"ماءٌ وملحٌ": رسائل الحب والحريّة بين غزّة والخليل
أجمل ما في هذه الرواية أنّها تمزج بين الوطني والعاطفي، وبين المقاومة والأنوثة التي تنتظر بطلها الذي يقاوم من أجل الوصول إلى حبيبتهِ المعتقلة في سجنٍ من نوعٍ آخر، في الوطن الواحد.
-
رواية ماءٌ وملحٌ لسارة النمس: رسائل الحب والحريّة بين غزّة والخليل
تبدأ الرواية بقصة حب بين سلمى من مدينة خان يونس في قطاع غزة، وبين فارس من الخليل والمعتقل في السجون الصهيونية، تتعرف سلمى عبر الإنترنت على فارس ويتبادلان الرسائل التي تتمحور حول الحب والحرية وقضية الاعتقال وجغرافيا فلسطين والسجون، وتتعمق الرسائل في مفهوم حريّة الإنسان الفلسطيني في ممارسة مشاعرهِ العاطفية على أرضهِ، بين خان يونس في غزة وبين الخليل، تنتقل الرسائل عبر الإنترنت وتحمل معها الكثير من الأمل والألم والعشق على أرضِ الصراع الطويل، فـ "سلمى" التي تعيش في قطاع غزة، تحاول في مضمون رسائلها لـ "فارس" أن تصف طبيعة حياتها في قطاع غزة لابن الخليل فارس، الذي تعشقهُ بالرسائل، وتحكي لهُ عن الوضع والعائلة والبيت حتى يصبح واحداً من عائلتها. تدخل الرسائل في الأسلوب العاطفي والشعري السلس في سياق أدب الرسائل، وتطرح أسئلة مهمة هي: كيف نكون رومنسيين على أرضٍ محتلة؟ كيف نصنع حياةً حرّةً على أرضٍ مقيّدة؟ نعبر من مدينةٍ إلى مدينةٍ من دون حواجز وجنود ومعتقلات واحتلالٍ بغيض، نحلمُ ونحب، هكذا كانت تطرح سلمى فكرتها في رسائلها إلى حبيبها فارس المعتقل في الضفة الغربية، ولا سيما في الصفحة الرقم " 203" أول فصل رقم " 51" تقول:
"في شوارع مدينتي، أشعرُ أنّني أسيرُ بلا رأسٍ، كما لو كنتُ أتركهُ على أحد الرفوف وأخرجُ، هل جرّبت هذا؟ أي أن تحسّ بأنّك متواجدٌ بين الناس بلا رأسكَ، ربّما لأنّهم حكموا عليك بالغباء، أو يعتقدون بأنّ التفكير بحريّةٍ في كل ما يخصُّ الحياة ليس أحد حقوقك".
تحاول الرواية إيصال رسائل كثيرة غير رسائل الحب بين ابنة غزة وابن الخليل، بل رسائل عن صعوبة ممارسة الحياة الطبيعية في واقعٍ غير طبيعيٍّ، بسبب الاحتلال الصهيوني الذي يحاصر حياة الفلسطينيين كلّها، ويمنعهم من ممارسة أصغر التفاصيل، كما تضيء الرواية على مقاومة الاحتلال وفكرة البطولة في الفداء والتضحية والشهادة في سبيل تحرير الأرض وكرامة الإنسان وحريّته، حيث يظهر مشهد تنفيذ العمليات الفدائية، بينما تلاحق سلطات الاحتلال الشاب منفذ العملية "كرم" وتعتقلهُ، فتقول لهُ في إحدى الرسائل، صفحة " 187": "علمتُ أنّ رجلاً آخر اعتُقل اشتباهاً بكونه "كرم". هذا الخبر أسعدني، لأنّهُ يزيد من حظوظ ألّا يكون كرم أنت، لم يفصلوا بعد في قضيّتك ولا أخلوا سبيلك، فأنت كما قالوا خطرٌ على أمنهم".
كما ظهر في خاتمة الرواية حين تلتقي به، بعد أن يخرج من المعتقل ويقرر أن يتزوجها، فيسافر من الخليل في الضفّة الغربية إلى الأردن عبر الجسر، ويسافر من الأردن إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى رفح، ويدخل قطاع غزة بعد رحلة مريرةٍ عبر الحواجز والحدود، بينما يعيش هو وهي في بلدٍ واحدٍ، ومن المفترض أن يعبر عبوراً عاديّاً من مدينةٍ إلى مدينةٍ، لكن الاحتلال فرض كل هذا الحصار لكي يمنع الإنسان الفلسطيني من أن يصل إلى نفسه، وإلى الإنسان الفلسطيني الذي ينتظرهُ في الجهة الأخرى من القلب، فهذا الحب اكتمل عبر الرسائل في الفضاء الافتراضي الذي لا يعرف المسافات ولا الحواجز، وظلّ محاصراً بصعوبة الوصول، وتتخيّل سلمى شكل حبيبها فارس، وتنتظرهُ بفارغ الصبر، وكأنّها ترسمُ لهُ عالماً جديداً كما قالت، وكأنّها كالطفلة التي تبدأ باكتشاف الحياة من جديد معهُ، وتعيش ذوبان البحث عن "فارس" في الحقيقة، تعيش الهواجس وتحسُّ بقدومهِ، وتبوح دائماً: أنت هنا في هذا العالم، وتحاول كثيراً الهروب من الافتراض المتخيّل إلى لمس الواقع الحقيقي، لا تريد "فارس" الإحساس الغامض والمبهم وكاتم الأسرار عن حقيقة حياته، تريد "فارس" الحقيقي الواضح والشغوف بقدر شغفها لرؤيته، وخصوصاً أنّها تراسلهُ منذ سنوات، وتكشف لهُ أنّها في عمر السابعة والعشرين وستدخل للثلاثين من أنوثتها، أمّا هو فغير معروف عنهُ الكثير سوى المعتقل، ربّما، لأنّ رسائله صعبة الوصول بسبب الرقابة وسلطات الإحتلال في السجون تمنع خروج الرسائل، لكن كما كشفت الروائية سارة النمس في خاتمة الرواية، أنّ الرسائل كانت ترسل عبر محامي الأسير، بطريقةٍ ما. إنّ أجمل ما في هذه الرواية أنّها تمزج بين الوطني والعاطفي، وبين المقاومة والأنوثة التي تنتظر بطلها الذي يقاوم من أجل الوصول إلى حبيبتهِ المعتقلة في سجنٍ من نوعٍ آخر، في الوطن الواحد.
تستمر رسائل سلمى وفارس رغم الاحتلال الصهيوني في فلسطين، رسائل الحب بينهما لها معانٍ عديدةٍ في الرواية، هي إحدى المعارك من أجل العناق المقدّس بينهما، في وطنٍ تقطعت فيه أوصال مدنه وقراهُ، لكن لم تتقطع أحلامهُ للوصول إلى لحظة العناق تلك، ولم تغب رمزية الهويّة والإبادة عن رسائل العشّاق في الرواية، فتظهر اللغة العامية في اللهجة الفلسطينية، تأكيداً للتمسك بها، وأنّ حزن شعبنا الفلسطيني هو واحد من العائلة، وتقصد بأنّ عائلة الأحزان كثيرة فينا، وهذا ما يعكس مشهد المعاناة في التراجيديا الفلسطينية. وفي الفصل الأخير المعنون بـ" المكالمة الهاتفية الثانية: وكأنّ الرسائل تطورت إلى مكالمات هاتفية بين سلمى وفارس، ما يعني اقتراب اللقاء المنتظر بينهما، أو ربما قد أفرج عن "فارس"، وأصبح باستطاعته التواصل معها هاتفياً، كي يسافر من بلدٍ إلى بلدٍ كي يصل غزة ويتزوجها.
وفي الختام حين ننتهي من قراءة الروية نظنّ أنّ الروائية فلسطينية، مع الإشارة إلى أنّ الروائية سارة النمس هي جزائرية الجنسية، كتبت رواية "ماء وملح" ما يدلُّ على قدرتها المعرفية في جغرافيا فلسطين، ومعابرها وحواجزها وتفاصيل الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال الصهيوني.