"العشاق" ترصد كيف أصبحت المقاومة الفلسطينية نموذجاً عالمياً؟

رواية "العشاق" رواية محكمة في بنائها الفني، فهي رواية (بولفونية) تقوم على بنية (تعدد الأصوات)، وكشف مضمرات النص، ورصد العادات التي تغيرت مع تغير الحال المكانية، حين غدت الخيام بيوتاً بديلة للفلسطينيين.

  • رواية
    رواية "عشاق" لرشاد أبو شاور

أشاهد هذه الصور الموجعة، الآتية من مخيمات غزة والضفة الفلسطينية المحتلة؛ وكلها صور دامية وعنصرية وموحشة يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، ولا غاية لها سوى تدمير المخيمات الفلسطينية ومحوها لأنها جذر أساسي للنكبة الفلسطينية، وعلامة راشدة على صبر اللاجئين الفلسطينيين وصلابتهم في مواجهة كل الظروف الصعبة والقاسية.. الصور الآتية من مخيمات غزة، بعد أن غدت غزة كلها، في المعنى الجغرافي، من بيت لاهيا في الشمال إلى رفح في الجنوب، مخيماً واحداً يمتد على مسافة 365 كم2 بعد أن دمّر الاحتلال الإسرائيلي القرى والبلدات والمدن والمخيمات الغزية طوال 15 شهراً، وهجّر الناس وجال بهم من مكان إلى آخر، وطاردهم في الطرق والدروب وأمعن فيهم قتلاً وتشريداً، ولم يحسب حساباً لأي بعد قانوني أو أخلاقي لأنه 

أمن العقاب كونه يمشي في ظلال العنجهية الأميركية، ويستند إلى قوتها، ولاسيما بعد أن جهرت السياسات الأميركية بمحاسبة محكمة الجنايات الدولية وبإدانتها، لأنها طالبت بتسليم رموز الكيان الإسرائيلي إلى العدالة، وملاحقتهم كي يَمْثُلوا أمام المحاكم الدولية لأنهم اقترفوا جرائم حرب، وجرائم إبادة، وجرائم تطهير عرقي، بالأسلحة الأميركية والأوروبية، الأمر الذي أدى إلى تهجير (2.4) مليون فلسطيني من بيوتهم، وقتل أكثر من (60.000) فلسطيني من النساء والأطفال والشيوخ، وجرح أكثر من (110.000) فلسطيني، معظمهم  من أصحاب الإعاقات الدائمة، عدا عن تدمير كل شيء في قطاع غزة، من المدرسة إلى المستشفى، ومن البيت إلى الحقل إلى المصنع إلى الميناء.. الآن، تلتهمني صور المخيمات الفلسطينية في غزة والضفة الفلسطينية، التي تدمَّر بيوتها وتحرق، والتي تتهاوى خيامها وتطير بسبب الرياح الشديدة والأمطار الغزيرة، فيتراكض الناس بصغارهم إلى البيوت المدمرة والمعطوبة لعلهم يجدون مكاناً ملاذاً يقيهم البرد والمطر، والرياح الهوج. ولأنّ هذه الصور عرفها الفلسطينيون منذ عام 1948 وعايشوها، ووعوا ما فيها من إذلال للروح الإنسانية، والإهانة لهم، وهم أهل الأرض والعمران، فإن كتاباتهم، ولوحاتهم، وأغانيهم جعلت المخيم أيقونة نضال، ولاسيما بعد أن غدا هذا المكان الطارئ الموحش مصنعاً يخرّج الأطباء، والمهندسين، والمعلمين، والقادة الفدائيين، وحالاً اجتماعية تتحدث عن الماضي والراهن والمستقبل، حديث الفكر المؤمن بالعقيدة، والوطنية، والقيم الإنسانية النبيلة، والروح المتجذرة في أعماق التاريخ الذي جدلته ثقافتان عزيزتان هما: ثقافة العمران، وثقافة العقيدة. من هذه الكتابات الإبداعية التي جعلت المخيم معنى للسمو والنضال والصبر والمقاومة، وإن كان مكاناً طارئاً وبديلاً موقتاً، رواية الكاتب الفلسطيني المعروف رشاد أبو شاور (العشاق) التي طُبعت مرات، وأرخت تأسيس المخيمات الفلسطينية مكاناً، وحالاً لعيش آخر  فرضته النكبة الفلسطينية في الضفة الفلسطينية المحتلة، مثلما أرّخت الحياة الاجتماعية الفلسطينية الطارئة في مخيمات ثلاثة، هي (مخيم عين السلطان)، و(مخيم النواعمة)، و(مخيم عقبة جبر)، وكلها تقع في الجوار من مدينة أريحا ونهر الأردن وأشجار النخيل، وحقول الخضروات، والبيارات، وبرك المياه الشتوية، وآبار الماء، وآثار أريحا الكثيرة، ومنها قصر هشام! 

إقرأ أيضاً: كيف يسخر أطفال فلسطين من جنود الاحتلال؟

     رواية العشاق لرشاد أبو شاور رواية محكمة في بنائها الفني، فهي رواية (بولفونية) تقوم على بنية (تعدد الأصوات)، وكشف مضمرات النص، ورصد العادات التي تغيرت مع تغير الحال المكانية، حين غدت الخيام بيوتاً بديلة للفلسطينيين من بيوت الحجارة والإسمنت والحديد، وطرائق تعاملهم مع الخيام التي لا تقيهم برد الشتاء، ولا غضبة الرياح، ولا غزارة الأمطار، كما لا تقيهم حرارة الشمس اللاهبة في الصيف. وهي رواية جعلت كل الكلام، والحوارات، والأمنيات تدور حول خلاص الناس من آثار التهجير والطرد والتشريد من مكان إلى آخر، ومن مخيم إلى آخر. المخيمات الثلاثة، التي جعلتها رواية (العشاق) فضاء مكانياً، هي (عقبة جبر)، (وعين السلطان)، (والنويعمة)، وفيها آلاف الفلسطينيين الذي طُردوا وهجّروا وشردوا من مدينة الخليل، ونابلس، وجنين، وبيت لحم، بقوة السلاح الإسرائيلي. إنهم أبناء القرى والضواحي، والذين زرعوا الأرض، وربوا المواشي والحيوانات، وشقوا السواقي، والقنوات، وبنوا السدود والجسور والقناطر، ومدّوا البيارات أشجاراً للبرتقال، والبوملي، والليمون، لقد طردهم المحتل الإسرائيلي من قراهم وبيوتهم وأراضيهم، فأقاموا المخيمات الثلاثة كمكان طارئ وبديل موقت ريثما يعودون إلى بيوتهم.

   رواية (العشاق) لرشاد أبو شاور، تبدي وجوه الحياة الصعبة والموحشة للفلسطينيين داخل مخيمات أريحا، وترصد شكاوى الناس من قلة الحيلة، وضيق ذات اليد، وتعدد الموحشات الطارئة مثل الأمطار الغزيرة، والغبار الثقيل، والرياح العنيفة، والبعوض المحوم مثل الطيور، والملاريا القاتلة، واجتياح مياه النهر للخيام من جهة، وقبول الخيام الواهنة بيوتاً ، ومدارس، ومراكز طبية بسيطة من جهة أخرى ، كما ترصد المغايرات الغريبة التي عمت عادات الناس وأحوالهم، فجعلتهم يقبلون حالات الشح، والفقر، والعوز، وقلة الحيلة، وخروج الصغار والكبار، والنساء والرجال.. إلى المزارع والمصانع، في مدينة أريحا، للعمل من أجل إدامة الحياة، وسد المتطلبات اليومية. كما أنها رواية ترصد الحالات الجنينية لتنظيمات المقاومة الفلسطينية، والمناداة والجوهر بالمقاومة، وتأسيس اللبنات الأولى للنضال الفلسطيني المسلح، ولذلك تمضي أحداث رواية (العشاق) في مسربين إثنين هما: حياة الناس الاجتماعية، وهي حياة مقاومة لقهر الفقر، والظروف الصعبة التي عاشها الناس. والمسرب الثاني هو وضع المداميك الأولى المؤسسة لثقافة المقاومة، وبناء الوعي القائم على المقاومة كسبيل وحيد لاستعادة ما أخذه المحتل الإسرائيلي بالقوة، وما نتج منه من تهجير وتشريد وطرد، وهم يرددون نشيد الفلسطينيين الخالد: عائدون، عائدون.

   رواية (العشاق) لرشاد أبو شاور لا تقف عند برهة زمنية أو آنية عاشها الفلسطينيون، حين واجهت عقبات الحياة وآثارها الجديدة في المخيمات الفلسطينية التي أُنشئت على عجل كمأوى للاجئين، وإنما تقف عند الحياة الكلية التي اتسعت في المخيمات الفلسطينية، من بناء الحياة والوعي، إلى بناء المقاومة الحافظة للكبرياء والكرامة، كما وقفت الرواية عند أطوارها المتعددة، والتي شملت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، فالخيام غدت بيوتاً بالمعنى الاجتماعي، صحيح أنها من الطين الجاف الممزوج بالتبن، والمسقوفة بالأخشاب وسعف النخيل، لكنها بيوت لها حيطان، ونوافذ، وأبواب، وسقوف، وأسطحة. والأهم هو أن الأحلام والغايات تجول فيها، وقوة العمل وثقافته حولتا الناس إلى زراع للأرض، وعمال في المصانع. لقد جعل الفلسطينيون المخيمات صورة للقرى والمدن التي كانوا يعيشون فيها، مثل القدس وبيت لحم، ونابلس، والخليل... والأهم هو أن شريحة من المجتمع الفلسطيني غدا ممثلوها فدائيين يتدربون على السلاح، وينادون بالتحرير لمحو صفات: اللاجئ، والمشرد، والمهجر، والمطرود. وتقف الرواية عند ثيمة التطوير والابتكار والتنوع، فغدت  المدرسة الواحدة في المخيم مدارس، وغدا المستوصف الصغير مستشفىً كبيراً، وغدا المعيل الوحيد في الأسرة الواحدة مجموعة من المعيلين، لأن الجميع في الأسرة الواحدة، بعد أن حازوا الشهادات، خرجوا للعمل. و انتهت برك الماء الآسن، وقُتلت أسراب البعوض وتوارت واختفت، لأنّ الناس جففوا برك الماء، وردموها بالتراب الصالح للزراعة. والدروب الموحلة غدت طرقاً مسفلتة. قالت رواية (العشاق) إنّ أهل ثقافة العمران في قراهم ومدنهم وقراهم ومصانعهم، جسدوها عياناً وواقعاً في المخيمات البديلة، وأهل الكبرياء والكرامة والوطنية جعلوها نهجاً وثقافة للمقاومة التي مشوا في دربها المكين فعمروا الأرض واستنبتوها زرعاً وشجراً، حتى لو كانت طارئة وموقتة وموحشة، ومشوا في طريق المقاومة، الطريق الوحيد الذي يصل بهم إلى حلمهم، ومناداتهم الجهيرة: بلادي، بلادي.

إقرأ أيضاً: الأسير ناصر أبو سرور ينتصر على جدار السجن

  العشاق لرشاد أبو شاور رواية تواقف مرحلة جديدة، طارئة، ومفاجئة، مرت فيها الحياة الفلسطينية لأنها جزء من تاريخهم، وتماشيها لترى خطها البياني الصاعد من حياة مرذولة هجينة، إلى حياة كريمة تنادي بالعمران، والعمل، والتطور العلمي، والمقاومة؛ أي الانتقال من عالم الخيام، التي ما كان في مقدور أحد أن يعلق عليها لافتة لمكتب هندسي، أو لافتة لعيادة طبيب، إلى عالم البيوت التي تحاكي البيوت التي عاشوا فيها قبل نكبة عام 1948، وإلى عالم الشوارع والطرق، بعد أن كان عالماً للأزقة الضيقة، تحاكي الشوارع والطرق التي عرفوها في قراهم ومدنهم وبلداتهم قبل عام 1948 أيضاً.

   (العشاق) رواية ترصد ارتقاء الفلسطيني من حال موجعة طافحة بمراراتها وعذاباتها، في وقت تأسيس المخيمات، إلى حال نضالية مقاومة صارت مثالاً عالمياً يحتذى، وجهة للكرامة، والرقي الحضاري، بعد أن تنامت ثقافة الوعي، وحضرت معاني التاريخ بعد أن أعلت من شأنها المدارس، واتقدت الذاكرة الفلسطينية، وهي تبدي سهر أهلها، وحرصهم على الأرض، واللغة، والعقيدة، والأعراف، وتجذرهم الوطني في المكان، حتى لو كان مسماه المخيم.

   رواية (العشاق) لرشاد أبو شاور واحدة من أهم روايات السرد الفلسطيني والعربي، فهي من بين أهم 100 رواية عربية في القرن العشرين، في موضوعها وبنيتها الفنية، وفي أسلوبها السردي الماتع الذي وظف التاريخ والأمكنة والتراث الشعبي الفلسطيني، من أجل أن تقول: ها هم الذين يمثلون طائر العنقاء الذي ينهض من بين الحرائق والرماد، وها هم الذين يمثلون الواقع الفلسطيني بكل ما أصابه من ندوب وعطوب ومتغيرات، وها هم أهل المستقبل والحالمون به، بكل ما فيه من بهجة وأنوار.