رواية البطاقة السحرية: "نكتة العصر" أن يصبح العميل مجاهداً

في رواية "البطاقة السحرية" للكاتب محمد الساري يعالج بلغة مريرة ورقيقة في الآن ذاته "عنف العفو" الذي استيقظ عليه أصحاب المبادئ كحالة طارئة لبناء مستقبل بعيداً عن التصفيات.

  • رواية
    رواية "البطاقة السحرية" لمحمد المساري

هل انتابك يوماً ذلك الشعور الذّي تقف فيه على مقربة من العفو وشعرت لحظتها أنهم يفرضونه عليك كعنف، حيث لا يعود الوجود ينظر إلى الجناة على أنهم كذلك فقط تحت طائل "مرور الزمن"؟ "لقد مرّ وقت طويل" جملة سيضعونها داخل فمك حتى تظنّ أنّك شخص لا تحترم الغفران، سيشوّهك كونك تريد أن تواصل طريق ثورتك نحو الحرية الحقّة، وستجد نفسك ملزماً بالصمت حينما لا يعود ثمّة هدف ممّا تودّ فعله، فرفاق الأمس أنفسهم قد تشتّتوا وانضمّوا جميعهم إلى الطّرف الآخر، الطرف الذّي كان بالأمس إلى صفّ عدوهم. "لماذا لم نذبح بدورنا الصاعدين في 19 مارس، يصرخ بطل رواية "البطاقة السحرية" مصطفى عمروش، الذّين لم يتخذوا القرار إلّا بعد أن تأكّدوا من ضمان الاستقلال وضمان حياتهم بعد الإعلان عن توقّف كلّ المعارك، هكذا بكلّ بساطة أصبحوا مجاهدين ونزحوا من الجبال مع الأبطال الحقيقيّين ثم استولوا على امتيازات كثيرة من دون أن يقدّموا شيئاً للثورة، ونسوا أرامل الشهداء وأبناءهم وهم يتخبّطون في وحل الحياة الشاقّة، أسكرتنا نشوة الاستقلال وتسامحنا معهم وفتحنا لهم أذرعنا على مصراعيها" ص77، فهل هي صرخة ضدّ عنف العفو أم صرخة ثورة جديدة؟

كثيراً ما يُختار للإنسان المضي قدماً إلى جوار أشخاص كان عليهم أن يموتوا في الماضي على يده فقط لأنّ الحاضر أصدر قراره بأن يعيش الجميع تحت طائلة العفو، فقط لأنّ الماضي سويّ على الطريقة الشمولية حيث يمكن لمحكوم عليه بالموت البارحة أن يمنحه الحاضر سلطة المال من خلالها يتسنّى له شراء الرأي والتاريخ، فتعيش شخصيّة كمصطفى عمروش حالة من الغضب المكبوح، والأسف المتجدّد، والندم المستمر لأنّ جرأة الواقع على التغيير غير المنتظر تحرّك بالمقابل عداء لا يمكن التخلّص منه بالعفو الشامل، فهل في إمكان مرور الزمن محو الخزي الذّي يلاحق داخل العيون؟ 

شغلت الثورة الجزائرية كلّ الأقلام الجزائرية، إذ لا يوجد كاتب لم يتطرّق لها سواء أكانت محور عمله أم يستدعيها في أحاديث أبطاله لما لها من ظلال على الحاضر حيث لا تزال عملية الثورة مستمرة تجاه أعداء كثر غير العدو التقليدي القديم. وفي رواية "البطاقة السحرية" للكاتب محمد الساري يعالج بلغة مريرة ورقيقة في الآن ذاته "عنف العفو" الذي استيقظ عليه أصحاب المبادئ كحالة طارئة لبناء مستقبل بعيداً عن التصفيات، وفي ظلّ وجود هذا العنف الأخلاقي سيصعب العيش مع المتناقضات داخل ضمير الأخلاقيّين، لقد منحت الرواية البطل "مصطفى عمروش" كلّ النبل والصدق والشجاعة والقيمة، أورثته مجد الثورة بينما منحت "السارجان" نقيضه، فكلّ الصفات القبيحة اجتمعت فيه؛ الخساسة، الخيانة، اللصوصية، والاستغلالية.

وهنا تتصارع الشخصيتان فيما بينها في الحاضر على بعد ربع قرن من انتهاء الحرب بناء على أحداث الماضي، فمصطفى المجاهد الشهم الذي انخرط في صفوف الجهاد ضدّ الاستعمار الفرنسي لم يستطع تجاوز فكرة أن يحيا خائن الأمس بطريقة فجّة وغنى مستفزّ حصل عليه من جرّاء استغلاله للأوقات الصعبة التّي مرت بها البلاد، فيصف لنا الكاتب تلك الحسرة قائلاً: "وبعد أن التحق مصطفى عمروش بالثورة كانت تصلهم أخبار سكان عين فكرون أوّل بأوّل، من ضمنها أخبار السارجان صاحب الدكّان الوحيد وخاصة في السنوات الأخيرة المباشرة للاستقلال حين أغلقت الدكاكين الأخرى لقطع المؤنة عن المجاهدين في الجبال، وبقي وحده يتصرّف كما يشاء، يبيع لمن يريد وبرفض بيع القهوة والسكر والزيت لمن يريد أيضاً. وصلتنا أخبار أيضاً أنّ السارجان يرفض البيع لعائلات الشهداء والمجاهدين من دون أن يصارحهم بالحقيقة، فمرّة السلع مفقودة، ومرّة يغلق الدكان بمجرّد دخول أحد أعضاء هذه العائلات متحجّجاً بشغل خارج القرية" ص7. إضافة إلى رغبة السارجان في الزواج من الفتاة التّي أحبّها مصطفى، فحمّله سبب وفاتها، في نظره العاطفيّ لو لم يصرّ على الزواج منها لما التحقت بالجبال وانضمّت إليه ورفاقه لتستشهد هنالك، لقد أورثت مواقف كهذه احتقاراً مطلقاً للسارجان من طرف مصطفى، والشعور بأنه تحت طائل عنف العفو عليه أثقل حياته، لم ينعم بالاستقلال كما كان ينتظر، فأمثال السارجان لصوص التاريخ ولصوص الفرح لا يتوقّفون عن الظهور ليُشعروا الآخرين بالقدر الكبير من العجز، حيث تتنامى صورة الخائن على أنها المهيمن على القرارات، المهيمن على المستقبل، بينما توضع شخصيات مصيريّة على الهامش. 

وهكذا يعرج بنا الكاتب على السياسات القاسية والصارمة التّي انتهجتها جبهة التحرير الوطني، وكان من أهمها ملاحقة الخونة وتصفيتهم قبل التفكير في الانتصار على العدو الأجنبي، عكس أمر كهذا مدى الإصرار على مواصلة الكفاح حتى على أهل القربى، فشكّل منعرجاً ضرورياً في القرارات الثورية التّي ساعدت في تحرير الثورة من أعداء الداخل. وحينما نقرأ رواية "البطاقة السحرية" نتلمّس أسف مصطفى عمروش لأنه لم يقم بقتل السارجان ليلة حاصرته الجبهة لتحذيره داخل غرفته، إنّ موت الخائن أينما كان يعني بالنسبة للبطل عدم إنتاجه من جديد، ويحيلنا موضوع ملاحقة الخونة أولاً إلى ما يحدث على الصعيد الإقليمي اليوم، وكيف أدّى الخونة دوراً مهماً في التخلّص من قيادات المقاومة في عقر دارهم.

ودارت الرواية ككلّ حول الصراع المتواصل الذّي أنتجته ليلة أجّلت فيها الجبهة تصفية الخائن واكتفت بتحذيره، طرف يريدُ أن ينسى الماضي لبناء المستقبل، وطرف آخر يريد أن يصحّح أخطاء الماضي حتى لا يكون ثمّة قلق في بناء المستقبل. وبين هذه التجاذبات مررنا رفقة الكاتب على الكثير من المآسي، حال العوائل البائس أثناء الاحتلال وبعد الاستقلال؛ تسلّق السلطة، تفشّي النفعية، وغياب القيم والضمير. كلّ هذا الانهيار الأخلاقي شجّع السارجان على طلب "بطاقة المجاهد" ما سيسمّيها البطل مصطفى بالبطاقة السحرية والتّي سيحمل العمل عنوانها لأنها ستقلب تاريخ قرية عين فكرون ككلّ. "يريد السارجان أن يصبح مجاهداً بعد ربع قرن من الاستقلال هذه نكتة العصر، لم لا وكلّ الخونة أصبحوا يملكون هذه البطاقة كأنها خاتم سيدنا سليمان" ص12. 

يعالج الكاتب على لسان بطله أمراً بالغ الأهمية، وهو انخراط الخونة في بناء مستقبل بلاد كانوا قد باعوها بالأم، لقد أخذوا الثروة لكنهم لم يهنأوا، يريدون أن يصبحوا أبطالاً لتاريخ كانوا أنذاله، وعجزهم الأبدي عن تحقيق ذلك يضاعف شعورهم بالدونيّة حتى لو سكنوا القصور وشيّدوا المساجد. ويظهر لنا الكاتب ذلك التحوّل الرهيب داخل ضمائر شخوصه الذّي رافق مرحلة ما بعد الاستقلال، فالحاج مجبور المجاهد المبهور بثروة السارجان لم يشعر بالخجل لوقوفه ضدّ التاريخ متغطّياً بالحكمة والوعظ والنصح، إنه يمثّل خراب المستقبل الأخلاقي. "صلِّ على النبي يا مصطفى، وقدّر الموقف برزانة وحكمة، بطاقة ترضي غرور شيخ مسن، لا تضرّ أحداً فهو لم يخن على أيّ حال، وأكّد أنه دفع الاشتراكات للجبهة، نحن لا نريد مشكلات في هذه القرية، وبماله يساعد البلدية في إتمام مشاريع متعدّدة وهو مستعدّ لبناء مسجد كبير بثروته وعماله وآلاته من دون مساعدة من أحد، إنه يطلب التوبة" ص19. 

لقد سار تاريخ كامل على هذا المنطق، الثروة مقابل التحريف، فبالمال والثروة يريد أن يحسّن صورته في الماضي إبّان الثورة وتغيير التاريخ بصنع آخر جديد يكون هو فيه لامعاً، وذلك لن يحدث إلّا بحصوله على بطاقة المقاومة تلك، البطاقة السحرية التّي ستحوّله من خائن إلى مقاوم.

فهل تمّ التخلّص من الكثير من الأشخاص باستخدام "العفو" كسلاح لا كأخلاق؟ وكيف تشكّلت أجيال ما بعد الاستقلال؟

لقد شكّل عنف العفو رمزياً محكمة نفسيّة يعيش في إثرها الأخلاقيون حالة اختناق دائمة، فتلك الإرادة الفجّة على تحريف التاريخ وإعادة كتابته ظلّت البشرية إلى حدّ اليوم تدفع ثمنها في البحث عن الحقيقة وسط كلّ تلك الحقائق الملفّقة حيث لم تعد هنالك حقيقة فعليّة بل مربكة، وهذا ما رفضه مصطفى عمروش، لقد مثّل المقاومة ضدّ التزوير، كتابة اسم السارجان ضمن قوائم الشرف وهو الذّي لطالما كان عاراً على الثورة عنى له التفريط في الجزائر التّي حمل لأجلها السلاح، عنى له التوقّف عن المقاومة تحت إرادة جديدة وصفها الراوي: "كان الرأي الغالب أنّ الثورة التحريرية انتهت من زمان، فالأفضل الاهتمام بالمستقبل الاقتصادي للبلاد، ومحاولة الالتحاق بالركب الحضاري للغرب" ص81. 

فكان العفو عنفاً رمزياً في البداية، ثمّ عنفاً أخلاقياً، ثم عنفاً أيديولوجياً. فالسارجان الذّي لم يتوانَ يوماً عن تقديم أخبار المجاهدين للفرنسيّين خاصة حينما وشى بالمجاهد المصاب والمختبئ في بيت من بيوت قرية عين فكرون، وبسببه تمّ اغتياله واغتيال صاحبة البيت التّي أخفته، لم يكن إلّا مصدراً لمأزق القرية ككلّ، المكان لا يحتمل أن يعيش فيه الاثنان لهذا انتهى الأمر بمصطفى بإطلاق الرصاص على السارجان وسط المقهى، فأن يحمل السارجان "بطاقة مجاهد" يعني لدى مصطفى عمروش خيانة دم رفاقه، خيانة مستقبل الجزائر الذّي قدّم لأجلها الكثير من الشباب أرواحهم، وبين ضمير القرية ونفعية الآخرين الذّين لم تعد الثورة تعنيهم بالمعنى الثوري بل بالمعنى الرمزي تنتهي بطولة المحاسبة، ويخلق الكاتب جيلاً جديداً مثله ابن مصطفى عمروش وابنة السارجان، العداء بين الآباء والغرام بين الأبناء، الجيل الأول يصعب عليه التعايش والنسيان إذ لم يتمّ الحسم مع الماضي، أما الجيل الثاني فبإمكانه التعايش، لكنّ سطوة الماضي فتّاكة غالباً، لقد تدخّلت وحدّت من كلّ إمكان للتعايش بعد مقتل السارجان على يد مصطفى عمروش وتبخّرت قصة الحب، ومعها تبخر مستقبل الأشياء التّي ولدت تحت إرادة "عنف العفو".

اخترنا لك