شوقي أبي شقرا: ثلاثية الشاعر والقارئ والقصيدة

لماذا يعتبر شوقي أبي شقرا من أبرز وجوه قصيدة النثر في لبنان؟ وكيف تختلف نصوصه عن غيرها من النصوص الشعرية؟

  • لغة شوقي أبي شقرا  تشكل مع جموع عناصره حجر الأساس لكتابة حرّة وفريدة
    لغة شوقي أبي شقرا تشكّل مع جموع عناصره حجر الأساس لكتابة حرّة وفريدة

يكفي أن يقول أحدهم "قصيدة النثر" ليُذكّرنا بجدلٍ أدبيّ عفا عليه الزّمن، فما عادت هذه القصيدة مثار خلاف كما في الماضي، بل أصبحت اليوم لغة الشّعر السائدة. فكيف إن تجرّأ المرء أيضاً وقال الشاعر شوقي أبي شقرا؟ ذلك أن هوية شوقي الشعرية، بعكس ما يُظن، ليست ضبابية أبداً، بل هي واضحة كوضوح بصمته في تاريخ الحداثة.

أبي شقرا أحد أبرز وجوه قصيدة النثر في لبنان، وارتبط اسمه بمجلة "شعر" وحركتها التأسيسية، حتى صار رمزاً لتجربة ضخمة في الشعر العربي. لكن أبي شقرا، برغم هذا، لا يسهّل على القارئ أو الناقد مهمّة التقاط مقاصده، إذ إنه لا يكتب ضمن تيّارٍ معلّب أو إطار جاهز.

وفي خضمّ داخل هذه المعمعة النقدية والأكاديمية، تنفرد موهبته في نسج إيقاعه الخاص والداخلي في نصوصه، حتى يصبح الانسياب شعوراً غريباً في نفس قارئه وهو ينتقل من جملة لأخرى، ومن نصّ لآخر.

لغة شوقي أبي شقرا، التي لا تشبه لغة أيّ عصرٍ، أو علمٍ، أو إنسانٍ حتى، تشكّل، مع جموع عناصره، حجر الأساس لكتابة حرّة وفريدة تتحرّر من مختبرات النقد والتنظير لتنطلق في فضاءات الخيال الصّادق. بمعنى آخر، يفتدي شوقي بنفسه اللغة الحرة والفانتازيا الصادقة بكتابته هذه كأنه يحسم المعركة فور دخوله قائلاً: "إلّا الشعر".

هندسة النّص

  • الابتداء من منتصف الحدث والانتهاء قبل ختامه تمنح نصوص شوقي أبي شقرا غنائية طرية
    الابتداء من منتصف الحدث والانتهاء قبل ختامه تمنح نصوص شوقي أبي شقرا غنائية طرية

تتميّز معظم نصوص شوقي أبي شقرا بغياب حسيّ ودلالي لمطلع أو مقدّمة من جهة، ولخاتمة أو خلاصة من جهة أخرى. تبدأ قراءة نصّه كأنك تفتح باب غرفة والحفلة فيها قد بدأت مسبقاً، ثم تعيد إغلاقه بعدما تكون قد أعمتك الفانتازيا، والحفلة لا تزال في أوجها.

هنا يتضح لنا أن نصوص شوقي أبي شقرا مبنية على علاقة ثلاثية بينه والقارئ والقصيدة، كل واحدة منها مستقلة عن الأخرى. وهذه البنية الشعرية للنص تُدخل معها هندسة مغايرة له، كما أنها تولّد معها إيقاعاً داخلياً مستقلاً عن القارئ ومكثّفاً داخل النص.

إنّ عملية الابتداء من منتصف الحدث والانتهاء قبل ختامه، تمنح نصوص شوقي أبي شقرا غنائية طرية وجلية، تتمسّك بها الكلمات والمفردات وحتى العبارات، لتصنع منها قصة (قصة ما حصل رغم كل ما كان يحصل حوله)، ولتؤجّج بها المشاعر وتفرض الفانتازيا الباسمة كقناع فوق الحزن، وتُدخل الأحاسيس كبراهين، والانفعالات كأحداث مرجعية.

غنائية الشاعر اللبناني أبي شقرا رائحة غريبة تفتح شهيّتنا كأنّنا نشمّها للمرّة الأولى. وهذه الأخيرة نتيجة لغة راقصة، لغة لا تُعيّن بل تبعثر أمامها، لغة ترفض أن تُسأل وتهرب من جميع الأجوبة. إن النمطية الدلالية المغايرة في نصوص وقصائد أبي شقرا تعمل بالتزامن مع علاقته المباشرة بالقارئ كأنه الجني القادر على كل شيء، ومع علاقة القارئ بالنص كأن ذاك الأول هو الشاهد الذي تواجد بالصدفة أمام هذا الأخير. وهذه الديناميكية الدلالية تمنح إيقاعاً متوافقاً مع الفانتازيا لتسهّل على لسان القارئ ما يصعب على مخيّلته.

جملة ثابتة في الخيال الخصب 

  • الجملة الاسمية عند أبي شقرا ليست للتنبيه أو للإشارة
    الجملة الاسمية عند أبي شقرا ليست للتنبيه أو للإشارة

لا يعمل شوقي أبي شقرا فقط على تفكيك هندسة النص أو القصيدة الكلاسيكية، مستعيناً حصراً بإطار سرديّ مخالف لجميع البنيات السردية، إنما يجعل من الجملة جملته، فيدسّ فيها الحركة من دون أفعال، ويضغط الفانتازيا فيها حتى تنفجر في مخيلة القارئ وفي إيقاع النص.

ومن أهم التراكيب اللّغوية التي يوظّفها شوقي أبي شقرا في خدمة عجائبه وغرائبه: الجملة الاسمية.

يقول أبي شقرا في كتابه "ماء إلى حصان العائلة" (1995) مثلاً: "الأجراس قرص عسل"، "البغل محارب قديم"، "القبوط حبة لوز طائرة".

ثم نرى أمثلة مشابهة في كتابه الآخر "سنجاب يقع من البرج" (2004) على سبيل المثال: "الشمس حمارة في الحساب"، "العصرونية عروس لبنة وشمس ورغيف غابة"، "حبيبتي عالية 1500 متر".

الفارق بين الكتابين ما يقارب 10 سنوات، وجملة شوقي أبي شقرا ثابتة في الخيال الخصب كما لغته. نلاحظ أيضاً، متى تعمّقنا في هذه الجمل، أنّ المفردات والعناصر التي يجيء بها شوقي ليبني منها حركة نصّه ومفاجأته، لا تُفرغ من معناها الأصليّ ليملأها بمعنى آخر.

فالسمكة سمكة، والشمس شمس، والقمر قمر ولو أرسلنا له بطيخة صفراء فيها فأرة وصرصور وعنكبوت وكلب ينبح ليتسلى وهو أعزب، كما يقول أبي شقرا.

الجملة الاسمية عند أبي شقرا ليست للتنبيه، أو للإشارة، ولا حتى للتعريف بالأمور الغريبة التي تحصل تحت عين القارئ وهو في غفلة، بل لتشرك هذا الأخير معها، كأن النص لا يكمل حركته ولا يكتمل إلا بدخول القارئ مع الشاعر في عملية تأجيج الخيال.

وهذا النوع من الجمل يساعد لا في الدفع في منحى تصاعد الأحداث بل تكثيف الفانتازيا واختراع الدهشة الواقفة من دون حركة صريحة ومعرّفة مسبقاً لتسندها. يساعد أيضاً في دفع رأس القارئ إلى أبعد وأبعد وبقوة أشد، إذ تصبح كل واحدة من هذه الجمل حداً فاصلاً تخرق التي تليها بكمّ أشدّ من الخيال، لنصل إلى الأخيرة بينها حيث يتطاير سقف النّص تاركاً إيّاك من دون خاتمة صريحة كما ذكرنا مسبقاً. نصوص كصندوق باندورا، لن يصيب أحد يوماً في توقّع محتواها.

غوص في مختبر لغوي

  • الشعراء أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال
    الشعراء أدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ويوسف الخال

يغوص شوقي أبي شقرا في مختبره اللغوي، في غرفة عملياته، ليختار كلماته وينسجها مع بعضها بخطافاته الحادة، كأن بين يديه إبرة وخيطاً ذهبيّاً طويلاً من الخيال يسحبه من أذنه كالسحرة. لدى شوقي أدواته، ومصنعه المعجمي وجوّه الذي كلما ظننا أننا توفّقنا في تحديده، اكتشفنا فسحة جديدة منه.

ومن بين هذه التراكيب، تجييره لمصطلحات فصيحة قريبة من اللغة المحكية، لصالح إيقاعه الخاص. فنرى مثلاً في كتابه "حيرتي جالسة تفاحة على الطاولة" (2007) أمثلة على ذلك حين يقول: "كبكوب الخيطان"، "مازة العرق"، "مشق الزعرورة"، "المشكلة كبيرة كالكاتو"، "كاوتشوكة"، "عمتك فلومينا". ونرى ذلك أيضاً في كتابه "نوتي مزدهر القوام" حين يقول: "نسكر ونعربد"، "السطل"، "لبطنا الحبال"، "البرنس".

أما من الناحية التركيبية، فإنّ شوقي يعتمد بشدة على علاقة النعت والمنعوت والمضاف والمضاف إليه والمبتدأ والخبر.

وعلى مثال الجملة الاسمية، تخسر هذه العلاقات الوثيقة وظائفها الكلاسيكيّة التحديدية والتفسيرية والتعيينية، لتساعد شوقي على تفجير الفانتازيا والخيال حتى على مستوى عناصر النص قبل أن يكون على مستواه العام.

إن هذه العلاقات في لغة أبي شقرا تناقض كلياً تلك المعترف بها، إذ كلما أصاب في التحديد كلما أضاع قارئه الهدف. ذلك أن "الختيار" أسهل تحديداً من "الختيار الأزرق المعرّق"، أما بالنسبة للنسيم فالعثور عليه أسهل من العثور على "النسيم التقيذ الشيخ" وكذلك الحال مع "الختيارة حطبة" و"العصرونية عروس" و"الرضوض عصافير" و"رقصة الغداء" و"سكان المخدات".

كل من يقرأ شوقي أبي شقرا يعرف نصّه من أول كلمة، ومن أول إطلالة له من على غيمة كجنيّ. ولهذا الإيقاع المغاير رقصة نتعلّمها فقط حين يمسكنا أبي شقرا من أيدينا ويدعونا إلى الحفلة. وحين ننغمس في الرقص والاحتفال نفقده لنجده بعدها يدعو المزيد والمزيد ليفرحوا معنا.

وفي عزّ هذه الفانتازيا، تقوم لغة ليست من لغة قبلها بل من عظام عصافير ومن بريق عيون الأولاد الذين هربوا ليصبحوا كباراً. لغة يمتزج فيها الحزين والعجيب ليصبحا معاً حكاية كل من يدخلها يصبح من أبطالها، حكاية لا يحتكر بطل فيها خاتمتها والألوان مجد الباقين حتى النهاية.

اخترنا لك