"جول جمال".. الجنّة ليست تحت أقدام كل الأمهات

ينتظر العرب موسم انتهاء حَبَل الدراما العربية في موسم شهر رمضان، ولمّا تلد الدراما العربية "أطفالها" تأتي النماذج "مسخاً" درامياً.

الأتراك بارعون في كتابة سيناريوهات شيّقة لمسلسلاتهم. صحيح أنهم يَحْشُون مسلسلاتهم بكثير من "مطّ" الأحداث. يمطّونها حتى تكاد تصير "مغيّطة"، تستطيع أن تشتدّ على أحاسيسك فتكاد تحسّ بها تنفجر، ثم ترتخي كما تفعل "المغيّطة"، أو حبّة من دواء مسكّن، فتهدأ مشاعرك وترتخي، وتتوالد الأحداث وحلقات جديدة للمسلسل، فيصير عدد حلقاته 100، وأحياناً يقفز فوق ذلك. 

لكنّ كتّاب السيناريو الأتراك دائماً يجذبونك بأفكار خلّاقة، تتمنّى معها أن يزيد عدد حلقات المسلسل حتى فوق المئتين، ولا تعود تُلقي بالاً لذلك، ولا تجده عيباً، ولا تجد أنه ينتقص من قيمة المسلسل أو متعتك به.

حالتي أنا حين أشاهد مسلسلاً تفاجئني. لا أعود مشاهداً فقط. حيناً أصير كاتب سيناريو، فأتوقّع مسار الأحداث قبل رؤية الممثّلين يؤدّونها. وكثيراً ما تتحقّق توقّعاتي. متعة من يعشق الكتابة، ويهيم وَلَهاً بالقراءة، أن يصبح يوماً ما كاتباً لمسلسل، لرواية. والمتعة المضافة والأكبر أن يصبح كاتب سيناريو لأعمال درامية. 

هذا الأمر نفتقده في عالمنا العربي. نحن بلاد قاحلة في الإبداع الروائي الدرامي. رَحِمُ ثقافتنا الدرامية العربية صارت هَرِمة وغير قابلة للحبَل بكتّاب سيناريو ملهَمين، حتى لو عن طريقة "طفل الأنبوب"، أو تلقيح "الـمَنْي الدرامي". 

ينتظر العرب موسم انتهاء حَبَل الدراما العربية في موسم شهر رمضان، ولما تلد الدراما العربية "أطفالها"، تأتي النماذج "مسخاً" درامياً، لا يُعرَف له أصل ولا فصل ولا أب، ولا توجد رَحِمٌ أنجبته. تريد أن تلمح، ولو قليلاً، قضية اجتماعية تعيشها المجتمعات العربية، من ساسها حتى رأسها، تجذب اهتمام الكتّاب العرب الدراميين، فتحبل مخيّلاتهم الهرمة والعاقر بها. لكن عبثاً. 

نصوص درامية كلّها "جَعْدَنة". والأسوأ ترجمة عربية ركيكة لأعمال درامية برازيلية وتركية وأفريقية ومكسيكية، وحتى من بلاد "الواق واق"، ينسَخُها الكتّاب العرب، حرفياً، copy paste، عن الأصل غير العربي، بالفاصلة والنقطة، وبداية الجملة التمثيلية، ويضعون لها عنواناً عربياً، لعمل "درامي"، يريدون من الجمهور "الضائع" أن يقتنع، غصباً عنه، عَبْرَ "حِيَل" البروباغندا والإعلانات، بأنه مسلسل عربي. 

لكن النتيجة لهذا المولود، التي لا مفرّ منها، وواضحة كالشمس: أنه مسلسل لا أحد يَحْزر مَنْ أبوه ومن أمه، وإلى أيٍّ من سلالات القضايا العربية ينتمي.

ثم تأخذني مسلسلات ساحرة لا لأتقمّص دور الممثّل، ولا لأقلّد حركاته، ومشاعره، وردّات فعله، بل لأعيش الدور أكثر مما يعيشه هو. أنفعل. أضطرب. أقلق. أقع في الحب. أغرق حتى أنفي وأذنيّ وصدغَيّ في لجة العشق. أشكّ. تأكلني نار الشكّ. تجعل داخلي مرجلاً تضطرم جمراته. 

أغضب كما لو أنني شخص حقيقي من شخوص الرواية يعاني. يتألم. أنقم على أمّ تركت أولادها ولحقت حبيبها، أو عشيقها، أو عابر سرير. أريد أن أنتقم أكثر ممّن يسعى ضحية لأمومة أمه. أنزف غضباً وحزناً ودمعاً مدراراً أكثر منه. 

في مسلسل "جول جمال" أعيش ما عاشه جول جمال أكثر منه. يأكلني الألم كشطيرة وجع أكثر ممّا يأكله. أنا جول جمال في الحياة، وهو أنا في المسلسل. نتبادل الأدوار، أو نتقاسمها. وجعُنا واحد. نحن، معاً، عشنا فَقْدَ حنان الأم. عشنا خذلان نقص الأمومة لدى المرأتين، التي تسمّى كلّ منهما "أمّاً" لنا، لكنها لا مارست أمومتها لنا، ولا انسابت أصابعها في شعر أيّ منا، ولا سهرت عند سرير أيّ منّا لـمّا مرض، لـمّا ارتفعت حرارته، عندما أصابته الحمّى و"البّرْدِية"، ولمّا تكوّر على روحه وجسمه الضئيل والضعيف حين راودته قشعريرة برد.

هل يكبر داخلنا الطفلُ، الذي لم يعش طفولته لـمّا كان في عمر الطفولة، حتى لو تجاوزت أعمارنا الأربعين، حتى لو هرمنا وصرنا في الثمانين والتسعين، رِجلاً في القبر، ورِجلاً في مستنقع الحياة. 

لا، الطفل فينا لا يكبر. أبداً لا يكبر الطفل داخلنا. كلما سنحت له فرصة لينفض عنه تراب خيبته، وقلة حظه، يفعل. ويعيد نفسه حياً ينطّ ويقفز ويبكي ويضحك، كما يفعل طفل. وأنا أشاهد "أُمّ" جول جمال تفعل ما يعجز عنه شيطان رجيم لتؤذي ابنها، لتحرق روحه، لتَئِدَه، كما كانوا قديماً يئدون الفتيات الرضّع، ظلماً، وتخلّفاً، فقط لأنهن إناث.  ومن أجل خوفهم على شرف القبيلة إن غزتها قبيلة أخرى، وسَبَت فتياتِها، كانوا يَئِدون الفتيات لـمّا يُولدن حتى لا يعيشوا هذا العار. أُمّ جول جمال لم تكن تحرق روحه. أنا كنت أحسّ بالحريق يشتعل داخل روحي. كيف يمكن لمسلسل أن يفعل بمُشاهد ما يفعله بي، إلا إذا كان من كتب السيناريو مبدعاً، ويكتب لغة حقيقية، إلى حد أن يجعلني أنا أعيش، من خلف الشاشة، الظلم الذي وقع على جول جمال أكثر ممّا عاناه هو، وأنقم على المرأة، التي تُسمّى أمه، وهي تستمتع برؤية دموع ابنها، وعذابه، ومحنته، لـمّا تركته طفلاً، يرجوها ويتوسّل إليها ألّا ترحل، ثم عادت تستمتع بإيلامه لما صار رجلاً في الأربعين، وهي توقد حطب غضبها وحقدها وكرهها والنقص في أمومتها وضميرها. 

أنا صار بي هذا كلّه، عشت ألم هذا وأكثر، وأنا أشاهد مسلسل "جول جمال". إنه سحر كاتب السيناريو. وسحر صناعة الدراما التي تجعل المشاهد واحداً من كادر طاقم التمثيل، أيضاً، وأحياناً تجعله الممثّل، صاحب دور البطولة الحقيقي.