"جمالهنّ كأي جمال أوروبي"... ماركوف غارقاً في جمال بيروت

في عام 1890، قام الكاتب والإثنوغرافي الروسي، يفغيني ماركوف، برحلة إلى بيروت التي أدهشته. ماذا قال عنها؟

بدأ الكاتب والإثنوغرافي الروسي المتخصص في تاريخ القرم، يفغيني لفوفيتش ماركوف (1835-1903) نشاطه الأدبي خلال إحدى رحلاته سنة 1858، بقصة "أوشان - مقتطف من ذكريات الطفولة"، التي نشرت في مجلة "الرسول الروسي". 

ينتمي ماركوف إلى عائلة نبيلة مقربة من البلاط القيصري، تخرج من "جامعة خاركوف الإمبراطورية" (الآن في أوكرانيا)، وفي ستينيات القرن الــ 19 نشر مقالات تربوية ونقدية، قبل أن يشرع في نشر قراءات نقدية في أعمال الكتّاب المعاصرين، ومنها مقال بعنوان "الأنواع الشعبية في أدبنا"، حيث تناول بتقدير عال قصة الأديب الروسي، ليف نيقولايفيتش تولستوي (1828-1910) "القوزاق". 

كما لفتت إحدى مقالاته عن مدرسة تولستوي في بلدة ياسنيا بوليانا، انتباه وزارة التعليم العام فعرضت عليه منصباً في الهيئة التعليمية. تولى ماركوف الإدارة العامة لمدارس مقاطعة تاوريدا (كانت تضم القرم وجوارها) سنة 1865، إلا أنه أجبر على الاستقالة بعد 5 سنوات بسبب خلاف مع سياسة وزارة التعليم. عمل مدير فرع في "بنك أراضي النبلاء والفلاحين" وكان كثير السفر إلى جميع أنحاء أوروبا والشرق.

تابع ماركوف نشاطه الأدبي وتلقى القراء مقالاته بتقدير كبير، خاصة تلك التي وصف فيها انطباعاته عن رحلاته في روسيا، وآسيا الوسطى والقوقاز، وإيطاليا وتركيا واليونان والأرخبيل، ومصر وفلسطين. كما ترك ماركوف عشرات الكتب والبحوث، أما كتاب رحلته إلى بلادنا فصدر في 515 صفحة عن "دار ستانوسلوفيتش" في العاصمة سان بطرسبورغ سنة 1891، وحمل عنوان "رحلة إلى الأماكن المقدسة: القدس وفلسطين، نابلس، الجليل، وضفاف آسيا الصغرى". 

وصل ماركوف من حيفا إلى بيروت في النصف الأول من أيار/مايو 1890، وكانت رحلته إلى بلادنا مرهقة على حد وصفه، ويعود ذلك إلى سببين، وهما مرض زوجته فجأة والتزامه بجدول مواعيد ضيّق، يقول: "كانت زوجتي تشعر بوعكة صحية شديدة فوق السرج وكانت بحاجة إلى التوقف والراحة أكثر من أي منا، ولكنها كانت أكثرنا إصراراً على الركوب من دون توقف حتى وصلنا... كانت تعلم أنها ستصاب بمرض خطير لكن فكرة احتجازها لمدة طويلة هنا أخافتها أكثر من أي شيء آخر. علاوة على ذلك، فإن قضاء الليل للاستراحة من شأنه أن يدمر مسارنا بالكامل، وهو مسار محسوب بالساعة والدقيقة، وإلا سيكون علينا أن ننتظر أسبوعين آخرين حتى تصل الباخرة إلى حيفا، وذلك مستحيل بالنسبة إلينا لأسباب عديدة". 

في ميناء بيروت

  • صورة لجانب من ميناء بيروت عام 1857
    صورة لجانب من ميناء بيروت عام 1857

وصل ماركوف إلى بيروت على متن الباخرة النمساوية "لويد"، يقول: "كنت أتأرجح وأرتجف وأشعر بالغثيان طوال الليل، وفي الصباح قفزت، لقد توقفت السفينة لقد وصلنا بالفعل. أمامنا بيروت بكل روعتها في الصباح المشمس الرائع... بسرعة، إلى القوارب! أقلّتنا القوارب الصغيرة إلى مرسى ميناء بيروت، وكان علينا أن ننتظر مواطنينا. استمتعنا، أنا وزوجتي، أثناء جلوسنا على متن القارب، بمشاهدة السفح الجبلي الضخم المتدرج إلى بيروت، والتلال ذات القباب الفضية في لبنان العظيم، والتي كانت تطل علينا من 3 جهات.

أعترف أنه لم يكن لدي أي فكرة عن بيروت. أمامنا، على طول المنحدرات الواسعة الشديدة للساحل، مدينة أوروبية تتجه نحو البحر، يبلغ محيطها عدة أميال، مليئة بالمباني الجميلة، وتزخر بالتجارة، مثل مرسيليا أو جنوى، ولكنها غارقة في حدائق الجنوب الفاخرة... وبقدر ما تتمتع به مدن ساحل البحر الأبيض المتوسط ​​من جمال بشكل عام، فإن قِلة منها يمكن مقارنته مع الجمال في بيروت. ترتفع منازلها الحجرية البيض ذات الأسقف المسطحة من القرميد الأحمر في طبقات لا نهاية لها واحد فوق الآخر، وتندمج في الأعلى مع مشهد الحدائق الرائعة والمنازل الصيفية... 

لقد دمّر أسطولنا الظافر أسوار بيروت في عهد يكاترينا الثانية، وحاصر بجرأة كل سواحل الإمبراطورية التركية وأحرق أساطيلها، وكلّل نفسه بالمجد. هذا البرج الحارس، وهذه الجدران الضخمة، وأعلام الوكالات والقنصليات الملونة التي ترفرف فوق المباني، والمدرج الأبيض والأحمر للمدينة بمساجدها وأبراج الأجراس وجبال النخيل، وخضرة حدائقها ومنحدرات جبالها المهيبة... كلها تنعكس صورتها الآن على صفحة الخليج الأزرق الهادئ الذي يشبه المرآة. تتخلل المشهد قوارب لا حصر لعددها وزوارق بخارية وسفن بخارية تنطلق ذهاباً وإياباً...

من القارب كان علينا أن نصعد إلى الشاطئ عبر سلّم ضيق، هناك أوقفنا رجال الشرطة التركية وموظفو الجمارك. لديهم عادة غبية تتمثل في أخذ جوازات سفر المسافرين. لا يسمح الأوروبيون ذوو الخبرة، وخاصة الإنكليز والفرنسيين، بأن تمسّ جوازات سفرهم، بل يطلقون بعض العبارات الفظة ويندفعون خارجين من المرفأ. لكن الروسي المعتاد على الطاعة يذعن بكل تواضع لكل ما هو مطلوب. لذلك، تنازلت عن جواز سفري بغباء، ثم ندمت بشدة بعد ذلك. بالطبع، لم يفكر أحد في إعادته إليّ، وقد نسيت تماماً الذهاب للبحث عنه، لذلك انتهى بي الأمر لاحقاً كمتشرد بلا جواز سفر".

كأنك تمشي في إيطاليا أو جنوب فرنسا

  • ساحة المدفع (البرج) في تسعينيات القرن التاسع عشر
    ساحة المدفع (البرج) في تسعينيات القرن التاسع عشر

يقول ماركوف: "على الرغم من أن جميع الفنادق الرئيسة في بيروت تقع على شاطئ البحر، فإن مياه الصرف الصحي المتدفقة من المدينة بأكملها تصب هناك، وتفوح منها رائحة كريهة لدرجة أننا نصحنا باختيار فندق داخل المدينة... أثاثه بعيد كل البعد عن الفخامة، لكنه مريح. في الغرفة طاولة لائقة جداً وأسرة نظيفة تماماً، وهذا هو الهدف الأساسي. لكن المناظر من الشرفات ومن على السطح لا مثيل لها وتوفر متعة كبيرة...

أردنا أن نتعرف على المدينة بشكل أفضل، وفور تناول الغداء ذهبنا في نزهة... جذبنا شاطئ البحر الخلاب برؤوسه وخلجانه ومنحدراته وصخوره البارزة من الماء، فنزلنا إليه عبر مسارات شديدة الانحدار. وتحيط بشواطئ الخليج مناطق سباحة على منصات عالية مكشوفة بالكامل أمام عيون المارة. القسم العلوي من المدينة منظم ونظيف. شوارعه طويلة مليئة بالمنازل الأوروبية الكبيرة ذات الأقواس والنوافذ الفينيسية، مع الشرفات والتراسات وأحواض الزهور. الشوارع المعبدة جيداً والواسعة، كما هي الحال في كل مدينة لائقة في أوروبا، وفي هذه الشوارع حركة المرور لا تهدأ. العربات والحافلات الأوروبية، والمحال التجارية والمطاعم الأوروبية. لا شيء هنا يذكّر بتركيا، لا شيء على الإطلاق. يبدو لك أنك لا تمشي في سوريا، بل في إحدى المدن الساحلية في إيطاليا أو جنوب فرنسا".

في بيروت.. "النساء هنا رائعات الجمال"

  • غلاف كتاب يفغيني ماركوف
    غلاف كتاب يفغيني ماركوف

يتابع ماركوف: "لن تقابل، أيها القارئ، في أي مكان مثل هذا الحشد البهيّ من الرجال الوسيمين والنساء الجميلات كأهل بيروت. هؤلاء ليسوا أتراكاً ولا عرباً، على الرغم من أنهم قد يرتدون الملابس التركية ويتحدثون بالعربية. إنهم مزيج من الفينيقيين واليونانيين القدماء، سادة الساحل السابقين. هناك أعراق قليلة في العالم يمكن مقارنتها بالسوريين الساحليين، هؤلاء ورثة الفينيقيين في براعتهم بالتجارة والقدرة المذهلة على تعلم اللغات واكتساب العلوم. معظم سكان بيروت يتحدثون التركية والعربية واليونانية والإيطالية والفرنسية بطلاقة، ويتحدث بعضهم الإنكليزية والألمانية وحتى الروسية.

النساء هنا رائعات الجمال لا يشبهن النساء العربيات الجافات النحيلات. ملابسهن ولغتهن وعاداتهن الكثيرة مختلفة. النساء هنا قويات وممتلئات الأجسام، جمالهن مثل أي جمال أوروبي. ليس عبثاً أن ترانيم "نشيد الأنشاد" تحتوي على مقارنات وصور مأخوذة من لبنان. لا يمكن تصور إلهة الجمال المولودة من البحر إلا في أرض الحياة السعيدة هذه، وبالتأكيد ليست من الأعماق الرمادية الكئيبة للبحر الألماني أو بحر البلطيق.

تجولنا لمدة طويلة، مستغرقين في حياة أهل المدينة الصاخبة والمبهجة. يرتدون ملابس زاهية غنية بالألوان. ملابس تتسم باللياقة والكرامة، ولا يشبهون على الإطلاق القطعان الرمادية لسكان مدننا الكبرى الكادحين. هنا، على الرغم من أن معظم الناس فقراء، بيد أنهم يعدّون أنفسهم مؤهلين للاسترخاء والاستمتاع على قدم المساواة مع الأغنياء. الشمس والبحر، والفواكه اللذيذة، ودفء الهواء، وجمال الجبال، كلها ملك للجميع على قدم المساواة. لا أحد يحتاج إلى معاطف الفرو ولا إلى حطب التدفئة، فيما النبيذ والتبغ يساويان قرشاً واحداً هنا. هكذا يجلس بكل ثقة أفقر عامل يومي، بالكاد يكسب قوت يومه، على كرسي في مقهى ويطلب النارجيلة وفنجاناً من القهوة، ويتحدث ويجادل بصوت عالٍ، وينتقد بلا رحمة مع أصدقائه أغنياء المدينة وأعيانها المارين بهم.

عدنا إلى الفندق متأخرين، وعندها فقط لاحظت للمرة الأولى أنه لا توجد مدفأة في أي من الغرف. هنا، ليس لديهم أي فكرة عن تدفئة الغرف. إن الوعي بإمكانية العيش طوال حياتك من دون دخان أو حطب هو أعظم فرحة. على شواطئ هذا البحر الأزرق من المستحيل أن يتذكر المرء من دون حزن وطنه البعيد بأشهره السبعة من الثلوج والبرد، وبصقيعه الذي يُخرج المسامير من الخشب ويشقق الأرض إلى قطع، وبأفرانه التي تبتلع عربات محمّلة بالحطب يومياً، وبأبواب المنازل والنوافذ المزدوجة المغلقة بإحكام.

لم أكن أرغب في البقاء داخل الغرفة حتى في الليل، فخرجنا إلى السطح الواسع العالي، المحاط بسياج يظهره كبرج مراقبة. من هنا، يمكننا مشاهدة بيروت وكل ما يحيط بها من مسافة بعيدة، وكأننا فوق طائرة ورقية".

شاهد عيان.. صدق أو لا تصدق

  • يفغيني ماركوف
    يفغيني ماركوف

يقول ماركوف: "في اليوم التالي، ذهبت إلى وكيلنا في (الشركة الروسية للملاحة والنقل) للبحث عن أغراضي، والتي كان من المفترض أن تسبق وصولنا بمدة طويلة على متن إحدى السفن البخارية السريعة التي تصل من الإسكندرية مباشرة إلى بيروت، وذلك بينما كنا نقوم برحلتنا الطويلة عبر مصر وفلسطين ونابلس والجليل. كان الوكيل رجلاً لطيفاً للغاية، رحّب بنا ووجد صناديقنا على الفور. لسوء الحظ، مثل معظم قناصلنا ووكلائنا في الشرق، لم يكن الوكيل روسياً بل يونانياً لا يفقه من الروسية شيئاً، على الرغم من أنه خدم في الشركة 12 عاماً، ويبدو أنه لم يشعر بأي حاجة لتعلمها. والمفاجأة أنه متزوج أيضاً من امرأة من أصول روسية لكنها لا تعرف كلمة روسية واحدة، وهي مثله لم تسافر إلى روسيا أبداً.

سألت الوكيل عن أسباب النمو الاستثنائي الذي تشهده بيروت. فقال لي: "صدق أو لا تصدق، أعيش هنا منذ سنوات عديدة، ولكنني شخصياً لا أفهم هذا النمو الهائل الذي تشهده بيروت. يبدو لي أن الأمر لا سبب له على الإطلاق، وهو مسألة مبهمة. من طرابلس نستقبل خلال موسم التجارة بضائع أكثر بكثير من تلك التي تأتي من بيروت. في بيروت، بالمعنى الدقيق للكلمة لا توجد تجارة ولا صناعة. إنها في الأساس ميناء لدمشق، ولكن دمشق وحدها تنتج القليل جداً لتصديره. تراوح عدد سكان بيروت قبل 10 سنوات بين 15 و20 ألف نسمة، أما الآن فيزيد عددهم عن 100 ألف نسمة، والكثير من المنازل قيد الإنشاء، ويصل السكان الجدد بلا انقطاع. خلال 5 سنوات سيكون عددهم 150 ألفاً".

اخترنا لك