شخصيته مضطربة.. نساء في حياة سيرغي يسينين: إلهام وشقاء؟
عبر علاقاته العاطفية المتعدّدة، ترك سيرغي يسينين إرثاً شعرياً كبيراً، وبينما كانت النساء في حياته مصدر إلهام، شكّلن تحدّياً لشخصيته المضطربة. من هنّ نساء سيرغي يسينين، وكيف انتهت علاقاته بهنّ؟
"في قلبي أنت/ وهذا الفراق المقدّر يعِدُ بلقاء آت/ الوداع يا صديقي، بلا مصافحة أو كلمة/ فلا تحزن ولا تغتمّ/ ليس جديداً في هذه الحياة أن نموت/ وليس جديداً، بالتأكيد، أن نحيا".
بهذه الكلمات، التي قيل إنه خطّها بدمائه، ودّع الشاعر الروسي، سيرغي يسينين (1895-1925)، الحياة، ليل الـ28 من كانون الأول/ديسمبر 1925، حين كان في أوج شهرته وانتشار أعماله.
كان يسينين أحد أشهر الشعراء الروس في القرن العشرين، وعُرف بشعره الرومانسي، الذي يعكس جمال الطبيعة والحنين إلى الريف الروسي الحزين. وتميزت قصائده، التي لا يزال الروس يرددونها إلى اليوم، باللغة البسيطة والصور الشعرية القوية.
عاش يسينين حياة قصيرة مضطربة، وكان للمرأة تأثير كبير في شعره وإبداعه، سواء من ناحية الإلهام العاطفي، أو من ناحية التحديات الشخصية التي أطّرت تجربته الإبداعية. تزوج 3 مرات وكانت لديه علاقات عاطفية بنساء خارج إطار الزواج، نعرف منهن 4. وتزامن ذلك مع معاناته مشاكل شخصية، الأمر الذي انعكس في شعره الذي بات أكثر قتامة في سنواته الأخيرة.
آنا إيزريادنوفا
-
آنا إيزريادنوفا
كان يسينين في الــ 18 من عمره حين التقى بآنا إيزريادنوفا ربيع عام 1913، بينما كانت هي في الــ 23 من عمرها، وقرّبت بينهما الاهتمامات الأدبية المشتركة. عمل آنذاك موزعاً في دار "رفاقية سيتين للنشر"، بحيث كانت تعمل مصححة، كتبت عنه: "كان يشعر بالاكتئاب، فهو شاعر، ولا أحد يفهمه. رفضت المجلات نشر قصائده، وكان والده يعاتبه لأنه لا يعمل في وظيفة جدية، بل يكتب القصائد". درسا معاً في قسم التاريخ والفلسفة التابع لجامعة ألفونس شانيافسكي الشعبية في موسكو، وما لبثا أن عاشا معاً. ترك يسينين عمله، وتفرّغ للشعر، فتولت آنّا مسؤولية إعالته، ورزقا بابنهما يوري نهاية عام 1914.
كتبت آنا في مذكراتها: "كان يسينين يُمضي كل وقته في القراءة، وينفق راتبه على الكتب والمجلات من دون التفكير في كيفية العيش"، إلا أنه كان يهتم بالمنزل، تابعت: "عندما عدت من المستشفى، وجدت المنزل في حالة ممتازة: كل شيء نظيف. الموقد مشتعل، وحتى العشاء جاهز. كان ينظر إلى الطفل بفضول ويقول: أنا أب الآن".
لكن سيرغي، الباحث عن الشهرة في بيروغراد (سان بطرسبورغ حالياً)، انفصل عن آنا ربيع عام 1915، فظلت تعتني بابنهما بمفردها، وكان يتردد عليهما أحياناً. عاش ابنهما يوري حياة قصيرة، بحيث أُعدم في عام 1937 حين كان في الــ 23 من عمره، بتهمة التحريض ضد النظام السوفياتي، إلا أنه بُرّئ من هذه التهمة بعد وفاته في الخمسينيات.
ليديا كاشينا
-
ليديا كاشينا
التقى سيرغي ابنة التاجر الثري وزوجة معلم الأدب، ليديا كاشينا، صيف عام 1916، وانخرطا في علاقة عاطفية. يقال إنه، خلال الاضطرابات الثورية عام 1917، أنقذ منزلها الريفي، الذي كانت تستضيف فيه الحفلات في قرية كونستانتينوفو، من تدميره حين تمكن من إقناع الفلاحين الثائرين بذلك. فقدت ليديا معظم ثروتها، واضطرت إلى مغادرة القرية في عام 1918. وكانت مصدر إلهام الشاعر حين ابتدع شخصية "آنا سنيغينا" في إحدى أشهر قصائده، وفيها يعود شاعر شاب إلى قريته ويقابل سنيغينا الأرستقراطية التي تفقد جميع ممتلكاتها خلال الثورة.
تقدم القصيدة شهادة عن انعكاسات الثورة على القرية، وكيف اضطرت سنيغينا إلى الهجرة نحو بريطانيا. لكن، على عكس الشخصية الأدبية، لم تهاجر ليديا، بل بقيت في روسيا وعملت مترجمة وكاتبة.
زينيدا رايخ
-
زيانيدا رايخ مع ابني يسينين
التقى يسينين زينيدا رايخ، التي كانت تعمل سكرتيرة في صحيفة "ديلو نارودا" (قضية الشعب). تردد عليها وتودد إليها فتزوجا عام 1917. سافرا إلى الشمال الروسي، وتكللا في كنيسة صغيرة في منطقة فولوغدا. عاشا معاً في بتروغراد، وتركت زينيدا رايخ عملها لتتحول إلى ربة منزل.
كتب صديق يسينين الشاعر، فلاديمير تشيرنيافسكي، في مذكراته: "كانا يعيشان حياة بسيطة لكن مريحة، وكان يسينين كثير النشر ويتقاضى أجراً جيداً كشاعر معروف"، لكن زواجهما لم يكن سعيداً، إذ كان سيرغي يُمضي لياليه في الحفلات والمطاعم، الأمر الذي أدى إلى مشاجرات متكررة بينهما. في إحدى المرات، ألقى الزوجان محبسيهما من النافذة، ثم بحثا عنهما في الظلام. رُزقا بطفلين، تاتيانا وقسطنطين، ثم انفصلا عام 1921. تزوجت زينيدا رايخ لاحقاً المخرج المسرحي فسيفولود مايرهولد، الذي تبنّى طفليْ يسينين.
ناديجدا فولبين
-
ناديجدا فولبين وابنها ألكسندر
التقى يسينين الشاعرة ناديجدا فولبين عام 1919 في مقهى "دومينو" الأدبي في موسكو، حيث كان الشعراء الشبان يحتفلون بالذكرى السنوية للثورة البلشفية. لم يرغب يسينين في الصعود إلى المنبر، لكن ناديجدا طلبت إليه أن يقرأ شيئاً. وبعد انتهاء الأمسية، تعارفا. بدأ يسينين مغازلة ناديجدا، على رغم أنه كان لا يزال متزوجاً بزينيدا رايخ. بدأت علاقتهما بعد 6 أشهر من لقائهما الأول، لكنها لم تكن خالية من المشاكل. كتبت ناديجدا: "لماذا لم تنجح علاقتنا من البداية؟ لقد كانت معقدة. كان يسينين يقول: أنتِ من أفسدتِ الأمر بظنك أنني لا أحبكِ. لكنني أحببتكِ... بطريقتي الخاصة". استمرت علاقتهما المتقطعة مدة 4 أعوام، وانفصلا نهائياً سنة 1924. بعد الانفصال، اكتشفت ناديجدا أنها حامل، وأنجبت ابنها ألكسندر في عام انفصالهما. لم يقابل يسينين ابنه سوى بضع مرات.
آيسيدورا دانكن
-
آيسيدورا دانكن
في أوائل عشرينيات القرن الماضي، زارت الراقصة الأميركية، آيسيدورا دانكن، روسيا. كانت معروفة بعروضها الراقصة، التي أثارت إعجاب العالم، كما أسست مدارس للرقص في عدد من الدول. التقت بيسينين للمرة الأولى في تشرين الأول/أكتوبر 1921 في استوديو الفنان غيورغي ياكولوف، حيث كان يجتمع الأدباء والفنانون في موسكو.
وفقاً لشهادة الممثلة آنا نيكريتينا، وقعت دانكن في حب يسينين من النظرة الأولى. أمضيا المساء كله معاً، وقرأ لها يسينين قصائده بالروسية التي لا تفقهها، ورحلا معاً، على الرغم من أن يسينين لم يعرف اي لغة أجنبية.
كتبت الشاعرة إليزافيتا ستيرسكايا: "همست دانكن بالألمانية: إنه ملاك، إنه شيطان، إنه عبقري!".
تطورت العلاقة بينهما بسرعة، وانتقل يسينين للعيش مع دانكن في منزلها الفاخر في موسكو. لكن الحياة الزوجية لم تكن سهلة بسبب الفارق الكبير في العمر (نحو 20 عاماً) والتباينات الثقافية. تكررت المشاجرات بينهما، وكان يسينين يغادر المنزل ليعيش مع أصدقائه، ثم يعود إليها ليعتذر.
تزوجا رسمياً سنة 1922 لتسهيل سفر يسينين مع دانكن إلى أوروبا. سافرا معا إلى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، ثم إلى الولايات المتحدة. خلال هذه الرحلة، كان يسينين يشعر بالاغتراب والكآبة، وكتب في إحدى رسائله: "أميركا مكان مروع... أشعر بالوحدة واليأس هنا". انفصل الزوجان سنة 1923 بعد عودتهما إلى روسيا، وغادرت دانكن البلاد ولم تعد إليها.
غالينا بينيسلافسكايا
-
غالينا بينيسلافسكايا
كانت غالينا بينيسلافسكايا صحافية تهتم بالأدب، وشاركت بانتظام في الأمسيات الشعرية في مقهى "ستويلو بيغاسا". التقت يسينين سنة 1920، وأعجبت بشخصيته الجذابة وشعره القوي. كتبت عنه: "إنه كالريح العاصفة، مليء بالحيوية والعنفوان". غدت صديقة يسينين المقربة، وساعدته على إدارة شؤونه الأدبية والمالية. بعد انفصاله عن دانكن، عاش مدة في شقتها مع شقيقته. كانت غالينا تدير مفاوضاته مع الناشرين، وتنظم حياته المهنية، مع أن يسينين نادراً ما كان يستمع إلى نصائحها. تطورت بينهما علاقة عاطفية، لكنها كانت مضطربة بسبب سلوك يسينين غير المتوقع.
كتبت غالينا: "على الرغم من الألم والمعاناة، فإن علاقتنا كانت مثل الحلم". انفصل عنها في عام 1925، وأصيبت غالينا بانهيار عصبي. بعد عام من وفاة يسينين، انتحرت على قبره.
صوفيا تولستايا
-
صوفيا تولستايا
آخر امرأة في حياة سيرغي يسينين كانت صوفيا تولستايا، حفيدة الكاتب ليف تولستوي. التقته في بداية سنة 1925 خلال أمسية في منزل غالينا بينيسلافسكايا. كتبت صوفيا لوالدتها: "أحببته من كل قلبي. كنت أعلم بأنني أحمل الصليب، لكنني لم أندم. كنت مستعدة للتضحية بكل شيء من أجله".
تزوجها سيرغي في أيلول/سبتمبر 1925، لكن الزواج لم يكن سعيداً، إذ عانى سيرغي الاكتئاب والإدمان على الكحول، وكتب: "كل أحلامي تتهاوى. الحياة الزوجية لا تسير كما أرغب".
خريف ذلك العام، دخل سيرغي عيادة للأمراض النفسية، لكنه غادرها مبكّراً، وقرر الانفصال عن صوفيا. توفي يسينين في كانون الأول/ديسمبر 1925 في ظروف غامضة. بعد وفاته، افتتحت صوفيا متحفاً لتخليد ذكراه في موسكو، وحافظت على أرشيفه الأدبي طوال حياتها.
***
تجدر الإشارة إلى أن محاولات الشاعر المستميتة لإيقاع الممثلة الشابة آفغوستا ميكلاشيفسكايا في حباله شكلت صدمة حقيقية له. لقد لهث يسينين وراءها طويلاً، إلا أنها ظلت بعيدة عن متناول يده، حتى إنها لم تسمح له بطبع قبلة على خدها. لم يكن سيرغي معتاداً هذه المعاملة من النساء اللواتي يُفتتنّ به عادة، لذلك حاول عبر كل السبل أن يكسب ودها، فكان ينتظرها بعد العمل على خشبة المسرح، ويشق طريقه إليها وراء الكواليس، ويمطرها بالزهور، كما أنه خصص لها مجموعة كاملة من قصائده، حملت عنوان "حب المشاغب". لكن كل محاولاته باءت بالفشل، ولم تسمح آفغوستا لزير النساء بالاقتراب منها، ومع مرور الوقت توقف عن الاتصال بها.
ترى الباحثة الأدبية، مارغاريتا كوفينيفا، أن يسينين، عبر علاقاته العاطفية المتعددة، ترك إرثاً شعرياً يعكس تجاربه الإنسانية العميقة. كانت النساء في حياته مصدر إلهام لشعره، لكنهن أيضاً شكلن تحدياً لشخصيته المضطربة. لكن، حتى اليوم، وعلى الرغم من حياته القصيرة، فإنه يبقي واحداً من أعظم الشعراء الروس، وتستمر قصائده في إلهام القراء حول العالم.