الحلم برغيف الخبز
رفقاً أيتها الرصاصة، ولو لمرة، ارحمي ضحيتك، ارحميه، فهو آدم، كبير أمه، وفرحة أبيه الأولى. رفقاً، فلن يلومك أحد إن فشلتِ هذه المرة.
ليست هذه قصة عابرة، بل شهادة صغيرة من ذاكرة مخيمات النزوح في قطاع غزة. ربما، بل أكيد، مع كل سطر كتبته، رغيفٌ لم يصل، وضحكة لم تكتمل، وطفل كان يحلم أن يفوز ببعض الطحين لكنه عاد إلى أهلهِ ملفوفاً بكفن، بينما السوار لا يزال في يدِ أختهِ.
هذه الحكاية أكتبها لا لأروي موتاً، بل لأعيد الحياة إلى الأسماء، إلى الشهداء الصغار، الذين حلموا بخبز وبسكوت... لا أكثر.
إلى كل من عاش المجاعة، إلى فاقد لــ "آدميته" بنظر "جيش" الاحتلال الإسرائيلي وقادة الكيان المحتل، إلى كلّ طفل حلم بالخبز، لكن صار نعياً.
إلى أمهات المخيم وآبائه، إلى كلّ طفل كآدم مات شهيد "المساعدات" الأميركية في غزة.. هذه الحكاية لأجلكم.
قصتي هذه ليست للمتعة لأني أريدها صفعة على وجوه من يقبلون موتنا كلّ دقيقة. وإن قرأت القصة التالية وتألمت في أثناء القراءة، فهذا تماماً ما أردته، لأنّ ما نعيشه لا يُروى، بل يوجع. إلى أصحاب القلوب القاسية، اقرأوا لتلين قلوبكم. أما أصحاب القلوب الرقيقة.. فسامحوني.
**
"راح الولد... راح الولد..."
صرخةٌ باكية انطلقت من خيمة "أبو آدم" قبيل الفجر، كانت سبباً في استيقاظ معظم أهل المخيم، الذين لم يكونوا بحاجة ليستفسروا عن الأمر، فهم يعرفون ويتوقّعون، وربما كانوا فقط بانتظار صرخة الأم لتؤكّد لهم ارتقاء آدم.
أما أصحاب الفاجعة، وأقرب الأقربين لهم، وأولهم أخته "آمال"، التي صُودف أنها استيقظت لقضاء حاجتها، وأثناء سيرها نحو الحمام، رأت أمها بثوب الصلاة على الأرض، والدموع تنهمر من عينيها وهي تصرخ: "راح الولد... راح الولد!"
والدها يربت ظهر أمها، يحاول أن يقوّيها ببعض كلمات، أن يسندها، ويذكّرها بالصبر والرضا بقضاء الله. كلّ المؤشرات أنبأتها بالأمر.
فهي لا تعرف "ولداً" سوى آدم. قال والد آمال إن آدم بخير وسيعود إليهم، فكيف "يروح"؟ أيُبكي أمها ولدٌ غير أخيها؟ لأنّ "الولد"، وربما هو أخوها آدم، "بخير".... هكذا قال والدها... فكيف يموت وهو بخير؟
تساءلت آمال، وهي أسيرة النعاس، ثم سألت ولا يُعلم كيف قام عقلها النائم بصياغته: "شو في؟"
لتأتيها الإجابة التي لا تتمنّى سماعها، من أمها، بصوت باكٍ: "أخوكِ مات.
أخوها آدم؟ البطل الذي أراد أن ينتشل أمعاءهم من الخواء؟ أخوها الذي قال لأبيها قبل أن يناموا إنه بخير مات؟
أمامها، كانت صورة أمها تتلاشى، وتلمح قدوم أخيها يركض نحوها. ولما أصبح قربها، قال ضاحكاً: "آمال، بكرا هتحكي عني بطل!"، وأمسك بيدها، وأخذا يسيران نحو خيمتهم.
قالت باستغراب: "ما فهمت... ليش؟ شو اللي هيخليك بطل؟"
ردّ عليها بصوت لا يخلو من الحماس: "صبرك، راح أحكي لكم كلكم بعد قليل!"
خطوا أولى خطواتهم في الخيمة، واستقبلهم أول وجه، وجه أمهم، التي قالت وسط انهماكها بترتيب الخيمة: "خلصتم لعب؟"
زفرت آمال الهواء وأردفت بملل: "ما لعبنا اليوم. حبيبة طالعة، وريما وآلاء شاريين أساور، وكانوا يحكوا عنهم للبنات.
قاطعها آدم بسؤال لأمه: "يما، وين أدهم؟"
ردت عليه أمه بعجالة: "وراء الخيمة، بكسر حطب مع أبوك."
أدار ظهره ليخرج من الخيمة، وأكملت آمال ما كانت تقوله: "بتعرفي يا ماما، أنه شكل الأسوارة حلو كتير".
حدقت في الخيمة كأنها تسترجع صورة الأسوارة، ثم قالت: "ألوانها بتجنن! زهري بارد، وأزرق بارد، وبنفسجي بارد".
ثم رفعت يدها وضربت رأسها: "صح، نسيت أقول لك إنها أسوارة خرز! وكمان، بتعرفي شو الحلو فيها؟"
سكتت، تنتظر أن تردّ عليها أمها، لتتأكّد أنها تنصت إليها. لكنّ الردّ جاء بسرعة، ولم يترك لها المجال للومها على عدم إنصاتها: "إيوا، كملي".
قالت آمال على عجل: "الأسوارة 3 حبال، كلّ حبل بلون، ومجدلينها... تخيّلي شكلها قديش حلو!"
ابتسمت الأم وقالت: "يا الله، الزمن يعيد نفسه... بتعرفي لما كنت صغيرة مثلك، عشر سنين، كانوا يبيعوا سلاسل خرز مجدلة"
قالت آمال بحماسة: "جد؟ طيب طيب، اسمعي، شو رأيك تشتري لي وحدة؟"
تركت أمها ما في يدها، والتفتت إليها: "لا، عارفاكي بدك توصلي لهون".
قالت آمال برجاء: "ماما، حقها بس ثلاثة شيكل! أمانة".
ردت الأم بحدة: "افهمي، لا يعني لا! عندك أساور!"
قاطعتها آمال: "وينهم؟"
ردت الأم: "هيها، السمراء بيدك!"
وأثناء الحديث، دخل الأب وابناه.
سأل الأب: "مال آمال؟"
أجابته الأم ساخرة: "بدها أساور وهي مش لاقية توكل!"
وهنا قفز آدم إلى وسط الخيمة بحركات بهلوانية، يحاول لفت الانتباه: "أحم أحم أحم!"
وضعت أمه يدها على خدها، وقالت: "هات اللي عندك، بالمختصر!"
تأفف آدم وقال: "لا تقتل المتعة يا مسلم!"
قال أدهم: "خلص، مش فاضيين لك!"
قال آدم بصوت أعلى: "استغفر الله وأتوب إليه، بس والله حابب أصير بطل!"
قال الأب، والجميع في آنٍ واحد: "بطل شو؟!"
غمز آدم لآمال وقال بكل ثقة: "بطل التغذية والقضاء على الجوع!"
ضحك أدهم وقال: "جرب تنام بدري أول!"
كانوا قد جلسوا جميعاً، فقال الأب: "خلي الولد يحكي اللي عنده، إحنا قاعدين، شو ورانا غير نسمع له؟"، طبطب آدم على صدره شاكراً والده، وأكمل حديثه عن بطولته المقبلة.
قال آدم، محاولاً الدفاع عن نفسه: "يما والله حكوا ما في ولا طلقة!"
ردّ الأب بانفعال: "مين قال؟ 50 شهيداً اليوم، بس عند نقاط المساعدات الأميركية!"
قال آدم مصمّماً: "بس يا بابا، مالك ابن جارنا راح وجاب سُكر ونوتيلا!"
قالت آمال وهي تدور يدها على بطنها بتلذذ طفولي: "أووه... نوتيلا"
قال أدهم بحدة: "اسكتي! هاي من الممنوعات! وعلى شو؟ تشتريها بـ150 شيكل؟ وهي قد كفة اليد!"، ورفع يده مشكّلاً حجمها التقريبي.
آدم: "طيب، خلوني أكمل... شو رأيكم أروح أجيب لكم؟"
الأب والأم معاً: "لا! مش رح تموت إذا ما أكلت!"
أما أدهم وآمال، فكانا يرمقانه بترقّب، منتظران أن يكمل الحكاية.
آدم: "اسمعي يما... خالي بروح، وأنا بدي أروح معه. والله رجلي رح تكون ع رجله!"
الأم بجمود: "لا.. أفهم"
آدم: "يما، خالي راح 3 مرات... مات بأي مرة؟"
أمسكت الأم بزجاجة قريبة ورمتها نحوه، قائلة: "بعيد الشر! ربنا يحفظه!"
آدم، وهو يلتقط الزجاجة: "بروح معه بس مرة... وربنا يحفظني"
الأم تنهدت: "بتصل على خالك وبشوف كيف"
انتهى الحديث عند الأم، لكن عند الأطفال لم ينتهِ شيء، بل بدأت أحلامهم الصغيرة تطير كالطيور.
تذكّرت آمال فجأة وقالت: "في بسكوت زاكي زاكي"
آدم: "وين ذُقتيه؟"
آمال: "ما ذُقته! بس بيبيعوا الحبة الوحدة، مش البكيت، بشيكل... وما شريتها، لأنها ما هتشبعني!"
آدم: "إذا رحت بكرا، بجيب لكِ، هجيب كمان طحين!"
آمال: "آه! جيب، لأن أمي قربت تخلط العدس مع الطحين!"
قاطعهما أدهم بانزعاج: "اسكتوا! بس بتعشموا حالكم!"
ضحك آدم وقال: "هاهاها! طيب، بكرا لما أجيب، ما بدي أشوف وجهك!"
لا يدري أحد كيف أعادت آمال موضوع الأسوارة إلى الحديث. لكنها جعلته الحديث الأساسي مع آدم، تُفصّل له كل شيء بحماس، من دون أن تترك له فرصة السؤال عن أي شيء.
علا صوت أذان العشاء: "الله أكبر الله أكبر".
قام آدم وأدهم ووالدهما للوضوء والصلاة في ساحة المخيم، التي باتت تؤدي دور المسجد. بعد الصلاة، عادوا جميعاً إلا آدم، الذي اختفى بلمح البصر، ثم عاد بعد ثلث ساعة، يخفي يده خلف ظهره، وجلس إلى جانب آمال المستلقية، قائلاً بابتسامة: "حزري شو جبت لك؟"
ضحكت آمال حتى كادت تصل إلى الكركرة، وقالت: "أسوارة! ما بدها تحزير!"
ضحك معها، وأعطاها إياها، فاحتضنته وقبّلته على رأسه، وهمست له بفرح: "شكراً يا بطل..."
فقال لها بفخر طفولي: "جبت لك أسوارة... وهذا أكبر دليل إني رح أجيب لك شوكولاتة وبسكوت!"
آمال: "ماما اتصلت على خالي، روح شوفها"
ذهب آدم وتوصل معها إلى موافقة، وبما أنها وافقت، فوالده سيوافق أيضاً، صرخ بحماس: "أيتها البطون، لن تجوعي بعد الآن"
ضحكت عليه آمال، بينما صرخ أدهم: "يما، أنا كمان بدي أروح!"
الأم، بعد أن انتهت من ضحكها: "أنت بالذات ما تطلع من بوابة المخيم! بكرا، زي ما أبوك قال".
عبس أدهم، ودخل فراشه يتمتم بكلمات غير مفهومة.
ناموا ثلاثتهم، وكل واحد منهم يفكّر بشيء مختلف: واحد يتخيّل طعم السكر والبسكوت، وآخر يفكّر كيف سيحمل آدم الأغراض، أما آدم فكان غارقاً في خيال المغامرة، يرى نفسه البطل المغوار الذي يسيطر على الطعام ويأخذ ما شاء!
بعد صلاة الفجر بدأ المغامرون المجوّعون رحلتهم نحو "لقمة الدم". كل واحد يحمل كيس طحين فارغ على ظهره، يعرفون تماماً أنهم قد يحملونه مليئاً بالطحين، أو بالأشلاء، أو حتى ليغطوا به جسداً مُلقى على الأرض.
وصل آدم وخاله إلى نقطة المساعدات الأميركية. كانت الشمس قد أشرقت لكن ربع الغزّيين كانوا استيقظوا قبلها.
أمامهم كانت الحشود الغفيرة نائمة على الأرض بسبب الرصاص الطائش. فعلوا مثلهم. وبعد نصف ساعة، صرخ أحد في المقدمة: "فتحت!"
برمشة عين، وقف الكل، بل بدأوا بالركض بأسرع ما يمكن، إلى أن وصلوا مشاطيح المساعدات. لا، بل أقصد بعض المشاطيح، فهم يضعون عشر مشاطيح للآلاف!
والأقوى هنا هو من يتخلى عن صفاته كإنسان، ويصبح همجياً، بسكين وبعراك يحصد طعامه. وهذا ما لن يقدر عليه آدم الصغير، الذي صُعق من المنظر وضاع عن خاله.
وما إن تلاقت العيون الغافلة عن القنّاص في الأعلى، تلاقت عين الخال بعين ابن أخته، لتشهد اختراق رصاصة لرأسه، لتشهد كيف سقط أرضاً، ودُعك من قبل الراكضين، الذاهبين والمغادرين.
من دون إرادة منه، التفت الخال إلى حيث المكان الذي أُطلقت منه الرصاصة، فرأى الذي قتل الصغير من دون سبب. فما الذي فعله سوى أنه ضائع يبحث عن خاله؟
لم يعلم أيٌّ منهم من أطلق الرصاصة، لأنه لم يكن واحداً، بل رآهم مجموعة على الدبابة. ولأن الشمس اشتدت، والعرق تلألأ على جبهته، كانت قطرات تهوي، ولا يعرف إن كانت عرقاً أم دموعاً ترسم طريقها على خده. هل تبكيه فكرة أنه سيحمل هذه المرة ابن اخته بدل الطعام؟
اقترب منه، دفع الحشود، وجده وقد صبغ الدم وجهه. كان يتنفّس، كان يحرك شفتيه، لا زال بجسده روح.
حمله وركض، هرول بأسرع ما يمكنه، ولأنّ المنطقة خطرة ولا يُسمح للإسعاف بالوصول إليها، صعُبت عليه المهمة.
لكنه وصل إلى المشفى، والنفس لا زال يشهد على أن آدم حي والرصاصة لا زالت تخترق رأسه، تؤلمه، تفقده دمه، وكأنها تأبى أن تغادر رأسه من دون أن تؤدي وظيفتها.
رفقاً أيتها الرصاصة، ولو لمرة، ارحمي ضحيتك، ارحميه، فهو آدم، كبير أمه، وفرحة أبيه الأولى. رفقاً، فلن يلومك أحد إن فشلتِ هذه المرة. رفقاً، افشلي، ولا تقتلي حبيبنا، لأنّ وداعه سيقتل روح عائلة كاملة!
انطلق صوت رنين هاتف أبو آدم، وكان المتصل أخ زوجته، وهذا ما جعل زوجته تستغرب من عدم اتصاله بها، وتيّقنت بأن هناك ما حدث.
وقفت إلى جانبه وسمعت صوت رجل غير أخيها، بعد السلام، يقول: "تعال على المستشفى."
أبو آدم: "ليش؟ مين تصاوب؟"
هي إلى جواره، قلبها مقبوض، لا تعرف على من... ابنها أم شقيقها؟
أجاب الرجل: "ابنك"
أغلق الخط، وهو يتمتم: "الحمد لله..."
وامرأته صرخت: "مات، مات"
أبو آدم: "لا والله، بخير، قال متصاوب"
وبدأت تبكي، أراد أن يبقى معها، لكن ابنه في المستشفى، الله أعلم بحاله، فنادى على آمال لتبقى إلى جانب أمها.
وما إن وصل المشفى، قيل له: "24 ساعة وتعرف مصيره".
24 ساعة تشبثت فيها قلوبهم بأمل نجاته، وأنه سيتحمّل، وهو بخير. استطاعوا إخراج الرصاصة، انقضت الساعات الأربع والعشرون، وأمدوها بأخرى، وفي وسط الليل، لم يكن إلى جانب آدم أحد ليشهد على نطقه الشهادة، ثمّ خفوت نبض قلبه حتى التوقّف. في الصباح، حُمل آدم الحَملة الأخيرة إلى القبر. كانت حملة تليق بصاحب الروح الحلوة الحنونة. هذه الحَملة لا تحبّها الأمهات كحبهن لحملهم وهم صغار، ولحملهم أثناء اللعب. هذه الحَملة، تتمنى الأم أن تموت، وألا تراها، ألا تعيش يوماً آخر بعدها، لأنّ روحها تنطفئ من بعدها. لكنهن يحاولن العيش لأجل من تبقّى من أبنائهن.