رواية "مصائد الرياح": رواية الماضي والحاضر في الملهاة الفلسطينية
"مصائد الرياح" هي النكبات والمجازر والتحدّيات الصعبة التي عاشتها القضية الفلسطينية من المنافي إلى السجون إلى الخداع والنفاق والدكتاتورية والخذلان والصمت.
-
رواية "مصائد الرياح" لابراهيم نصرالله
عشتُ في رواية "مصائد الرياح" منذُ الصفحات الأولى منها، هذه الرواية هي رواية الحلم البشري من ماضيه حتى حاضره، تضع القارئ أمام أسئلة الوجود الكبيرة، ما هي حكايتهُ الإنسانية؟ كيف كانت بدايتهُ وكيف ستكون نهايتهُ؟ ومَن يكون في العالم الكبير؟ ومن بين هذه الأسئلة الوجودية القضية الفلسطينية كقضية مصيرية وإنسانية طويلة، وتشتبك فيها المسارات والرحلات الكبرى، بين الأمكنة والأزمنة، من فلسطين إلى بريطانيا، إلى العالم العربي، مع الارتباط بالشخصيات ارتباط الواقع بالمتخيّل، وتفكيك الرمز بالسرد البسيط، وعدم التخلّي عن المعنى الكبير في ما ورائيات المعنى، وثلاث نساء: من ليديا إلى إميلي "صاحبة الصرخة" التي تبدو أنّها إنكليزية يهودية حتى أحلام التي تبدو أنّها أحلام "الرّاوي العليم"، الرّاوي العليم الذي هو الشخصيّة الجوهريّة في الرواية، ولم يغب عالم الخيل عن الرواية، حيثُ المزرعة والحصان وصفاته ومعانيه ورمزيّته تأخذ المساحة الأكبر في هذه الرواية، للتعبير عن الثورة في داخل كلّ إنسان، مثلما قال الكاتب، وأهمّ من ذلك في الإضاءة على المقاومة المستمرة في داخل كلّ فلسطيني، هو مشهد: "الحصان والجدّ"، أي جدّ "الراوي العليم" في رواية جدّه التي كتبها أوّل مرّة بعنوان: "كما قالت الخيل"، وقرأ منها في محاضرة له في منشستر في بريطانيا، وصرخت في وجهه إميلي وقالت لهُ: "أنت تتعرّض لمحو تاريخ جدّي أنا"، وصارت تكره روايتهُ.
من هنا بدأ الصِراع بين إميلي وأحلام على صاحب الرواية، وبين إميلي التي أسماها "صاحبة الصرخة" وبين صاحب الرواية الحقيقية نفسها، فيضطرّ الراوي أن يَذكر اقتباسات من روايته السابقة في روايتهِ الجديدة، كي يستعيد الماضي إلى حاضرهِ، ويكمل تسلسليّة السرديّة الفلسطينية من زمنٍ إلى زمنٍ آخر، وربّما، تكون صلة وصل الشاهد إلى تاريخه الذي ما زال مستمراً، يقول في الصفحة رقم 114:
"صباح الخير، صباح الخيل، رددت عليها بتحيّتكَ التي ابتكرتها لها خصيصا ً ما إن أغفت في البعيد. "ماذا"؟ فوجئت. "صباح الخيل"، تستطيعين القول أنّ هذه التحية ولدت من أجلك. مثل "فليكن الفجر"؟...
بهذا المقطع القصير من حوارية دارت بينهُ وبينها، نكتشف فيه حضور الخيل والصباح، الرموز التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمطلع النصر المقبل، المتمثّل بصورة الضوء الصباحي، برفقة الخيل الذي يرمز لصورة المقاومة الحرّة التي تسكن في داخل كلّ إنسان حرّ، في هذا العالم، ولا يخلو الأمل والحب والتفاؤل في شكل الصباح المقبل على نضال الشعب الفلسطيني الذي يراهُ كاتبُنا إبراهيم نصر الله بأنّ نهايتهُ هي: "فليكن الفجر"، الفجر بصورتهِ الكاملة، المقبل من نواحي الخيل، وكما يقول أيضاً: "كانت لديّ الرغبة في اكتشاف عالم الخيل، لكنّني لا أخطّط للبقاء فيه"، وهنا تكمن فكرة عالم الإنسان وعلاقته بالخيل، فنحن نقاوم كي نستعيد حريّتنا، ولكنّنا أيضاً، بحاجة إلى أن نتعافى من الاحتلال نهائيّاً، ومن حقّ الجغرافيا أن تكون بلا حدودٍ ومفتوحة على حريّة الإنسان الحرّ بلا قيود.
وتكاد لا تخلو لغة الشعر عن الرواية التي تفيضُ بالرموز والتراكيب الشعريّة في لغةٍ ماتعةٍ ورشيقةٍ، تشدُّ القارئ وتجعلهُ ينسجم مع التفاصيل التي تتجاوز حدود السرد الطبيعي، إنّها عدّة روايات في روايةٍ واحدة، تمتزج فيها العوالم في رحلةٍ بشريّةٍ عبر الأجيال، وتتداخل فيها الصِراعات من أجل حقّ الإنسان بالحياة، من صِراع الهويّة وهو الكامن في إقامة "الراوي العليم" في بريطانيا وصِدامه في نقاشات حادّة حول رواياتهِ هُناك لتشكيل الهويّة، إلى صِراع التمسّك بفكرة المقاومة وعالم الخيل والجدّ ورائحة المكان الأول، إلى صِراع الحب مع اختلاف النساء من ليديا إلى إميلي وأحلام، وهو الصِراع ذاته مع كلّ هؤلاء من أجل القضية الإنسانية، يقول في صفحة 217:
"أتعرف؟ أظنّنا عشنا عمرنا كلّهُ مصائد للرياح، فكلّ ريحٍ لاهبة ملأتْ منازلنا، أو أرواحنا، أو قلوبنا، كان علينا أن نعمل المستحيل لنحوّلها نسائم أو هواء أبردَ، نطردُ به النار التي فينا أو في أيّ مكانٍ كنّا فيه، كما لو أنّ أجسادنا أبراج لتلك المنازل التي تتيح هندستها لساكنيها استخدام رياح لطرد رياح، هذا ينطبق عليك وعليّ، على حواء وآدم، وعلى الخيول، حتى الخيول، الطيور، وكثيرٍ من مخلوقات الله، كلّنا مصائد للرياح".
هذه هي الرياح التي عصفت بنا، رياح النكبات والمجازر والتحدّيات الصعبة التي عاشتها القضية الفلسطينية في كلّ محطّاتها التاريخية، من المنافي إلى السجون، إلى الخداع والنفاق والدكتاتورية، والخذلان، والصمت، فكلّها مصائد الرياح، منذ حواء وآدم، أي منذ تكوين البشرية، إلى يومنا هذا، من هنا عبرت الرواية بتحليقها فوق الفضاء المألوف في كتابة الرواية الفلسطينية، لأنّها لم تحكِ عن فلسطين فقط، بل بدأت بقضايا البشر وصولاً إلى القضية الفلسطينية كونها قضية إنسانية بامتياز، وقضية كونيّة، والصِراع مع أعدائها ليس صِراعاً جغرافياً فقط، ولا هو صراع عقائديّ فقط، بل هو صراع وجوديّ، أيضاً، وهو صراع على حريّة الخيل في الأرض.
ويتضح في الرواية كلّ ذلك، برموز ومشاهد متعددة ومختلفة، ولا سيما من خلال الروايات المتعددة في رحلة البشريّ في الأرض، لكلّ إنسانٍ حكاية، منذ الولادة، وطول عمره بطول سرد روايته، فتمتلئ الأرض بالسرديّات المتعددة، ولا يحقّ لأحد أن يُلغي سرديّة أحد، فتمسي الروايات مصير الكائنات في الأرض، وحتى الاختلاف مع الروايات أو معارضة الآخرين مع روايتهِ، هي رمزيّة حقّ الاختلاف في الأفكار المبتكرة وحريّة هذا الاختلاف، مع عدم اختلاف التعبير عن الحبّ للنساء اللواتي يختلفن في الأجناس والأعراق مع "الراوي العليم"، لكي يكتمل في القضايا القومية ما لم يكتمل بعد، في سياق الجوهر، جوهر هذا الإنسان هو حريّة ما يشتهي من أمل، رغم مصائد الرياح التي لم ولن تتوقّف أمامه، من بدايتهِ حتى نهايته.