"مثل الظبَا دقيقات الخصور".. عن "الشَّيْدر العدني" كموروث ثقافي وجمالي
رغم انحساره، لا يزال "الشيدر" في عدن باليمن زيّاً نسائياً له مكانته الثقافية والجمالية. فما قصّته؟ وكيف أصبحت المرأة التي ترتديه رمزاً للأنوثة والجمال؟
يُطلق على حجاب المرأة في عدن جنوب اليمن، مصطلح "الشيدر". وهو زيٌّ نسائيٌ تقليديٌّ فضفاض، عادةً ما يكون قطعةً كبيرةً من أقمشة الحرير، أو السُّندس، أو القطن. وعادةً ما يتم استيراد أقمشة "الشيادر"، ومثلها أقمشة "العباءات"، من الصين أو كوريا الجنوبية.
وترتدي المرأة العدنية هذا الزي الشعبي فوق ملابسها العادية، أثناء خروجها من المنزل للتسوّق، أو لزيارة الجيران. فوظيفته الرئيسة، تكمن في ستْره لجسد المرأة بشكل كامل. وبذلك؛ فهو يشبه "الستارة الصنعانية"، مع اختلافه عنها في لونه الأسود الخاص به. بينما تتميز "الستارة الصنعانية"، بتعدد ألوانها وتطريزاتها ونقشاتها.
من "الشادور" إلى "الشيدر".. التسمية والتفاصيل
تعود تسمية "الشيدر" إلى اللغة الفارسية، التي يُطلق عليه فيها مصطلح "الشادور". وقد وفد إلى اليمن، ضمن التأثيرات الثقافية التي تتناقل بين الشعوب. وعلى ذلك؛ فقد صار "الشيدر العدني" موروثاً ثقافياً واجتماعياً أصيلًا، وتقليداً مهماً من تقاليد مدينة عدن، بوصفه واحداً من أهم الأزياء التقليدية للمرأة العدنية.
ويرتبط "الشيدر العدني"، بقطعٍ أخرى من الألبسة؛ فهو لا يتم ارتداؤه إلّا فوق لباس آخر، يُطلق عليه اسم "الدّرْع"، ويظهر جزءٌ من ذيله من الجهة اليُسرى. كما يرتبط هذا الزي الشعبي بقطعة قماش شفافة، يُصطلح عليها باسم "النقبة"، أو "الخنة"، أو "الجورجيت"، وبها تغطي المرأة وجهها، ويغلب عليها اللون الأسود؛ اتساقاً مع لون "الشيدر". وإن كان لا بد من أن تكون بلون آخر، فالأنسب أن يكون متسقاً مع لون "الدرع"، الذي يُلبس تحت "الشيدر".
ويتميّز "الشيدر العدني"، بطريقة ارتدائه الخاصة به، وما تفضي إليه ــ هذه الطريقة ــ من خصوصية في التفاصيل والهيئة التي تتميز بها مشية المرأة؛ فهي عادةً ما تضع يدها اليُمنى على "الشيدر"، فوق صدرها، تحت ذقنها تماماً، لتحافظ على تغطية رأسها. بينما تُمسك بيدها اليسرى "الشيدر" من المنتصف، مع تأبُّطها لانثناءاته وترهلاته. وحينما تكون بحاجة إلى حمْلِ أغراضها في إحدى يديها ــ قد تكون اليد اليُمنى أو اليُسرى ــ فإن ذلك يمكن أن يتم، لكن مع استمرار إمساكها بـ"الشيدر"، من تحت ذقنها.
"يا لذيك المناظر".. "الخطرة العدنية" بين الجمال والفن
بتفاصيل هذه الهيئة، الخاصة بطريقة ارتداء النساء لـ"الشيدر العدني"، تتميز مشية المرأة بنوعٍ من البطء، الذي يضفي على خطواتها مسحةً جمالية. لذلك، اشتُهرت مشيتُها هذه باسم "الخطْرة العدنية"، التي كثيراً ما توصف بأنها "مشية الدلال والجمال". وهي مشيةٌ خاصة بنساء مدينة عدن، أمّا رجالها فلهم مشيتهم الخاصة بهم، تلك التي يُطلق عليها اسم "البِرَيْت".
وبذلك، فقد ارتقت "الخطرة العدنية" بهذا الزي الشعبي، إلى أن يكون زيّ الجمال والأنوثة، بما تضفي عليه هذه المِشية من سحرٍ يهز القلوب، ويحرك المشاعر، ويقدح الإلهام في مواهب الشعراء، فيكتبوا فيه القصائد التي يتغزّلون فيها بنساء المدينة وجمالهن، "وهن يتمخطرن بالشيدر الأنيق"؛ وفقاً لما يشير إليه ابن مدينة عدن الكاتب والمؤرخ، محمد أحمد البيضاني [1].
ولعلّ من أهم القصائد الغنائية، التي كُتِبتْ في جمال مشية "الخطرة العدنية"، قصيدة "يا لذيك المناظر"، للشاعر صالح عبد الرحمن المفلحي [2]. التي غنّاها الفنان محمد سعد عبد الله [3]، وفيها يترنم بمجموعة من الفتيات اللواتي يرتدين "الشيادر"، ويتمايلن رقصاً بأجساد رشيقة فائقة الجمال، منها هذا المقطع الغنائي:
رافعات "الشيادرْ" روّحيْن "جول الديس" [4] مالقات عاكِر [5].
مثل الظبَا دقيقات الخصور الضوامرْ
ريتْ أنا أكون معَهنْ في سَمرْ حيثْ يضْوَيْنْ
مشرقات النواظر بالجفون النواعس والعيون السواحر
عاكفات الجعود الخامرةْ بدونْ ساترْ
في الدروع الهدية فوق قلبي سحبين
عانك اللهْ يا العاشقْ على قسوة البينْ".
كذلك هي أغنية الفنانة فتحية الصغيرة [6]، التي تجلت فيها "الخطرة العدنية" غنوةً جميلة من أغاني "الدّان" [7]، ومنها:
"ضحكتكْ حلوةْ فيها شوقْ وحنانْ
خطْرَتكْ غنوةْ من أغاني الدّانْ
يا دانْ يا دان يا دان دان".
"الشيدر العدني" بين الانتشار والانحسار
وصل "الشيدر العدني"، في عقد الأربعينيات من القرن العشرين الفائت، إلى ذروة الانتشار. ومع دخول حقبة الخمسينيات من القرن نفسه، بدأ الانحسار التدريجي لهذا الزي الشعبي، بفعل كثير من العوامل والمعطيات، أهمها التحول الذي طرأ في البنية المجتمعية في مدينة عدن، بما استجد فيها ــ آنذاك ــ من متغيرات عمرانية واقتصادية، وما وفد إليها من أشكال الموضة، والألبسة المستوردة، من مثل "العباءة" (البالطو)، التي حلّت محل "الشيدر"، في كثيرٍ من مناطق مدينة عدن وأحيائها، ضمن موجة انتشار هذا الزي الجديد، في مساحة شاسعة من الجغرافيا اليمنية.
وعلى ذلك، فإن نسبة محدودة من نساء مدينة عدن، لا سيما المتقدمات في السن، لا يزلن إلى اليوم محافظات على ارتداء "الشيدر". وتتركز هذه النسبة، في عدد من مناطق مدينة عدن. لعلّ أهمها: "حافة الحساف"، و"حافة القطيع"، و"حافة الطويلة"، و"حافة حسين"، وحافة "العيدروس". مع أعدادٍ محدودة جداً في بعض الأحياء في: "البريقة"، و"التواهي"، و"القلوعة"، و"الشيخ عثمان"، و"المعلا". بينما يندر أن ترى امرأة مرتدية "الشيدر" في مناطق معينة، لا سيما في: "خور مكسر"، و"المنصورة".
وظهرت في السنوات الأخيرة بعض الأنشطة الثقافية، التي تهدف إلى إحياء موروث عدن الشعبي والمحافظة عليه. وفي سياقه إلقاء الضوء على هذا الزي النسائي التقليدي. من مثل ما قامت به "فرقة خليج عدن للمسرح"، من أنشطة مسرحية، أطلّت على خشبة المسرح فيها فتياتٌ عدنيّات وهنّ مرتديات "الشيادر". كما تميّزت "مسرحية هاملت العدني"، بحضور لثقافة المدينة كفن الرقص، و"الشيادر"، واللهجة العدنية. وغير ذلك من تجليات الاحتفاء، بأبعاد متعددة من الموروث الشعبي، الذي اشتهرت به مدينة "عدن".
[1] خديجة الكاف، "مع طفرة الألبسة النسائية المستوردة كالعبايات المطرزة والمشجرة.. انقراضٌ شبه كلي للشيدر".
[2] صالح عبد الرحمن المفلحي: شاعرٌ يمنيّ، من مواليد مدينة المكلا، محافظة حضرموت شرقي اليمن. تنوعت قصائده بين شعر عاطفي وإنساني واجتماعي ورمزي.
[3] محمد سعد عبد الله: ملحنٌ ومطرب يمني. من الكوكبة الأولى التي طورت الأغنية اليمنية. جمع بين التأليف الشعري والموسيقيّ والأداء. أثرى الساحة الفنية بعدد كبير من الأعمال الفنيّة.
[4] "جول الديس": حي من أحياء مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت.
[5] عاكر: المكان الترابي الذي ترقص فيه النساء بعض الرقصات الشعبية.
[6] فتحية الصغيرة: من أوائل الفنانات في جنوب اليمن. تنتمي إلى أسرة فنية عريقة. لها أعمال فنية عديدة، أشهرها أغنية "يا سامعين الصوت".
[7]"الدان": فنٌّ غنائيٌّ يمنيّ، يتميز بأنه فنٌّ جماعيّ، يُلبي ــ بطريقة أدائهِ ــ رغبات كل الحاضريْن في جلساته، ويتيح لهم المشاركة فيه شعراً أو غناءً. وتأتي تسميته هذه من اعتمادِه على كلمة "دانْ" وتشكيلاتها، كلازمة صوتية في كلّ مقطع من مقاطعه.