الشيخ القريطي.. "عطر رمضان" في اليمن
يشكّل إرثاً تاريخياً وثقافياً ودينياً يجمع اليمنيين كافة. من هو الشيخ محمد القريطي؟ ولماذا حمل لقب "عطر رمضان"؟
لم يكن الشيخ الحافظ والعلّامة، محمد حسين القريطي، بالنسبة إلى اليمنيين، مجرد قارئ أو حافظ للقرآن الكريم، ولا يبدو كذلك حتى اليوم، بل هو إرث تاريخي وثقافي وإنساني وديني جامع يرتبط بهويتهم ويبرز كعلم من أعلام اليمن، وهو "عطر رمضان" عندهم؛ لارتباط سماع تلاوته خلال شهر الصيام.
لا يفتقر اليمن إلى الحُفّاظ والقراء، فهو واحد من أكثر البلدان تخريجاً لأشهر العلماء والفقهاء على مرّ التاريخ الإسلامي. لكن اليمنيين بشكل عام يرتبطون بالقريطي ارتباطاً وثيقاً، خاصة في رمضان، فهو يعطيه - كما يعبّرون - نكهة ومذاقاً مختلفاً، بل أصبح من معالمه لديهم كما هو معلم من معالم القراءة اليمنية.
منذ أول بث إذاعي متواضع حتى العصر الرقمي وانتشار العشرات من وسائل البث، ظل صوت القريطي صداحاً ينساب في كل أرجاء البلاد بانتظام موسمي، ويتردد عبر موجات الأثير المختلفة ومنارات المساجد ومكبرات الصوت على السيارات وفي المقاصف والمطاعم والأسواق وشاشات التلفزة، وما إلى ذلك من محتوى الشبكة العنكبوتية بأنواعه، لكأنه علامة من علامات مشاهدة الشهر الفضيل!
من هو القريطي؟
ولد محمد القريطي، في حارة الزمر وسط صنعاء القديمة عام 1922 يتيم الأب، حيث رحل والده قبل ولادته، ثم توفيت أمه وهو في سن مبكّرة، ما جعله يعيش طفولة صعبة انعكس أثرها على تكوين شخصيته المجتهدة والمثابرة. درس في مدرسة المفتون في المدينة ذاتها وحفظ القرآن الكريم، قبل أن يلتحق بحلقات العلم في الجامع الكبير (أشهر مساجد اليمن).
يحكي عضو مشيخة الإقراء وأحد كبار مقرئي اليمن، الشيخ محمد حسن الكباري، عن بعض تفاصيل طفولة القريطي أنه "كان شغوفاً بالتلاوة بصوت مرتفع منذ الصغر، وكان يضع تنكة السمن (وعاءٌ من الصفيح) على رأسه ويقرأ؛ لما كان لها من صدى، وكان مشهور بصوته الجميل".
أظهر القريطي نبوغاً مبكراً في العلم، وفي هذه الفترة من عمره، استطاع أن يكتسب أول مفاتيح التجويد والقراءات المختلفة التي تميزت بالدقة والانضباط، ما مهد له الطريق للتعمق أكثر في العلوم القرآنية من خلال مواصلة علوم القرآن وقراءاته على أيدي كبار علماء وفقهاء الجامع الكبير، من أمثال العلّامة عبد الله الرقيحي وأخيه العلّامة عبد الرزاق الرقيحي، والعلّامة عبد الله السرحي، والشيخ أحمد ناصر الخولاني.
لكن ذلك لم يكن سهلاً في تلك الحقبة التي شهدت نوعاً من الفرز المجتمعي بين الطبقات، وبالنسبة إلى فتى فقير كان الوصول إلى حلقات العلم المتقدمة ضرباً من الخيال، غير أن الإصرار الذي تملّكه دفع به نحو شيخ القرّاء آنذاك وأشهرهم، حسين بن مبارك الغيثي، الذي أخذ بيده وشجعه، رغم ما أثاره ذلك من غرابة لدى الكثيرين، وكان الغيثي أستاذه الأول فحقق معه في جميع العلوم خصوصاً علم القراءات السبع والثلاث الشاذة، كما يحكي نجله الشيخ محمد الغيثي في وثائقي صوتي قديم استعرضت "الميادين الثقافية" نسخة منه.
صوت الأثير
مع أول بث لإذاعة صنعاء في العام 1947 في عهد الإمام يحيى بن حميد الدين، بمعدل ساعتين ونصف أسبوعياً، كان أول محتوى يبث عبر أثير يمني هو القرآن الكريم بصوت القريطي، وظل مقرئها الوحيد حتى وفاته سنة 1962، وتشير الروايات إلى أن الإمام أحمد، نجل الإمام يحيى، قرر له معاشاً وقدحين من الحب والشعير شهرياً.
ويضيف الشيخ الكباري في حديث إلى "الميادين الثقافية"، أن القريطي "كان من أوائل من سجلوا في الإذاعة عندما كان إماماً لجامع الزمر، ولديه تسجيلات عدة، إضافة إلى أنه كان كثير التردد في مواسم الحج إلى مكة المكرمة، وكان اليمنيون وغيرهم من حجاج بيت الله يلتفون حوله ليستمعوا إلى تلاوته الفريدة من نوعها"، وكان له حلقة قراءة مشهورة في كل موسم حج.
ورغم ذلك، تفتقر المكتبة اليمنية إلى تسجيل شامل للمصحف بصوت القريطي، إلا بعض السور والآيات التي تتردد بشكل دائم في القنوات والإذاعات المحلية ويعاد نشرها على منصات التواصل بين حين وآخر، والتي "أعيد استرجاعها من أقاربه بعد وفاته بأكثر من عقدين من الزمن على الأقل غاب خلالهما صوته، منذ ثورة 26 أيلول/سبتمبر 1962 التي غيّرت النظام إلى جمهوري"، كما يروي لـ "الميادين الثقافية" مدير عام مكتبة الإذاعة، عبد الكافي القاضي.
ولعل ما يفسر ذلك هو أن المكتبة تعرضت للعبث أو الإتلاف أو السرقة كغيرها من تسجيلات الأرشيف الملكي، خصوصاً أن الإذاعة في أعقاب ذلك حاولت تقديم أصوات عربية ويمنية في فترات بث القرآن الكريم ومن بينهم الصفي أحمد محبوب، والشيخ محمد حسين عامر، والشيخ موسى أحمد موسى، والقارئ محمد النعماني، والشيخ عبد الباسط عبد الصمد، والشيخ محمد المنشاوي وغيرهم.
عودة إلى الزمن الجميل
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، أعاد وزير الإعلام والثقافة في "الجمهورية العربية اليمنية" آنذاك، حسن اللوزي، صوت القريطي إلى الشاشة والأثير خلال شهر رمضان، باعتباره قيمة دينية مهمة لليمن وليس مرتبطاً بنظام أو طائفة معينة، فاسترجعت الإذاعة بعض التسجيلات من عائلته وليس كلها. عن ذلك يقول مساعد رئيس قطاع إذاعة صنعاء، محمد الشرفي: "خلقت عودة صوت القريطي في ذلك الوقت ارتياحاً شعبياً واسعاً"، معللاً بأن "ذلك الصوت الذي عرفوه في طفولتهم ربما يعيد لهم شيئاً من الزمن الجميل الذي عاشوه".
ويضيف الشرفي، وهو أقدم مذيع معاصر في الإذاعة، خلال حديث مع "الميادين الثقافية": "استمر بث صوته لثلاث سنوات قبل لحظات الإفطار بشكل متفرد، وعلى إثر ذلك، تلقت الإذاعة ملاحظات من بعض القيادات توصي بتنويع الأصوات، خصوصاً أن ذلك هو أفضل وقت يستمع فيه الناس إلى الراديو، ولدى اليمن الكثير من القراء المعروفين، بغرض المساواة". ورغم ذلك، عاد صوت القريطي يفرض نفسه على الأثير من خلال طلب الناس وتواصلهم مع الإذاعة.
من جانبه، يرى الشيخ الكباري أن القريطي أصبح من معالم رمضان في اليمن، ولمجرد سماع صوته تتبادر إلى ذهنك روحانية الشهر الكريم ولحظات انتظار الأذان ويردف: "كل القنوات والإذاعات بشتى اتجاهاتها السياسية نجدها تخصص له ذلك الوقت المعروف (20 دقيقة)؛ لأن اليمنيين تعلقوا به".
"عطر رمضان"
ويلفت الكباري الذي يتلو ورد ما قبل صلاة الفجر في الجامع الكبير طوال شهر رمضان، إلى أن تلاوة القريطي الفريدة تمثل اللون الصنعاني اليمني الأصيل، ولعل ذلك ما جعله خالداً في عقول اليمنيين وقلوبهم رغم تعاقب الأجيال بمن فيهم الناشئة التي تطرب لسماعه وتشعر بالروحانية.
أما الشرفي فيقول: "كنا في صغرنا نحاول حفظ بعض تسجيلاته وتقليد أسلوبه؛ لأنه أسلوب لم نعهد مثله، وله طريقته الخاصة في إخراج المد وأحكام التجويد بما يؤكد براعته في القراءات المختلفة وإجادته لمختلف مدارس القراءة، لكنه يؤديها بطريقة فريدة ومختلفة تماماً عن الجميع، بعكس الكثير من القراء الذين يتشابهون في الأداء".
وفي ما يصل البعض في بحثهم عن سرّ ارتباط ذلك الصوت الشجي بشهر رمضان والتصاقه به - إلى الحد الذي بات يعرف بأنه عطره - إلى كونه نتيجة طبيعية تراكمية لرسائل الأثير عبر عقود من الزمن، يتجه آخرون إلى اعتبار تجميد المادة لعقدين من الزمن أعقبت الثورة هو الذي أعاد شغف الأجيال بها عند عودتها محملة بالذكريات، غير أن من الأفضل أن يظل سر ذلك الارتباط الوثيق مبهماً ومتاحاً للتحليل والتفسير، عن واحد من الأصوات الخالدة في ذاكرة ووجدان شعب بأكمله.