"الضوء": هل يستطيع الرجل الأبيض أن يحكي كل شيء؟

خضعت "فرح" لنمط المُضحّي المثالي بامتياز، فانحصر وجودها الكامل من أجل الآخر، متمثلاً في العائلة الألمانية.

يعرف المخرج والكاتب الألماني، توم تيكفر، بالمواد السينمائية الضخمة. يظهر ذلك في أفلامه الطويلة Cloud Atlas" (2012) و "A Hologram For the King" (2016)، لكن تيكفر وبعد غياب سنوات عدّة عن السينما بسبب عمله على المسلسل الدرامي Babylon Berlin"(2017)، عاد إلى السينما ثانيةً بفيلم "The Light" (2025)، الذي افتتح الدورة الأخيرة من "مهرجان برلين السينمائي الدولي"، بمدّة عرض طويلة تصل إلى 160 دقيقة. 

ويأتي فيلم "الضوء" كارتجال طويل، يعكس حالة من العذاب لمشكلة ألمانية خالصة. إذ إن المجتمع الألماني منذ الحرب العالمية الثانية واجه صعوبة في التعامل مع سؤال ما يجب فعله تجاه ماضيه، وترتب على ذلك توتّر جيلي متتابع بين ما يحدث داخل المجتمع، وبين الصورة السياسية المُنمّقة والتطهرية التي يعكسها عند كل حدثٍ سياسي عام، كأنه يريد دائماً أن ينزع عنه تهمةٍ ما، غير أن مشكلة التعددية الثقافية واندماج المهاجرين داخل المجتمع الألماني، يعكسان انفصالاً في هذا السياق، بين الشعار السياسي والحياة الداخلية. 

يتتبّع تيكفر هذه المفارقة بتقديم عائلة حديثة مُفككة ومُلقاة في خضم سوق العمل الحديث وإيقاع الحياة اللاهث، فنرى الوالد "تيم" (لارس إيدينغر)، يساري مُفعم بالثورية، لكنه يكتب نصوصاً إعلانية لعلامات تجارية تدّعي الاهتمام بالبيئة، ورغم أن تيم مُنغمس في مجتمع نظامي وحديث، فإن روحه الانهزامية والبوهيمية تدفعه إلى التعري فور وجوده وحيداً في مكتبه المتواضع والعشوائي. 

على الناحية الأخرى، تعمل الزوجة "ميلينا" (نيكوليت كريبتز) في مشروع تأسيس مسرح مجتمعي في أفريقيا، بتمويل مُهدد بالتوقف من الحكومة الألمانية. 

ابنا هذين الوالدين مراهقان على مستوى التفكك نفسه، لكنهما يعكسان حالة جيلية مُختلفة عن الوالدين، الابنة "فريدا" (إلكه بيسندورفر) ناشطة بيئية أجهضت حملها مؤخراً، و"يون" (جوليوس غاوزه) منطوٍ في غرفته بسبب هوسه بألعاب الواقع الافتراضي، كلاهما تعيس ومُفرّغ روحياً مثل الوالدين، لكن لكل منهما همومه وعالمه الخاص إلى درجة أن العائلة تبدو "معطوبة"، فلا نجد أي رابط اجتماعي أو إنساني يجمعهم في الفيلم. 

هذه العائلة الحديثة بامتياز، كما يتضح من وظائفها وسياقات حياتها، و"الألمانية تماماً" كما يحاول الفيلم أن يضعها نموذجاً لعموم الطبقى الوسطى في ألمانيا، تمثّل الحياة المُفككة في القرن الــ 21، الذي يعيش المجتمع الأوروبي الحديث فيه تحت طائلة الانهيار الروحي وفقدان القدرة على الإصلاح. عند هذا الحد، يتباطأ الفيلم بتوفيق شديد في عكس المُفارقة الجيلية، بين آباء مرهقين بالفشل الكامل والانفصال بين قناعاتهم السياسية وحياتهم المهنية الواقعة تحت قهر الحاجة المادية واستهلاك السوق، وبين أبناء فاقدين للحس، منفصلين تماماً عن العالم، تعوزهم الحيوية وضرورة الاندماج.

**

يقذفُ تيكفر في ركود فيلمه حجارة تُحرك سكون العائلة وتفككها، حينما تسقط الخادمة ميّتة في المطبخ، في إطار لحظة غريبة ومربكة يعكسها الفيلم بعادية مُثيرة، لتشير بأن الموت نفسه لا يُمكنه أن يحرك ساكناً في حياة هذه العائلة وغياب معنى الحياة. 

هكذا تظهر اللاجئة السورية "فرح" (تالا الدين) لتعمل خادمة لدى العائلة، وتعرفهم على علاج تجريبي للاكتئاب يقوم على النظر إلى ضوء نابض ومتوهّج يساعد الجسم على إفرازات هرمونية تحدّ من الكآبة، ومع مرور الوقت تبدأ العائلة في الانجذاب إلى حضور فرح الحيوي في حياتهم، كأنها بمنزلة وسيط روحي يُعيد إلى العائلة شيئاً من انسجامها. 

حتى هذه المرحلة، التي لا تمثل كثيراً من مدة الفيلم الطويلة، بدت مُقدمة الفيلم مُبشّرة بشكل كبير، لأنها وضعت أساساً سردياً متيناً لعالم الفيلم وعكست فرديته وطابعه المعاصر بامتياز، لكن دخول "فرح" إلى نسيج العائلة نقل الفيلم إلى مساحة مختلفة، وقعت في فخ نمط رؤية الرجل الأبيض للمهاجرين وموقعهم التطهري داخل المجتمع الألماني. 

بدت فرح داخل نسيج الفيلم مادة محترقة ومعدومة الأساس الدرامي لصالح العائلة الألمانية، التي يجب عليها، بشكلٍ أو بآخر، أن تستعيد شيئاً من حسّها الإنساني وتدرك دروساً إنسانية جديدة حول وجودها في الحياة المعاصرة. 

يقدّم الفيلم في هذا السياق ما يشبه نسيجاً طويلاً، مملاً، غريب الأطوار وغير مترابط، وتحديداً حينما أقحمت شخصية "فرح" لتبدو بمنزلة مُنقذ مثالي للفيلم، ورغم أن الممثلة "تالا الدين" قدّمت دوراً مدهشاً، رُبما يكون هو الأفضل في الفيلم، لكن وجودها داخل العائلة اختُزل في نمط "الزنجي السحري- magical negro"، وهو نمط ظهر في السينما الأميركية وتمثّل في الشخصيات السوداء التي اعتدنا رؤيتها في الأفلام، من دون أي وظيفة سوى إصلاح حياة العائلة البيضاء. 

***

وفّر لنا الفيلم، خلال أكثر من ساعتي عرض، شخصية "فرح" مفعمة بصفات تطهرية، تواجه الآخرين بلا أحكام أو إدانة، لكن الجانب المُستقل من حياة فرح ظل مُجهّلاً، يغذّي الفيلم بمزيد من الأسئلة التي لم يُجب عنها. إذ إن هذه الشخصية ظلت مندفعة لصالح العائلة، ونشاطها الإيجابي داخل الفيلم، أو ماهية وجودها، مرتبطٌ فقط بما تقدمه من تطوّر روحي يُعيد إنتاج معانٍ خلّاقة في علاقة العائلة ببعضها من جديد. 

خضعت "فرح" لنمط المُضحّي المثالي بامتياز، فانحصر وجودها الكامل من أجل الآخر، متمثلاً في العائلة الألمانية. كما امتلكت قدرة سحرية أو حكمية خارقة، متمثلاً في العلاج بالضوء، الذي جرّبته فردياً مع أفراد العائلة حتى وصلت إلى ذروة الفيلم بجلسة جمعتهم. لكن سؤال الوجود المستقل لدى فرح ظل عالقاً، فلم يقدمها الفيلم باعتبارها وجوداً ذاتيًا يمكنه إنتاج معنى إنساني يدخل ضمن نواة الفيلم، وبدلاً من ذلك ظلّت بمنزلة المُعادل الدرامي للبطل المساعد، الذي ينحصر دوره إجمالاً في مدى قدرة البطل الأساسي على استعادة توازنه. 

بقي الفيلم عالقاً في إقصاء "فرح" عن الحضور المستقل، وانتهى بجلسة العلاج بالضوء الجماعية التي وضعت مفارقةً بين تفاهة مشكلات العالم الأول، حينما وُضعت بالمقارنة مع المعاناة الطويلة التي خاضتها المُهاجرة السورية. لم يدفع هذا المشهد النهائي فخ التنميط الذي وُضعت فيه حياة "فرح"، لأنه جاء في سياق مركزية مشكلة العائلة، حتى في إطار التعبير عن تفاهة هذه المشكلات حينما تُقارن بغيرها. 

رُبما يكون فيلم تيكفر مُحاولة موفّقة لإعادة النظر في حياة المهاجرين داخل المجتمع الألماني، والتأمل في ضرورة التعددية الثقافية وعبور حاجز الهوية، إلا أن الفيلم وقع في فخّ ما ينقده حينما تبنّى جزءاً من خطاب ما يهاجمه، فضلاً عن الكثافة الأسلوبية التي امتلأت به وأظهرته مُحاولاً قول كل شيء، بداية من مشاهد الرقص الاستعراضي والأغاني ومشاهد والرسوم المتحركة وكلها عناصر وأنماط مختلفة من السرد، لكن وظيفتها الأساسية فُقدت، وهي الاندماج ضمن نسيج فيلم وتماسك حكائي متناغم. 

على المستوى التقني، عكست كاميرا مدير التصوير، كريستيان ألمسبرغر، انسيابية جيّدة، فقدت قدرتها على ضبط الإيقاع الفيلمي بسبب طول مدة عرضه، لكن موسيقى جوني كليمك عوّضت شيئاً من هذا الخلل بحضورها المتغير حسب تعدد الأمزجة السردية في الفيلم. 

اخترنا لك