بين التراث و"فوبيا التطوير".. لماذا تتفاقم ظاهرة "الخوف الثقافي"؟

فكرة أطلقها مستثمر عربي لتطوير منطقة وسط القاهرة تثير جدلاً شعبياً وثقافياً كبيراً.. لماذا؟ وهل بتنا أمام ظاهرة "الخوف الثقافي"؟

  • بين التراث و

كانت مجرد فكرة أطلقها أحد المستثمرين العرب لتطوير منطقة وسط البلد بقلب العاصمة المصرية، القاهرة، وتحويلها إلى ما يشبه "داون تاون"، أثارت جدلاً شعبياً وثقافياً كبيراً بدا أثره على حسابات مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، ما دفع الحكومة المصرية إلى الرد وتوضيح الأمر. لكن تداوُل الخبر أثار على نطاق واسع ما يشبه "فوبيا" كاملة تحتاج بالتأكيد إلى دراسة حالة.

القاهرة الخديوية

البداية كانت حين تحدث المستثمر الإماراتي، محمد العبار، لقناة "العربية Business"، في 16 شباط/فبراير 2025، عن اهتمامه بالاستثمار في مصر وإعادة هيكلة المباني الحكومية الشاغرة بمنطقة "وسط البلد"، أو ما يسمى "القاهرة الخديوية"، وقال إن شركته تسعى إلى الإسهام في تطوير تلك المنطقة في قلب العاصمة المصرية بالشراكة مع الحكومة.

رئيس مجلس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، قال إن الأنباء عن تقدم مستثمرين أجانب بعرض لتطوير منطقة وسط البلد وإنشاء محال ومولات في المنطقة كانت "جزءاً من الموضوعات التي نوقشت"، مضيفاً أنه تم بالفعل "تكليف" مكتب استشاري ليضع رؤية كاملة لتطوير منطقة وسط البلد وطرح المنشآت الموجودة فيها داخل المنطقة التي تملكها الدولة وأخلت المباني الحكومية بعد الانتقال إلى العاصمة الإدارية الجديدة.

مدبولي شدد على أن الصندوق السيادي لمصر هو الذي أصبح "يملك هذه العقارات والأصول اليوم، ويوجد عديد من الكيانات الاستثمارية، المحلية أو الدولية، أبدت اهتماماً شديداً لتشارك الدولة في تنمية هذه المنطقة".

وهذا يعني أن وسط البلد/القاهرة ليس معروضاً للبيع كما فُهم لدى كثير من متداولي الخبر.

ردود فعل عنيفة

وانتقل بعض مستخدمي مواقع التواصل مسارعين إلى التعبير عن مخاوفهم الشديدة على المباني التاريخية المصنَّفة "أثرية" لتحل محلها "كُتل خرسانية"، حسب قولهم. إذ قالت إحدى المستخدمات على منصة "إكس": "يريدون تطوير وسط البلد ويحولونها لخرسانات رمادية زجاجية كلها شبه بعض تجيب ضيق تنفس وأمراض مزمنة"، بينما تضمن رد مدبولي الفوارق بين المباني الأثرية والمباني القديمة زمنياً، وأن ليس كل قديم أثرياً.

بحثاً عن نقاش علمي

هكذا استمر تعالي الأصوات في مصر مؤخراً تجاه ما حدث لإزالة جبّانات وبنايات قديمة، البعض يصفها بـ"التاريخية" و"الأثرية"، وتراكمت الصيحات على مواقع التواصل الاجتماعي بين ضرورة تحديث مباني العاصمة مع ضرورة الحفاظ على شكلها القديم كجزء من المنظومة الحضارية، وأن يكون التجديد بعيداً عن البنية الجغرافية والمعمارية للبناء.

وفي كل حدث ينتهي الجدل إلى لا شيء، فالواقع أكثر إنباء من الكتب، وخطط الحكومات مستمرة على الأرض لأنها بالتأكيد تجري وفق أجندات تخطيط وتنفيذ، مع تعالي حالة الهلع الشعبي وتغذيتها بمفاهيم رنانة مثل "إننا نهدم تراثنا.. إننا نهدم الحضارة".

مثل هذا الهلع لم يوصلنا إلى شيء واقعياً، بل أفضى إلى مزيد من الخوف وترسيخه كفكرة لدى الشعب المصري ومثقفيه، ومنها تنبع أفكار أخرى انتهاء بالتخوين.

علي عبد الرؤوف، أستاذ العمارة والعمران، يقول إن هناك فارقاً بين "تنمية المجتمعات" و"تنمية العقارات"، مضيفاً أن العقلية الاستثمارية تخاطب "زبائن" لا مواطنين مقيمين، ولا تقدر قيمة "الاستدامة" ومصلحة الأجيال القادمة حين تفكر في إقامة أي بناء، بل إنها تميل إلى تقديم الرفاهية وجودة الخدمات اللحظية من أبراج وفنادق وملاعب غولف، وبالتالي هي تخاطب شريحة محدودة من الزبائن، سواء كانوا مواطنين بهذه الدولة أو أجانب وافدين عليها يتمتعون بقدرات مالية عالية.  

هذه الفلسفة البنائية، حسب عبد الرؤوف، لا تستمع إلى صوت المجتمع ككل، بل تلبي حاجات استهلاكية لأفراد قادرين مادياً في هذا المجتمع، سواء كانوا من أبنائه أو أجانب، وبالتالي هذا الخلط بين تنمية المجتمع وتنمية العقارات "يؤدي بنا إلى صراع طبقي وصراع مجتمعي منبته إحساس بعدم الانتماء إلى تلك البنايات الغريبة التي لا تخاطب في المواطن أي لغة سوى أمواله إن استطاع إليها سبيلاً".

لماذا الثورة على قلب القاهرة؟

لو رشح أي مستثمر لبناء مدن جديدة كالعاصمة الإدارية في مصر أو في العلمين، لا تمثل القلب من كيان الدولة وتاريخها، ربما مرَّ الخبر وما حظي بهذا الكم من الغضب، لكن وسط البلد يمثل للمصريين حالة تاريخية عمرها 150 سنة.

فوسط البلد يُنسب نهضته المعمارية إلى عصر الخديوي إسماعيل، حفيد محمد علي، ففي زيارة للخديوي إلى باريس عام 1867، طلب من الإمبراطور نابليون الثالث أن يقوم المخطط الفرنسي "هاوسمان"، الذي نفذ تخطيط باريس، بتخطيط القاهرة الخديوية بالمثل. وفي مقابلة التكليف بين الخديوي وهاوسمان، طلب إسماعيل من هاوسمان أن يُحضر معه إلى القاهرة كل بستاني وفنان مطلوب لتحقيق خططه.

هذه الحالة متكررة في تاريخ دول المنطقة، فتركيا مثلاً، نقلت كل بناء وفنان من مصر لتنمية الصناعات الفنية بالدولة العثمانية وقت احتلالها مصر، ولا ننسى هنا أن نقول إن بنايات وسط القاهرة جاءت على الطرز الفرنسية أو الإيطالية، أي إنها لا تمثل في طابعها أيضاً الحالة المصرية الفرعونية الأصيلة، وبالتالي فإن الخوف هنا مبالغ فيه وليس في محله على الإطلاق.

نظرة تاريخية

عند تولي الخديوي إسماعيل حكم مصر عام 1863، كانت حدود القاهرة تمتد من منطقة القلعة شرقاً، إلى مدافن الأزبكية وميدان العتبة غرباً، ويغلب عليها التدهور العمراني في أحيائها، ويفصلها عن النيل عدد من البرك والمستنقعات والتلال والمقابر، بمساحة لا تتخطى 500 فدان، فيما كان تعداد سكان القاهرة في ذلك الوقت لا يتجاوز 279 ألف نسمة.

أي أننا نتحدث عن منطقة عمرها نحو 150 سنة، وإذا ما قيست بعمر القاهرة كمدينة، التي أنشأها القائد الفاطمي جوهر الصقلي سنة (358هـ-969م)، فبالتأكيد سنرى أن هذه الـ150 سنة لا تمثل شيئاً كبيراً في مسيرة القاهرة عبر الزمن، وهذه قد تكون مدعاة لأصحاب الرأي القائل بأن التجديد هنا واجب وليس رفاهية.

الخوف الثقافي.. لماذا الغضب على قلب القاهرة؟

الناشر محمد هاشم، صاحب ومدير "دار ميريت للنشر والتوزيع"، وأحد المثقفين المقيمين في وسط القاهرة الخديوية، كتب على صفحته الشخصية وبلهجة حادة أنه يرفض "المساس بالوطن"، معتبراً أن فكرة الاستثمار والتطوير في وسط القاهرة "خط أحمر وغير مسموح العبث بها".

ويمكننا أيضاً أن نستحضر ما قاله المفكر الاقتصادي جودة عبد الخالق حين قال إنه "يحزن جداً حين يرى مصر تقتفي الأثر الثقافي لمدينة دبي"، مفرقاً بين التركيبة السكانية لمدينتي القاهرة ودبي.

ويبدو من هذه الشهادات الراصدة أن الخوف صار قائداً عاماً للأجواء، بما فيها أجواء الثقافة، في عالم تحكمه القوة بأشكالها المختلفة. لكن هذا لا يعني أن يكون سلاحنا الأوحد في مواجهة أي آخر هو الخوف منه والتقوقع داخل الذات، وأي تجاهل لظاهرة الخوف الثقافي لدى المجتمعات تجعل من كل المشاريع والمبادرات سطحية ودون أثر يقودنا إلى التفكير في حلول أخرى لما نواجهه من ظواهر، بحسب المفكر الاقتصادي جودة عبد الخالق.

ويضيف: "البشر بطبعهم مصابون بالخوف الفطري، خوف من الآخر الغريب، خوف من أي تغيير، من فناء الأشياء المعتادة، لكن كل هذا لن ينفعنا في العصر الحالي والعصور التالية القائمة على الاندماجات الثقافية والاقتصادية والسياسية، فمواجهة الخوف صارت ضرورة، بل يجب علينا أن نحولها إلى مشروع ثقافي في حد ذاتها، بدلاً من الاستغراق في حماية الذات بطرق تقليدية عقيمة تقودنا إلى حالة تعصُّب سيرفضها العالم".

اخترنا لك