"الفجوة"بين الشمال الغني والجنوب الفقير

مع بدء الاستعمار الأوروبي، تغيّرت الأمور بشكل جذري. فالاستعمار لم يكن مجرّد احتلال عسكري، بل كان نظاماً اقتصادياً استخرج الموارد من المستعمرات لصالح الدول الأوروبية.

  • كتاب:
    كتاب: "الفجوة" للكاتب جيسون هِيكل

كتاب الفجوة "The Divide" للكاتب جيسون هِيكل هو عمل نقديّ عميق يتناول قضية عدم المساواة العالمية بين دول الشمال الغني ودول الجنوب الفقير. يطرح هِيكل سؤالاً مركزياً: لماذا توجد فجوة كبيرة بين الدول الغنية والفقيرة؟ ويجادل بأنّ الفقر ليس ظاهرةً طبيعيةً أو حتمية، بل هو نتاج لنظام اقتصادي عالمي غير عادل، تمّ بناؤه عبر قرون من الاستعمار والاستغلال.

الكتاب ينقسم إلى أربعة أجزاء رئيسية، يتناول كلٌ منها جانباً من جوانب هذه الفجوة، بدءاً من تاريخ نشأتها وصولاً إلى الحلول الممكنة لإغلاقها.

الجزء الأول: الفجوة  (The Divide)

وهم التنمية 

يبدأ هِيكل بمناقشة مفهوم "التنمية" الذي تمّ الترويج له منذ خطاب الرئيس الأميركي هاري ترومان في عام 1949، حيث أعلن ترومان أنّ على الدول الغنية مساعدة الدول الفقيرة للخروج من الفقر. لكنّ هِيكل يرى أنّ هذه الفكرة تعتمد على وهمٍ كبير: أنّ الفقر هو حالةٌ طبيعيةٌ يمكن حلّها من خلال المساعدات والتكنولوجيا.

في الواقع، الفقر ليس مجرّد نقصٍ في الموارد، بل هو نتاج لنظامٍ اقتصادي عالمي يعيد توزيع الثروة من الجنوب إلى الشمال. هِيكل يشير إلى أنّ المساعدات الخارجية غالباً ما تكون مجرّد أداةٍ لإخفاء عمليات استخراج الثروة من الدول الفقيرة، مثل الديون، التجارة غير العادلة، والتهرّب الضريبي.

نهاية الفقر... تمّ تأجيلها 

هِيكل يناقش كيف أنّ الأهداف الإنمائية للألفية (MDGs)  التي أطلقتها الأمم المتحدة في عام 2000 كانت تهدف إلى تقليل الفقر العالمي، لكنها فشلت في تحقيق أهدافها الحقيقية. يشير إلى أنّ الإحصائيات الرسمية غالباً ما تكون مضلّلة، حيث يتمّ تغيير تعريف الفقر أو تعديل خطّ الفقر لتظهر الأرقام وكأنّ الفقر في انخفاض، بينما الواقع يشير إلى أنّ الفجوة بين الأغنياء والفقراء تتسع.

الجزء الثاني: عن العنف  

من أين أتى الفقر؟ قصّة الخلق  

هِيكل يعود بالتاريخ إلى القرن الخامس عشر، عندما كانت مستويات المعيشة في أوروبا مماثلة لتلك التي في آسيا وأفريقيا. لكن مع بدء الاستعمار الأوروبي، تغيّرت الأمور بشكل جذري. الاستعمار لم يكن مجرّد احتلال عسكري، بل كان نظاماً اقتصادياً استخرج الموارد من المستعمرات لصالح الدول الأوروبية.

على سبيل المثال، الفضة والذهب التي تمّ استخراجها من أميركا اللاتينية ساعدت في تمويل الثورة الصناعية في أوروبا. كما أنّ تجارة العبيد من أفريقيا واستغلال الموارد في آسيا وأفريقيا ساهما في بناء ثروة أوروبا على حساب تدمير اقتصادات هذه المناطق.

من الاستعمار إلى الانقلابات  

بعد انتهاء الاستعمار المباشر في منتصف القرن العشرين، استمرت الدول الغربية في السيطرة على دول الجنوب من خلال الانقلابات العسكرية والسياسات الاقتصادية المفروضة عبر صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هِيكل يقدّم أمثلةً عديدةً على ذلك، مثل الانقلاب على محمد مصدق في إيران عام 1953 بسبب محاولته تأميم النفط، والانقلاب على جاكوبو أربينز في غواتيمالا عام 1954 بسبب إصلاحاته الزراعية.

الجزء الثالث: الاستعمار الجديد

 الدَّين واقتصاديات البؤس المخطط  

هِيكل يناقش كيف أنّ الدَّيْن الخارجي أصبح أداةً جديدةً للسيطرة على الدول الفقيرة. بعد الاستقلال، تمّ إغراق العديد من دول الجنوب بالديون، ممّا أجبرها على تنفيذ برامج التكيّف الهِيكلي التي فرضتها المؤسسات المالية الدولية. هذه البرامج شملت خصخصة الخدمات العامّة، وخفض الإنفاق الاجتماعي، وفتح الأسواق أمام الشركات الأجنبية. النتيجة كانت زيادة الفقر وتراجع الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة.

التجارة الحرّة وصعود مجلس الشيوخ الافتراضي

هِيكل ينتقد اتفاقيات التجارة الحرّة التي تفرضها الدول الغنية على الدول الفقيرة. هذه الاتفاقيات غالباً ما تكون غير عادلة، حيث تسمح للدول الغنية بحماية صناعاتها بينما تفتح أسواق الدول الفقيرة أمام المنافسة الأجنبية. هذا يؤدّي إلى تدمير الصناعات المحلية وزيادة الاعتماد على الواردات.

النهب في القرن الحادي والعشرين 

يشير هِيكل إلى أنّ استغلال دول الجنوب لم يتوقّف، بل تحوّل إلى أشكالٍ جديدة. على سبيل المثال، الشركات متعدّدة الجنسيات تستفيد من العمالة الرخيصة في الدول الفقيرة، بينما تتهرّب من دفع الضرائب. كما أنّ تغيّر المناخ، الذي تسبّبت فيه الدول الغنية بشكل رئيسي، يضرب الدول الفقيرة بأشدّ الطرق، ممّا يزيد من معاناتها.

الجزء الرابع: إغلاق الفجوة 

من الإحسان إلى العدالة

يجادل هِيكل بأنّ المساعدات الخيرية ليست الحلّ لمشكلة الفقر. بدلاً من ذلك، يجب أن ننظر إلى الفقر كقضية عدالة عالمية. هذا يعني معالجة الأسباب الجذرية للفقر، مثل الديون، التجارة غير العادلة، والاستغلال الاقتصادي.

 الخيال الضروري 

في الفصل الأخير، يدعو هِيكل إلى ثورة في طريقة تفكيرنا حول الاقتصاد العالمي. بدلاً من التركيز على النمو الاقتصادي كهدفٍ رئيسي، يجب أن نركّز على التوزيع العادل للثروة وحماية البيئة. يقترح هِيكل أن نعيد النظر في مفاهيم مثل الناتج المحلي الإجمالي (GDP) ونتبنّى مقاييس جديدة تعكس الرفاهية الحقيقية للناس.

الخاتمة

كتاب "The Divide" هو دعوةٌ قويةٌ لإعادة التفكير في كيفية تنظيم الاقتصاد العالمي. جيسون هِيكل يقدّم تحليلًا شاملاً لتاريخ الفقر وعدم المساواة، ويوضح كيف أنّ النظام الحالي مصمّمٌ لصالح الأغنياء على حساب الفقراء. الحلّ، كما يرى هِيكل، ليس في المزيد من المساعدات أو النمو الاقتصادي، بل في إعادة توزيع الثروة وإصلاح النظام الاقتصادي العالمي ليكون أكثر عدلاً وإنصافاً.

هذا الكتاب ليس مجرّد تحليلٍ أكاديمي، بل هو أيضاً نداء للعمل، يدعو القرّاء إلى التفكير بشكل نقديّ في العالم من حولهم والسعي نحو تغيير حقيقيّ.

اخترنا لك