حارة المغاربة في القدس: كتاب يؤرّخ الذاكرة الفلسطينية
باتت قضية "منحدر المغاربة" إحدى قضايا التوتر المستمرة بين "إسرائيل" واليونسكو، إذ تقوم الدول العربية الأعضاء في المنظّمة بتكرار طرح مشاريع قرارات تهدف إلى التذكير بالطابع "الإسلامي" لذلك الحيّز.
-
تحت وطأة الحائط: حارة المغاربة في القدس
أصدرت مؤسسة الدراسات الفلسطينية كتاب المؤرّخ فانسان لومير "تحت وطأة الحائط ـــــ حارة المغاربة في القدس"، دراسة تؤرّخ لرواية إسلامية في الذاكرة الفلسطينية، وهو "حصيلة أبحاث استمرّت لعدّة سنوات، تُعيد إحياء ذكرى حارة من تاريخ المغاربة في القدس تعرّضت (للمسح والمحو)، كما أنّ هذا العمل يسلّط الضوء على حارة تمّ تهجير سكانها الأصليّين، وهدمها وفسح المجال أمام إقامة ساحة تمتدّ إلى موقع حائط المبكى (حائط البراق) في أعقاب حرب الأيام الستة في حزيران/ يونيو1967.
كتاب "تحت وطاة الحائط" (رواية لزمان) بقي لفترة طويلة طي الكتمان. وللمرة الأولى، يروي المؤلف هذه العملية المخطّط لها، ورحلة نزوح السكان، وكذلك تاريخ هذه الحارة التي أسسها صلاح الدين الأيوبي سنة 1187 لاستقبال الزوّار المسلمين الآتين من المغرب العربي، كما يقدّم "إطلالة تختصر مدينة القدس، المدينة المقدّسة الواقعة في قلب التوترات الجيو ـــــ سياسية التي تهزّ المنطقة".
كتاب "تحت وطأة الحائط: حارة المغاربة في القدس حياتها وموتها"، للباحث فانسان لومير، ترجمة داود تلحمي، يقع الكتاب في 485 صفحة من القطع الكبير صادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية ـــــ بيروت 2024.
وثائق تاريخية مبعثرة
وينطلق المؤلف في رحلة البحث عن وثائق مبعثرة، بدءاً بأرشيف المؤسسات الإسلامية في القدس، وصولاً إلى أرشيف الصليب الأحمر في جنيف، مروراً بالأرشيف العثماني في إسطنبول، وشهادات السكان، والحفريات الأثرية التي كشفت مؤخّراً (والقطع والأواني المنزلية) التي دُفنت خلال عملية الهدم.
ويكشف المؤلف في كتابه أنه يقدّم موقعة تاريخية للوقف، والركيزة القانونية التي استند إليها تلك (الوقف) وبموجبها على إقامة المغاربة العابرين أو المقيمين بالقدس، ثم تاريخ "حارة المغاربة" كما جاءت في الأرشيفات العثمانية دينياً ومالياً واجتماعياً، وصولاً إلى مرحلة الانتداب البريطاني عندما بدأت تبرز مشاريع وتوجّهات صهيونية بشأن "الحائط الغربي"، فالحماية الفرنسية للحارة وذكرها في الأرشيفات الفرنسية بعد الاحتلال الإسرائيلي لجزء من التراب الفلسطيني سنة 1948 وفي العقد الموالي لذلك، قبل الوصول إلى تاريخ القرار السياسي الإسرائيلي بالطرد والتدمير في سنة 1967.
ومن الملاحظ أنه لم ينكشف للعيان فصل من التاريخ التوراتي أو من الحملات الصليبية، وإنما انكشف تاريخ أحدث زمنياً وأشدّ سخونة؛ هو تاريخ حارة المغاربة الملاصقة لحائط المبكى التي كان يعيش فيها منذ القرون الوسطى عدة مئات من السكان ذوي الأصول المغاربية، شمال أفريقيا من (المغرب الأقصى والجزائر وتونس).
ويشير المؤلف فانسان لومير في كتابه، إلى ما تمّ في نهاية المطاف من إزالة هذه الحارة ليلة 10-11 حزيران/ يونيو1967 بهدف فسح المجال لإقامة باحة واسعة أمام حائط غربي تحوّل إلى صرح تذكاري أكثر من أيّ وقت مضى. لأنّ هذا التاريخ عرضة لخطر الغرق في المجادلات المتعلّقة بتسمية المكان، وتحديداً تسمية "الحائط": "حائط المبكى" أو "حائط الدموع" وفق الأعراف المسيحية القديمة، باعتبار أنه يشهد على التأسّي اليهودي على تدمير "الهيكل" في سنة 70م، أو "الحائط الغربي"، الذي يبجّله اليهود منذ القرن السادس عشر الميلادي باعتباره من مخلّفات "هيكل القدس الثاني"؛ "حائط البُراق" لدى المسلمين، كونه يحتفي بذكرى "الرحلة الليلية للنبي محمد (صلى الله عليه وسلّم) الذي ربط فرسه المجنّح (البُراق) به قبل أن يصلي مع أنبياء العهد القديم". وهناك أسطورة مقابل أسطورة، وذاكرة مقابل ذاكرة، وأعراف دينية مقابل أعراف دينية: حتى في أروقة منظّمة اليونيسكو، تركّز الجدل في شأن "عمودية" "الحائط" وكذلك تسميته.
ويبرز الكتاب أهم ما ورد في الأرشيفات المركزية الصهيونية في القدس والتي تحتفظ بآثار محاولات شراء حارة المغاربة منذ بداية القرن العشرين وخلال الحرب العالمية الأولى، ويذكّر في بعض المراسلات، التي صدرت في ألمانيا بالتاريخ الألماني للحركة الصهيونية، كما بالفرصة التاريخية التي تمّ تشكّلها، في فترة الحرب العالمية الأولى، التحالف بين الرايخ الألماني والإمبراطورية العثمانية، وفي سنة 1929، يظهر تاريخ حارة المغاربة، من جديد في أرشيفات عصبة الأمم المحفوظة في جنيف، لكن أيضاً في الأرشيفات الشخصية للموظفين في سلطة الانتداب البريطاني، وذلك بعد المواجهات الدموية التي جرت عند وصول المنتدبين اليهود إلى "الحائط الغربي".
تدمير حارة المغاربة والسيطرة
كشف المؤلف أنّ الأرشيفات المركزية الصهيونية (Central Zionist Archives) تحتفظ بذاكرة خاصة بالصهيونية، سواء كمسعى فكري أو كمحاولة للسيطرة على الأرض، ومع ذلك، عندما بات الأمر يتعلّق لا بالدفاع عن الحق في الصلاة أمام "الحائط الغربي"، فقط، بل أصبح الهدف الصريح أيضاً هو شراء حارة المغاربة، ثم تدميرها بهدف ديني توراثي، والملاحظ عندئذ يتقاطع تاريخ الحائط مباشرة مع تاريخ الحارة، لا يتوقّف الجدولان الزمنيان بعد ذلك عن التداخل وصولاً إلى النهاية العنيفة للحارة في 10 حزيران/ يونيو1967. وجرت هذه الانعطافة بالتدريج، وفق مسار زمني مشؤوم، بدءاً بمبادرات فردية وغير منسّقة فيما بينها ابتداء من سبعينيات القرن التاسع عشر، قبل أن تستولي المؤسسات الصهيونية الكبرى على الملف ابتداءً من العُشرية الثانية للقرن العشرين. والشروع بشراء حارة المغاربة، كما لو أنّ التوترات الجيوسياسية تفتح فرصاً وتشجّع مبادرات معادية في كلّ الاتجاهات، ويكشف التحليل الدقيق للمصادر المتنوّعة المحفوظة في أنّ المنظّمات الصهيونية الكبيرة كلّها، والعناصر الفاعلة الرئيسية جميعها، انخرطت فعلاً في المشروع.
تجدر الإشارة كما وردت في كتاب فانسان لومير، إلى أنّ (الطفل ياسر عرفات) القائد الفلسطيني، أقام بين سنة 1933 إلى سنة 1936، أي حتى بلوغه السابعة من عمره، في حارة المغاربة في القدس، في المناخ المتوتر الذي أعقب مواجهات "الحائط" ومهّد للثورة المسلحة في سنة 1936. وشارك الطفل ياسر عرفات في العديد من الاجتماعات العامّة نظراً إلى ارتباط الفروع المتعددة لعائلة أبو السعود (أخواله) بالرموز الأساسية للحركة الوطنية الفلسطينية الصاعدة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أنّ "باحة الحائط الغربي"، التي تمتدّ اليوم على مساحة حارة المغاربة القديمة، هو مكان مثقل بالتاريخ القديم بصورة خاصة على الصعيدين السياسي والرمزي، ففي هذا الباحة يقوم العسكريون الإسرائيليون بأداء القَسَم، وفيها يتجمّع يهود "إسرائيل" والشتات بمناسبة أعياد الحج السنوية الكبيرة المعروفة لديهم أو للاحتفال بـــ"بار ـــــ مِتسفا".
ينبّه المؤلف في كتابه إلى أنّ هذا التاريخ للحارة، يُعتبر رهان "معرفة" لكنه أيضاً رهان "إدارك". فتاريخ حارة المغاربة في القدس ضروري لا لإثراء النقاش العمومي الراهن فقط، بل هو ضروري أيضاً لإغناء معارفنا التاريخية، بشأن عدد من الرهانات الأساسية. والاستقصاء عن تاريخ اختفاء الحارة، إنما سعى لإعادة الحياة إليها، على الأمد الطويل، منذ تأسيسها في أواخر القرن الثاني عشر، كي لا تبقى الأوضاع المأساوية "لموتها" تشكّل عائقاً أمام تاريخ "حياتها". وفعلاً فهذا التاريخ الطويل يسمح بتجديد واسع جداً لمعلوماتنا المتعلّقة بالقدس، المدينة التي هي موضوع العديد من الاستبهامات وإساءات الفهم. فهو يسمح مثلاً بإدراك ضرورة عدم الخلط بين تاريخ القدس ووقائع الصراع الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي.
تصادم الهويات الدينية
حكاية الحارة تحت وطأة الحائط، رواية مباشرة من المُفاعِل الذي يُكهرب الهويات الدينية للقدس منذ بداياتها: الهيكل؛ باحة الهيكل؛ مهد الأديان التوحيدية، قبر الإمبراطوريات. وهو هيكل أسسه، وفق التقاليد التوراتية، سليمان نحو سنة 1000 ق.م.، ودمّرته الجيوش البابلية في سنة 586 ق.م.، وأعاد الفُرس بناءه، وأعادت الجيوش الرومانية تدميره، في سنة 70م، وأُعيد تأسيسه في القرن السابع الميلادي في تكريم لرحلة نبي الإسلام الليلية، وأصبح منذ ذلك الحين يعرف بالحرم الشريف. نحن نعلم أنّ حاخام "الجيش" الإسرائيلي شلومو غورة راودته، في 7 حزيران/ يونيو 1967، فكرة تدمير قبة الصخرة، في توجّه إلى بناء الهيكل اليهودي الثالث، لكنه في تلك الساعات المشحونة يمكن أن يكون تدمير حارة المغاربة، الواقعة مباشرة ًإلى الأسفل قد بدا كأنه "أهون الشرور" أو شرّ ضروري لغرض "وضع راهن" جديد، هو تقسيم جديد للمكان وهو تحديداً ما بات اليوم عرضةً لإعادة النظر فيه فالمسلمون يحتفظون بالاستخدام الحصري لباحة الأقصى، واليهود يحفرون لأنفسهم في الأسفل من الموقع باحة جديدة للمتديّنين في أثناء مواسم الحج الرئيسية.
منذ ذلك الحين، باتت قضية "منحدر المغاربة" إحدى قضايا التوتر المستمرة بين "إسرائيل" واليونسكو، إذ تقوم الدول العربية الأعضاء في المنظّمة بتكرار طرح مشاريع قرارات تهدف إلى التذكير بالطابع "الإسلامي" لذلك الحيّز، وإلى ضرورة حماية التراث "المهدّد" وهو ما حدا الولايات المتحدة و"إسرائيل" على الانسحاب أحادي الجانب من اليونسكو في أواخر سنة 2018. وبمعزل عن السياق الجيو ـــــ سياسي المركّب الذي دارت فيه هذه القضية.
تجدر الإشارة إلى أنّ مؤلّف كتاب تحت وطأة الحائط فانسان لومير، سبق أنّ قدّمه بالمغرب في صيغته الفرنسية قبل ترجمته الجديدة إلى العربية، في إعادة تركيب لذاكرة فلسطينية مغربية مغاربية هدمت استمراراها المادي جرّافات إسرائيلية، مع وصفه هدم هذا الوقف الذي عمره ثمانية قرون بـمثابة "جريمة وكذبة دولة". بعد تدمير واعٍ لموارد حياته من أوقاف له وجدت خارجه، لتوسعته وتحويله إلى مكان مقدّس ديني إسرائيلي لهم هو "حائط المبكى"، بهجوم مباشر لتشريد ساكنيه الأصليين المغاربة والفلسطينيين بعد تسوية أملاكهم، وتاريخ وآثار المكان، ومدارسه، ومقدّساته بالأرض.