الرواية التي أوصلت أول كورية جنوبية إلى نوبل 2024

الكتابة بالنسبة لهان كانغ هي فعل مقاومة ـــــ رفض للنسيان، رفض للمضي قدماً وكأنّ شيئاً لم يكن، رفض للسماح للأموات بالاختفاء تماماً.

  • سرديات مسكونة: الذاكرة والصدمة والمحو في أدب هان كانغ
    سرديات مسكونة: الذاكرة والصدمة والمحو في أدب هان كانغ

ثمّة كُتّاب يبنون عوالمهم، حجراً فوق حجر، بمهارة المعماريين الذين يشيّدون صروحاً متينة. وثمّة كُتّاب ينحتون اللغة كما لو كانت موجاتٍ تثور وتتقهقر، فتخلق شيئاً حياً، شيئاً ينبض بالحيوية. ثمّ هناك هان كانغ، التي تفعل شيئاً مختلفاً تماماً. إنها تعمل في المساحات الفارغة، في الصمت بين الكلمات، في الأشياء غير المعلنة وغير القابلة للتفسير. إنّ قراءتها أشبه بالانجذاب إلى فراغ ـــــ ليس فراغاً خالياً، بل فضاءً مشبعاً بالمعاني، بالعواطف، وبالألم.

تتحرّك كتابات هان كانغ بهدوء مُدمِّر، كثلوج تغطّي ساحة معركة. جُملها، رغم بساطتها الظاهرة، تحمل في طياتها ثقل قرونٍ من الجراح الموروثة، والاختناق البطيء الحتمي الناتج عن الصدمات. لا تروي هان كانغ القصة بقدر ما تكشفها ـــــ طبقةً تلو الأخرى، عظمةً تلو الأخرى، وكأنها تنقّب عن هيكلٍ عظمي مدفون. كتاباتها ليست لمن يبحث عن الراحة؛ فهي عنيفة؛ عنف مرهف الإحساس، يتسلّل من بين الصفحات إلى مجرى دماء القارئ، تاركاً إياه متغيّراً، مسكوناً، ومتورّطاً في القصة.

أسلوبها الكتابي دقيق، لكنه ليس جافاً. متحفّظ، لكنه ليس بارداً. صادم لكنّه يعجّ بالشاعرية. إنها تدرك أن أكثر الأشياء ألماً ـــــ ثقل الحزن، ووحشية التاريخ، والتأكّل البطيء للذات ـــــ لا تحتاج إلى أن تُقال صراحة. بل تتجلّى في الجسد، في طريقة الأكل أو الامتناع عن الأكل، في طريقة الكلام أو الصمت، في كيفية تحرّك الإنسان عبر العالم وكأنه يتلاشى تدريجياً.

هذا هو جوهر أدب هان كانغ: العنف الصامت للاختفاء. في "النباتية"، نرى قصة امرأة تتوقّف عن أكل اللحوم، ثم تتوقّف عن الأكل تماماً، مبتعدة أكثر فأكثر عن الواقع حتى تكاد تختفي كلياً ككيان. وفي "أفعال بشرية"، تتلاشى الأجساد، تُمحى الأصوات، وتُطمس الذكريات. سواء كانت تكتب عن الصدمة الفردية أو التاريخ الجمعي، فإنّ مشروعها الأدبي واحد ــــــ رسم ملامح المعاناة، واستكشاف آثارها، وإثبات أنها لا يمكن محوها بالكامل.

  • الفائزة بجائزة نوبل لعام 2024
    الفائزة بجائزة نوبل لعام 2024 "هان كانغ"

النباتية: الجسد كوسيلة للاحتجاج الصامت ومحو الذات

لو كانت "النباتية" رواية أخرى لكاتب مختلف، لربما كانت بياناً ثورياً. أو ربما كانت رسالة مباشرة عن النظام الأبوي، عن السيطرة، عن الطريقة التي يُتحَكّم من خلالها في أجساد النساء قبل أن يمتلكنها بأنفسهنّ. لكنها ليست رواية من هذا النوع. بدلاً من ذلك، تتناول هان كانغ الموضوع بأسلوب غير مباشر، عبر سلسلة من الرفض الصامت.

يونغ- هي امرأة عادية، تعيش حياة عادية، حتى تقرّر التوقّف عن أكل اللحوم. رأت حلماً ــــ شيئاً مظلماً، شيئاً عنيفاً، شيئاً غيّر إحساسها بما هو مقبول وما هو غير مقبول. منذ تلك اللحظة، لم يعد جسدها ملكاً لها. زوجها لا يستطيع فهم قرارها، ووالدها يراه تصرّفاً غير مقبول، والأطباء يعتبرونه اضطراباً نفسياً. واحداً تلو الآخر، يحاولون "تصحيح" مسارها، دفعها إلى استعادة الشكل الذي ينبغي أن تكون عليه. لكنها لا تقاوم، ولا تستسلم، بل تستمر ببساطة في التلاشي.

الرواية مقسّمة إلى ثلاثة أجزاء، يرويها أشخاص مختلفون: أولاً زوجها، ثم صهرها، وأخيراً أختها. تبقى يونغ- هي بعيدة، غامضة، كحضورٍ آخذٍ في التلاشي مع كلّ فصل. هذه البنية ليست اعتباطية؛ إنها وسيلة هان كانغ لإظهار ما يحدث عندما تتوقّف امرأة عن أداء الأدوار المتوقّعة منها. إنها لا تصبح غير مرئية فحسب ـــــ بل يتمّ محوها بالكامل.

يصبح جسدها ساحة معركة، أولاً للسيطرة، ثمّ للرغبة، وأخيراً للتدخّل الطبي. صهرها لا يراها كشخص، بل كفنّ حيّ، كجسد يمكن أن يحوّله إلى لوحة، إلى مشروع جمالي. يرسم زهوراً على جلدها، يصوّرها، يفرض عليها خيالاته. لكنها لا تقاوم، ولا تستجيب. تسمح ببساطة لنفسها بأن تتحوّل إلى كائنٍ مجرّد، مدركة ربما أنّ هذا هو آخر مراحل الاختفاء.

بحلول نهاية الرواية، لم تعد تأكل شيئاً. تؤمن بأنها تتحوّل إلى شجرة، أنّ جذوراً تنمو بداخلها، وأنها في طريقها لتجاوز الإنسانية نفسها. أختها تراقبها، عاجزة عن الوصول إليها، عاجزة عن إيقافها. ونحن، كقرّاء، ندرك الحقيقة المؤلمة: اختفاء يونغ- هي كان حتمياً. ليس لأنها ضعيفة، ولا لأنها مريضة، ولكن لأنّ العالم لم يستطع أن يسمح لها بالوجود وفقاً لشروطها الخاصة.

  • رواية
    رواية "أفعال بشرية" لهان كانغ

أفعال بشرية: أشباح التاريخ وأصداء الراحلين

إذا كانت "النباتية" تتناول اختفاء فرد، فـ "أفعال بشرية" تتناول اختفاء جماعة بأكملها. إنها الرواية الأكثر وضوحاً لكانغ في تناولها التاريخ، حيث تركّز على انتفاضة غوانغجو عام 1980 ـــــ احتجاج طالبيّ ضدّ الحكم العسكري في كوريا الجنوبية قُوبل بقمع وحشي. قُتل المئات، وربما الآلاف. لم يُعثر على العديد من جثثهم أبداً. مُحيت أسماؤهم، وطُمِست قصصهم. تُحوِّل كانغ هذه اللحظة من القسوة الشديدة في ماضي كوريا الجنوبية المظلم، إلى نثر دقيق ومتأنٍ، بحيث يصبح ثقل كلّ كلمة فعلاً من أفعال الشهادة. تتخذ الرواية بنية تتنقّل بين وجهات نظر مختلفة، حيث يسكن كلّ فصل صوتٌ جديد، جميعها تدور حول الصبي الصغير دونغ-هو، الذي يصبح موته نقطة محورية سردياً وأخلاقياً. ثمّة تشظٍ متعمّد في السرد، ورفض لإبقاء القارئ مرتاحاً في وعيٍ أو سرد واحد.

هذه الرواية ليست فقط عن الذين ماتوا، ولكن عن الذين نجوا أيضاً. تتكوّن من مجموعة من الأصوات المتشابكة، كلّ منها يعيدنا إلى الحدث ذاته، مراراً وتكراراً، وكأنه غير قادر على الفكاك منه. صبي يبحث عن جثة صديقه في صالة رياضة تحوّلت ارتجالاً إلى مشرحة في حين يملأ الهواء رائحة تعفّن الموت. وعاملة مصنع تتعرّض للتعذيب والاعتداء الجسدي. وأمٌّ تنوح على ابن أصبح رسمياً غير موجود. وروحٌ تبقى عالقة، غير قادرة على العبور إلى العالم الآخر. ومحرّرة أدبية تدفعها مسرحية وتجربة قاسية لها مع مقصلة الرقابة لاجترار الذكريات الأليمة. ومعتقل سياسي تعرّض لأبشع وسائل التعذيب لكن كلّ هذا أهون من سؤال ظل يؤرقه: لماذا عاش هو ولماذا مات الآخرون. ثم في النهاية تصبح كانغ نفسها أحد أصوات الرواية. كل صوت يضيف طبقة جديدة إلى الحكاية، جزءاً آخر من الذاكرة، محاولة أخرى لفهم اللامعقول.

أسلوب هان كانغ في "أفعال بشرية" أكثر تحفّظاً حتى من "النباتية"، لكنه يحمل وزناً ثقيلًا. لا تصوُّر العنف كمشهد مرعب، ولا تستعرض الوحشية بأسلوب درامي. بدلاً من ذلك، تركّز على ما يحدث بعدها ـــــ على الطريقة التي يتغلغل بها العنف في الجسد، في العقل، في نسيج التاريخ نفسه. الشخصيات في هذه الرواية لا تعاني فحسب؛ بل تحاول التذكّر، تحاول التشبّث بشيء ما في عالم مصمّم على طمس الماضي.

التاريخ، في هذه الرواية، ليس مجرّد أحداث مسجّلة في الكتب. إنه شيء حيّ، شيء لم يكتمل. أشباح الماضي لا تهدأ. إنها تظلّ حاضرة، في الهواء، في التربة، في صمت الناجين. وبالنسبة لهان كانغ، فإنّ الكتابة هي فعل مقاومة ـــــ رفض للنسيان، رفض للمضي قدماً وكأنّ شيئاً لم يكن، رفض للسماح للأموات بالاختفاء تماماً.

شروع هان كانغ: تشريح الغياب في روايات هان كانغ مبنية على ما هو غير موجود. إنها تتشكّل من الصمت، من الفراغات، من الأمور التي لا يمكن قولها. تدرك أن المعاناة ليست دائماً صاخبة، وأن الصدمة ليست دائماً متفجّرة. أحياناً تكون هادئة. أحياناً تكون مجرّد شعور بشيء يتلاشى، بشيء لم يعد بالإمكان الإمساك به.

في "النباتية"، يتلاشى الفرد. في "أفعال بشرية"، يُمحى التاريخ. وفي كلتا الحالتين، ترفض هان كانغ أن تملأ هذه الفراغات. لا تخبرنا بما يجب أن نشعر به. لا تقدّم لنا تفسيرات أو حلولاً. بدلاً من ذلك، تترك لنا الغياب نفسه، تطلب منا مواجهته، الاعتراف به، تذكّره.

ربما هذا هو سبب قوة كتاباتها. لأنها لا تحاول منحنا إجابات عن الفقدان ـــــ بل فقط الشهادة عليه. وفي ذلك، تخلق شيئاً نادراً، شيئاً ضرورياً: مساحة حيث لا يزال المختفون مرئيّين، حيث لا تزال الأصوات الصامتة مسموعة، حيث يمكن للمفقودين أن يجدوا، ولو للحظة، أثراً يبقيهم أحياء. 

ومع ذلك، تحت كلّ هذا الابتكار الأدبي ـــــ البنى السردية التجريبية، رفضها للحكاية التقليدية ـــــ ثمّة شيء إنساني بعمق يشدّ أعمالها إلى الأرض. هان كانغ لا تهتم بالعنف لذاته؛ بل تهتم بكيفيّة وسمه لنا، بكيفية استمراره في مجرى الدم، بكيفية تشكيله للقصص التي نحكيها عن أنفسنا. تُظهر لنا كانغ ظلال الصدمة الممتدة، لكنها تُظهر لنا أيضاً هشاشة التواصل، ورهافة البقاء.

أعمالها، في النهاية، تدور حول ما يبقى. الآثار التي يتركها الجسد. الأصداء التي تظل في الغرفة. القصص التي ترفض أن تُمحى. في عالم هان كانغ، لا شيء يختفي بالكامل. بل يبقى عالقاً في الهوامش، في الصمت، في المساحات بين الكلمات. وربما يكون هذا أعظم ما تقدّمه ككاتبة ـــــ قدرتها على جعلنا نشعر بثقل الغياب، وعلى تذكيرنا بأنّ حتى ما ضاع لا يزال، بطريقة ما، موجوداً.

نشير إلى أن آنا كارين بالم، عضوة لجنة نوبل للآداب، كانت قد دعت القراء الذين لا يعرفون هان كانغ بأن يبدأوا برواية "الأفعال البشرية" (2014) التي تستند إلى مذبحة قتل فيها الجيش الكوري الجنوبي أكثر من 100 طالب ومدني عام 1980، مشيدة بنثرها الرقيق الذي يشكل قوة مضادة لبطش السلطة.

اخترنا لك