الفنّ والاقتصاد: كيف تصنع السوق الذائقة؟
كيف يعمل الاقتصاد الاستتيقي على تسليع العمل الفنيّ؟ وكيف يصير الذوق وظيفة اجتماعية داخل فضاء مُعَوْلَم؟
يتكوّن في البنية العميقة للفن المعاصر، ما يمكن تسميته الاقتصاد الإستتيقي (الجمالي)، أو الفني بشكل عام، وهو ليس مجرد تزاوج بين الفن ورأس المال بالمعنى الضيق، وإنما هو إعادة صياغة أنطولوجية لمفهوم الفنّ والغرض الفنيّ ذاته بوصفه قيمة تبادلية قابلة للتداول والتأويل.
إذ لا يكتفي الاقتصاد الاستتيقي بتسليع العمل الفنيّ، فهو بموازاة ذلك يعيد تشكيل آليات الإحساس نفسها، بحيث يصير الذوق وظيفة اجتماعية تُنظّم الرغبة وتدير التلقي داخل فضاء واقعي أو رقمي وشبكيّ مُعَوْلَم.
في هذا الأفق، يتحول الفن - والجمال نفسه - إلى معادلة رمزية معقّدة، لا تُقاس بالمعايير الكلاسيكية للانسجام أو الدهشة أو اللذة أو المتعة، وإنما بمؤشرات السوق، وبنسب المتابعة والطلب، وبمستوى التداول في المزادات وفي المنصات الرقمية.
ذلك أن القيمة الجمالية اليوم هي أثر اجتماعي خالص، تعرّف وفق الفيلسوف الألماني-الكوري المعاصر، بيونغ شول هان (Byung- Chul Han)، بالإعجاب المفرط المُقاس بعدد اللايكات (Likes).. وهي، أي القيمة، في الوقت ذاته أثر اقتصاديّ ناعم، يشتغل على اللاوعي الجماعي ليُنتج متعةً مشروطة بآليات العرض والاستهلاك.
يتأسس الاقتصاد الإستتيقي بالتالي، على منطق مزدوج، فهو من جهة يستثمر في الحسّ ويُحوّله إلى رأسمال، ومن جهة أخرى يُخضع الحسّ إلى البرمجة الرمزية، فيصبح الإدراك الفنيّ نفسه إنتاجاً اقتصادياً.
يمكن القول إن الفن يكاد لا يغدو حدثاً ذهنياً أو تجربة حسيّة، إذ إنه مهدد أن يصير نمطاً من أنماط "الإنتاج الثقافي" المُعَوْلَم، يدخله ضمن "اقتصاد التجربة" (experience economy) الذي يجعل من كل انفعال قابلاً للتسويق، ضمن سياق "الصناعة الثقافية" أو حتى "صناعات الترفيه" في بعض الأحيان. إذ إن الأعمال التركيبية والإنشائية الكبرى، والعروض الجسدية، وحتى الفنون الرقمية الغامرة (Immersive Art) كلها نماذج لهذا التحول، حيث يعيش المتلقي تجربة محسوبة مسبقاً في زمن وفضاء مضبوطين، بينما تُقاس قيمة التجربة بمستوى انتشارها الإعلامي لا بعمقها الوجودي.
يعدّ الاقتصاد الاستتيقي كذلك نظاماً للتداول الرمزي للمعنى. كل عمل فني يخلق قيمة لأنه يضيف وحدة رمزية جديدة إلى السوق الثقافية. وحين تُصبح الرموز نفسها نادرة، تتصاعد قيمتها مثل الأسهم. بهذا المنطق، الفنان الناجح هو من يخلق فرادته في سوق مكتظّ بالتكرار. غير أنّ هذه الندرة ليست استتيقية خالصة، وإنما خلافاً لذلك تكاد تكون مصنوعة - أو مُصطنعة - بذكاء عبر أدوات الاقتصاد، المتمثل في الحملات الدعائية، والسرديات المرافقة، والخطاب النقدي المؤسّس، والشبكات الاجتماعية التي تروّج المعنى كسلعة.
تتجسد ههنا فكرة الفيلسوف الفرنسي، جان بودريار، عن "القيمة الرمزية" حيث لا يُقاس الشيء بما هو عليه، لكن بما يُنتجه من علامات. فيتحول الجمال إلى محاكاة للندرة، وإلى أثر زائف للحقيقة، وإلى انعكاس لرغبة مضخّمة بالاجترار.
الاستهلاك الرمزي
-
مرينا أبراموفيتش
من منطلق آخر، ما يجعل الاقتصاد الاستتيقي أكثر تعقيداً أنه لا يفرض نفسه من الخارج على الفن، لكنه ينبثق من داخله. إذ إن الفنان ذاته صار فاعلاً اقتصادياً واعياً، يدير صورته ورأسماله الرمزي كما يُدير رجل الأعمال مشروعه، تحت مسمى "الفنان - المقاول". فالحدود بين الإبداع والإدارة تلاشت، وصار العمل الفني بنية تفاعلية بين الحسّ والمعلومة، بين الفكرة وسياقها التجاري.
إن أعمال داميان هيرست (Damien Hirst) - على سبيل المثال - ليست سوى مختبر لهذا النموذج الجديد. فحين يبيع أحد أعماله (سنة 2007)، المكون من الجمجمة المرصعة بالألماس، بملايين الدولارات، فإن الجمال هنا لا ينفصل عن منطق التسويق. لكنه في الآن ذاته يخلق خطاباً نقدياً من داخل هذا النظام، كأن السوق تحاكم نفسها من خلال الجمال الذي تبتلعه. بينما تأتي تجربة تاكاشي موراكامي لتؤكد هذا البعد، وهو الفنان صاحب مقاومة ضخمة تشغّل خلف أسوارها نحو 500 عامل، في مختلف مجالات تطبيق العمل الذي "اقترحه" موراكامي، من دون حاجة بالضرورة لإعمال يده في مرحلة من مراحل الإخراج... الفنان هو الفكرة والعمال هم اليد.
ويحول المتلقي في الاقتصاد الاستتيقي، إلى مستهلك رمزي، ومقتنٍ للمتفق عليه أنه غرض فني، أي أنه لا يشتري سوى "التوقيع" أو بلغة التجارة: "العلامة". إذ لم يعد ذوقه فردياً أو حراً، حيث إنه يكاد يُشكَّل كليّاً عبر خوارزميات التوصية والتصنيف، أي عبر سلطة الصورة الرقمية التي تقترح عليه ما ينبغي أن يعجب به، وما ينبغي أن يُحب وما لا ينبغي له، بل إن منصات معينة تفرض فقط صيغة الإعجاب المفرط، الذي يجعلنا غير قادرين على التفرقة بين الرأي ومخالفه.
هكذا تُعاد برمجة الذائقة لتصبح امتداداً لسوق ذكي يعرف رغباتنا قبل أن نعبّر عنها. فالذوق لم يعد فعلاً ثقافياً بقدر ما هو نتيجة تحليل بيانات ضخمة. هنا يتجسد ما تنبأ به بورديو في مفهومه عن "العنف الرمزي"، لكنّه يأخذ شكلاً جديداً، المتجسد في عنف ناعم يمارسه النظام الرقمي على الحسّ من خلال اللذة. والجمال في هذه الحال يتحول إلى تقنية للضبط الاجتماعي، وإلى وسيلة لإدارة المتعة الجماعية بما يضمن استقرار السوق الرمزية للعالم.
ومنه فإن الاقتصاد الاستتيقي لا يدمّر الفن، بل يضعه إزاء أزمة مستجدة، ويعيد تعريفه ضمن سياق ما تفرضه المعاصرة على مجمل الأصعدة الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. فكلما ازداد اندماج "الفعل الفني" في السوق، ازداد وعيه بذاته كفعل نقدي داخل هذا الاندماج. والفن الذي يتعامل مع السوق عبر الخضوع تارة والتمرد تارة أخرى، إذ يستخدمها كفضاء للعرض، وكأداة لفضح بنية القيمة.
أعمال مرينا أبراموفيتش مثال حيّ يكشف هذا الوجه المزدوج، حيث يتحول الجسد إلى رأسمال رمزي، لكن استعماله في الفعل الفني يعرّي السوق من داخلها.
وحين تعرض أبراموفيتش جسدها أمام الجمهور كشيء متاح للتفاعل، فإنها تضع المتلقي في موضع المشتري، لتكشف له أن الرغبة في التملك ليست سوى جوهر السوق والجمال معاً.
أما في المستوى الأنثروبولوجي، فإن الاقتصاد الاستتيقي يُعيد إنتاج العلاقة بين الإنسان والأثر. إذ صار الفن وسيطاً بين الذات (المبدعة، وحتى المتلقية) والسوق ولم تعد وسيطاً بين الذات والعالم، حيث يسعى الإنسان عبر اقتناء منجز ما أن يمنحه هوية داخل فوضى الاستهلاك، فيشتري عملاً فنياً كما يشتري معنى جاهزاً للوجود، وأحياناً يشتري "قيمة" اجتماعية تُقاس بما اقتناه من عمل وما دفع في حقّه من "مال"، وفق ما يقول عنه الناقد العربي طلال معلا على أنه "[الشغف] المتأتي من أنانية الرغبة في امتلاك الأشياء، ومن خلال الرغبة لامتلاكها من قبل الآخرين، والرغبة الفجة نسبياً في منع الآخرين من امتلاكها" (الفن والمال، ص. 30).
غير أن هذه الهوية لا تكتمل إلا بقدر ما يعترف بها الآخر، أي السوق نفسها. هنا يتحول الحكم الجمالي إلى اعتراف اجتماعي، إلى عقد رمزي بين الفرد والجماعة. فالجمال لم يعد تجربة وجودية فحسب، في ظل هيمنة ثقافة المال ورأس المال، لكنه تجربة اعتراف متبادل داخل بنية اقتصادية رمزية.
لغة جديدة للفن
-
داميان هيرست
في هذا السياق، يمكن النظر إلى الاقتصاد الاستتيقي كمرحلة جديدة في تاريخ الفن، حيث لا يعود هذا الأخير في مواجهة الاقتصاد، بل يصير الاقتصاد نفسه مادة استتيقية.
الأرقام، والإحصاءات، والبيانات، والعقود، والرموز التجارية تتحول كلها إلى مواد تشكيلية، وإلى لغة جديدة للفن. هذا ما نراه في أعمال الفنانة الأميركية، ماي كيلّي (Mary Kelly) التي اشتغلت على مشروعها الشهير "وثيقة ما بعد الولادة" (1973–1979) كمشروع توثيقي مفصل يجمع جداول تغذية، مخططات، مفكرات يومية، بطاقات إطعام، قطع من ملابس الطفل، عناصر مؤرشفة ووحدات نصية وتحليلية.
عبر هذا التجميع تتحول معطيات الحياة الرتيبة والمالية والمادية للمنزل إلى مادة فنية تؤشر على توزيع العمل المنزلي، وتشغيل اللغة الاجتماعيّة، وإعادة صياغة قيمة العمل غير المدفوع الذي تؤديه الأمهات. فتعرُّضها للمواد اليومية كـ"جداول تغذية" و"سجلات"... ما يجعل من الملفّات والملاحظات الوثائقية أشباه فواتير ومحاضر اقتصادية دقيقة لهذه العناية التي تُعاش داخل البيت وتحكّم مفعول الاقتصاد الجزئي في تكوين الذات النسوية.
تعيد هذه الممارسة للغة اليومية قوتها الاستتيقية، وتُحوّل المال إلى سرد، والمحاسبة إلى شعر بصري. أما الاقتصاد هنا فلم يعد نقيضاً للجمال، إذ صار جسده الداخلي.
وإذا كان بورديو قد بيّن أن الذوق أداة للتمييز الطبقي، فإن الاقتصاد الاستتيقي يُظهر أن الذوق أصبح أداة لإعادة إنتاج السوق ذاتها. فكل تمييز جديد في الذوق ينتج طبقة جديدة من المستهلكين، وكل حركة فنية بديلة تتحول سريعاً إلى تيار قابل للتسويق.
وبالتالي، فإن المقاومة لم تعد خارج النظام، إنما هي أحد أشكاله. مما يجعل الفن المعاصر أكثر حيوية وتعقيداً، لكونه لا يتوقف عن إنتاج نقده الذاتي من داخل آلياته. فكل عمل فني ناجح اليوم هو في الوقت ذاته تسويق لمساءلة السوق.
وهكذا يُمكن القول إن الاقتصاد الاستتيقي يفتح باباً مغايراً للفكر. إذ يربط بين الفعل الفني والاقتصاد السياسي للرموز. فالفن لم يعد مجرّد حقل للتعبير، بل مختبراً لإنتاج نماذج جديدة من القيمة، تتجاوز التقابل التقليدي بين الروح والمادة. فالقيمة الجمالية ههنا هي شكلها المتعالي ولم تعد نفياً للقيمة الاقتصادية، وهي صورتها الرمزية في العالم المعاصر. ومن ثم فإن الفن بهذا المعنى يواصل فعله التحرري لا ضد السوق، وحتى من داخلها، حين يحوّل آلياتها إلى استعارة لوجود الإنسان ذاته. فالسوق ليست سوى صورة معاصرة للعالم، والفن هو التجربة التي تُعيد تأويل هذه الصورة عبر الحلم والرغبة والخيال.
هكذا يستحيل الاقتصاد الاستتيقي من نظرية في تداخل الفن والمال، إلى عملية تحول في الحسّ نفسه إلى بنية اقتصادية رمزية، وفي استبدال الجمال كمفهوم ميتافيزيقي بالجمال كطاقة تداول رمزي.
إنها مرحلة جديدة في تاريخ الذائقة، حيث يُصبح الفعل الفني مجالاً لتجريب الممكن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي في آن واحد. والفن المعاصر بهذا الوعي لا يذوب في السوق، إذ يستخدمها كمرآة لزمنه، وكجهاز يختبر من خلاله الإنسان حدود المعنى في عالم لم يعد يفرّق بين القيمة والسعر، بين الجمال والرغبة، بين الحرية والمضاربة.
الاقتصاد السياسي للرموز
-
تاكاشي موراكامي
يقودنا كل المعطى أعلاه إلى خلاصة مفادها أن الاقتصاد الاستتيقي هو نظام جديد لإنتاج الذوق والرمز في آن واحد، لا يشتغل فقط على تحويل الفعل الفني إلى فعل تسليع وإنما على تحويل الحسّ نفسه إلى بنية اقتصادية قابلة للتداول.
إنّه البنية التي تعيد برمجة الإدراك الاستتيقي داخل منظومة العولمة الرمزية، حيث يصبح الحكم الفني تعبيراً عن منطق العرض والطلب أكثر مما هو عن الوجدان أو الحدس. هذا النظام لا يهيمن عبر الإكراه ولكن عبر المتعة، فهو يسوّق الجمال من خلال اللذة المتحركة لا إيروسي فيها أحياناً، ويخلق ذائقة جماعية محكومة بالخوارزميات والتسويق البصري، بحيث يُستبدل التلقي الحر بمشاهدة محسوبة مسبقاً. والفن ضمن هذا النظام لا يفقد استقلاله، إذ يعيد تعريف ذاته كجهاز نقدي داخل منظومة السوق، يفضح منطق القيمة عبر تحويله إلى مادة تشكيلية ومعنى رمزي، لكونه ينطوي على الجانب الإنساني دائماً الكائن في فعل المقاومة بمعناها الدولوزي.
ويتبيّن من خلال هذا التصور أن الذوق في زمن الاقتصاد الاستتيقي لم يعد فعلاً ثقافياً أو طبقياً بالمعنى البورديّوي التقليدي فحسب، وإنما أصبح شكلاً من أشكال رأس المال الرمزي العالمي.
كل فعل فني يُنتج قيمة رمزية، وكل قيمة رمزية تتحوّل إلى وحدة تداول ضمن شبكة ثقافية مُعَوْلَمة. والجمال هنا لا يُقاس بالتناغم أو بالدهشة أو المفارقة أو الاستفزاز فحسب، وإنما بشكل أكبر بقدرته على توليد أثر رمزي في السوق، المتمثل في عدد الزوار، وتداول الصورة، وحدة الجدل الذي يثيره العمل... وحتى الطلب عليه.
هكذا تتحول الذائقة إلى جهاز اقتصادي للتمييز، وتصبح المقاومة الفنية جزءاً من اقتصاد الرموز ذاته، إذ سرعان ما تُستوعب كل حركة بديلة أو احتجاجية داخل السوق وتتحوّل إلى منتوج قابل للتسويق.
المخرج النظري الأعمق لهذا التحليل يتمثل في أنّ الفعل الفني لم يعد مفهوماً أنطولوجياً يتصل بالحقيقة أو الكمال، وإنما صار شكلاً من أشكال الاقتصاد السياسي للرموز. إنّه الطاقة التي تدير رغبة الإنسان في زمن مفرط في الصورة والمعلومات. غير أنه لا يلغي الاقتصاد الاستتيقي الفني، فهو يمنحه وظيفة بديلة كامنة في أن يكون مختبراً لإعادة تعريف القيمة، وتجريب العلاقة بين المعنى والرغبة، وبين الجسد والرمز، وبين الندرة والفيض.
في هذا الأفق، يصبح الفن تجربة نقدية للوجود المعاصر، تكشف أن السوق ليست نقيض الفن وإنما وجهه الآخر، حيث إن لكل فن سوقه الخاصة تبعاً لمختلف الأزمنة، كما يخبرنا المؤرخ والفيلسوف الفرنسي- البولندي كرزيستوف بومان (Krzysztof Pomain)، وأن الذائقة في عصرنا هي نظام اجتماعيّ للإحساس، تحكمه رغبة الإنسان في أن يعترف به الآخر من خلال ما يحبّ، لا من خلال ما يملك.
