقد"، و"الطّبون"، و"المأفي"، و"الموفى".
[2] محمد علي عطبوش، "طقس النوم في المعبد لاستجلاب الوحي ــ الحالومة في اليمن القديم". مركز عدن للدراسات التاريخية.
[3] تصطلح المحكية اليمنية على أشجار التين وثمره باسم "البلس". ينظر: مطهر الإرياني، "المعجم اليمني(أ) في اللغة والتراث، حول مفردات خاصة من اللهجات اليمنية"، دار الفكر، ط1، دمشق، 1996م، ص77.
[4] محمد علي عطبوش، "طقس النوم في المعبد لاستجلاب الوحي ــ الحالومة في اليمن القديم". مرجع سابق.
[5] في عدد من المناطق اليمنية، تستخدم المحكية الكاف محلّ تاء الفاعل، كما يحلّ الواو محل الياء، فالقول: "بعك"، و"اشتروك"، يعني: "بعت"، و"اشتريت".