كيف حول الاحتلال الصهيوني فلسطين إلى سجن كبير ؟
قام الاحتلال بتوزيع أوامر بضرورة جمع معلومات عن كلّ فلسطيني يومياً من قبل كلّ جندي، أو استخدام تقنية Wolf Blue - الكاميرات البيوترية الممنوعة دولياً لانتهاكها خصوصية البشر لتأمين التبعية، وخضوع الفلسطيني لعدد محدد من السلوكيات...
"جغرفة السجن في الوعي والحيّز الفلسطيني"، كتاب يبحث في إجراءات الاحتلال في فلسطين المحتلة ضد الأرض والإنسان على السواء، هو دراسة بحثية في قراءة تجسيد السجن ورموزه وأداته في الممارسات والجرائم الصهيونية لقهر مقاومة الشعب الفلسطيني والسيطرة على مكانه وزمانه، كتاب جغرفة السجن، للباحث الفلسطيني منذر خلف مفلح ، تقديم القائد أحمد سعدات، الذي أغناه بتجربته النضالية والتاريخية في السجون الإسرائيلية، أما ما يقترحه البحث فهو تحديد الاحتلال كاحتلال واستعمار يحاول تقديم ذاته باعتباره "دولة"، وأن هذه "الدولة" تمارس سياسة أعمق من الفصل العنصري تقوم على إنشاء سجن حقيقي في الحيّز والجغرافيا الفلسطينية، بل والذهن أيضاً، بما يتطابق مع إجراءات الفصل العنصري، باعتبار السجن يقوم على الشرذمة، والإقصاء والتحكّم، والهيمنة والإخضاع، وسلب الموارد، والحرمان من الحقوق الأساسية، وهو ما يتطابق مع إجراءات الفصل العنصري ويمتدّ إلى ما هو أعمق لتأمين حالة إخضاع دائم للاستعمار الصهيوني على الأرض والشعب الفلسطيني.
السجن في الذاكرة والوعي
كذلك يهدف البحث في هذا الكتاب، إلى تبيان العديد من الإجراءات الاستعمارية على الأرض من حيث التعرّف إلى الفصل العنصري، ومنطلقاته، وأسسه، وأهدافه تاريخيّاً وارتباطه بالوعي والذاكرة الشعبية، ومدى انطباقها أو عدم انطباقها، وتحديد مدى ملاءمتها للحالة الفلسطينية مقابل بناء فرضيّة السجن، واستخدام السجن كمقولة تحليلية للكشف عن حقيقة الإجراءات الصهيونية وتحديد تماثل هذه الإجراءات وتفاعل المستعمر معها، وطبيعة مقاومته لها.
وبهذا فإنّ محاولة تعريف (الاحتلال ـــــ الدولة)، باعتبارها "دولة" فصل عنصري تقوم على الاعتراف بمبدأ الدولة وسيادتها على الأرض. ولقد مارس الاستعمار أو "دولة" الاحتلال كما يوضح المؤلف الأشكال كافّة والمدمّرة للجماعة السياسية من حيث ممارسة سياسة العزل والفصل. ولا شكّ أن السجن يقوم على عدد من المرتكزات والإجراءات لضمان أكبر فاعلية لوجوده مستندة إلى الفهم الصهيوني، باعتباره عملية ردع لأيّ مقاومة وإحباط لها ولفاعليّتها، ولإنتاج نظرية سياسية تقوم أساساً على إنتاج أو إعادة إنتاج الشعب الفلسطيني؟ بعد إبادته ثقافياً وسياسيّاً ونفي وجوده لإنتاج أقليات في كلّ حيّز من أحياز السجن الذي يتم إنتاجه؛ وذلك لمواجهة ما اصطلح الاحتلال على تسميته الخطر أو القنبلة الديموغرافية.
لقد جهد المستعمر من أجل هندسة الحيّز الفلسطيني على شاكلة السجن، وبنى الحيّز، وأسس الخطاب، وبنى سلطوية تمتد للوعي مستلهماً فكرة القصاص أو العقاب كأداة من تعريف السجن، باعتباره طريقة للتأثير يحفر بالعمق على القلب والفكر والإرادة والاستعدادات. وعمل على ترسيخ حيّزات سلطته (السجن)، إلا أنّ الأمر أعمق يمتد إلى سجن الفلسطينيين والتحكّم بهم والتأثير فيهم عبر صياغة السجن بما يتطابق مع تعريفات السجن وأهدافه كافة.
يشير المؤلف منذر خلف مفلح في كتابه، إلى أنّ ما يجري في فلسطين أعمق وأشدّ وطأة من التأسيس لنظام فصل عنصري، وإن استخدم الاستعمار الصهيوني سياسات الفصل والتجزئة بما يؤسّس نظرياً لفرضيّة السجن الكبير أو جغرفة السجن في الحيّز الفلسطيني المستعمر، من أجل مواءمة تفرّد السلطة الاستعمارية الصهيونية وهيمنتها (أي دولة الاحتلال) بل وتغوّلها في هذه السياسة.
رمزيات السجن وهندسته
يؤكد المؤلف منذر خلف مفلح، أنّ كلّ هذه الإجراءات والدلالات والرمزيات للسجن وهندسته المعمارية المعبّرة عن العنف الملجم وإبراز سيطرة وسيادة المستعمر من خلال الوسائل المتّبعة للتأثير في المصالح والمكاسب والخسائر جميعها، والأفراح، والأتراح، مقابل ذلك تمثيلات أخرى، بحيث تعمل هذه التمثيلات للمخيال الجغرافي كعنصر إعلان للعنف، والقهر، وتقوى بنى السلطة، وضرورة الخضوع وتنميط السلوك، باعتبار أنّ رمزيات السجن هي مشاهد عقابية توقد السلطة وتقوّيها في أعين الجميع.
وهو أيضاً ما يتطابق من حيث الأهداف والأساليب مع ما أسماه صناعة إنتاج جغرافية الكارثة، باعتبارها طريقة يجري فيها التحكّم بالزمان، والمكان، والحيّز، والطرق، والأساليب المختلفة لتجزئتهما، حيث يلجأ الاحتلال إلى الحدّ من حركة المواطنين عبر الحواجز، باعتباره سياسة ممنهجة لتشتيت وتدمير النسيج المجتمعي للشعب الفلسطيني وأفراده وأسره المجتمعية والسياسية؛ حيث اعتقل أو سجن أكثر من مليون فلسطيني منذ العام 1967 الذي شمل الرجال والنساء والأطفال على السواء، واستهدف الحيّز الشخصي والعام، وامتدّ لاعتبار الجسد هدفاً فيزيائياً تطاله الإجراءات الصهيونية بممارسة العقل والتعذيب والاعتقال، وكذلك اعتبار الوجود الفيزيائي للأجساد حداً فاصلاً يشرعن فيه غياب القانون، وتستطيع الأجهزة القمعية والشرطة الصهيونية أن تمارس أنشطتها العنيفة تجاه السكان منها.
كما يكشف الكتاب فرض الانضباط، والطاعة، والخضوع والقبول، والتخطيط والضبط كهدفيات للسجن مقابل أيّ إمكانية لنشوء المقاومة وحيّزاتها، وهو ما يظهر شكلاً خفياً عبر الحواجز، والمعابر، والبوابات الدوّارة، والجدران، والمعابر الإلكترونية والمراقبة، ومن الأساليب؛ ما تمّت الإشارة إليه أخيراً قيام الاحتلال بتوزيع أوامر بضرورة جمع معلومات عن كلّ فلسطيني يومياً من قبل كلّ جندي، أو استخدام تقنية Wolf Blue - الكاميرات البيوترية الممنوعة دولياً لانتهاكها خصوصية البشر لتأمين التبعية، وخضوع الفلسطيني لعدد محدد من السلوكيات تمنعه من الحصول على الحركة أو التصاريح أو بعض الامتيازات.
الفصل العنصري في الحيّزات الجغرافية
إن ما حدث في العام 1948 هو احتلال وليس إنشاء "دولة" بحسب التعريف السياسي للدولة الطبيعية، إلا أن ما رافق هذا الحدث من اعتراف دولي ولاحقاً فلسطيني في إطار ما يعرف بحلّ الدولتين، والإمكانية لنشوء نظام فصل عنصري داخل حدود 1948، وليس في إطار 1967 التي تخضع لاحتلال عسكري وتوجد فيها جماعات غير شرعية (المستوطنون)، وليس لهم نظام حكم، فنظام الحكم منذ 1967 هو احتلال غير شرعي، وخاصة أن الفلسطينيين في هذه الرقعة الجغرافية يطالبون بحدود واضحة لدولة يمثّلون فيها شعباً للانفصال عن "دولة" الاستعمار. فالأدبيات القانونية في "إسرائيل" تتناول الدولة باعتبارها تتألف من نظامين قانونيين منفصلين أحدهما داخل الخط الأخضر حيث يسري مبدأ "الدولة" اليهودية الديمقراطية؟، والآخر خارج الخط الأخضر في الأرض المحتلة عام1967 حيث تسري قوانين الاحتلال. صحيح أن النظام "الدستوري الإسرائيلي" يؤسس لمبدأ التمييز الموضعي ضدّ فلسطيني 1948، وهناك من أشار إلى أن هذا التمييز ينسحب على كونه أراضي فلسطين الانتدابية، إلّا أن الساسة الصهاينة بمن فيهم رئيس الوزراء نتنياهو ومنذ العام 2004، أكدوا وقد جاء تأكيدهم مطابقاً للقوانين التي أقرّت لاحقاً (قانون القومية وقانون يهودية الدولة) وأن "دولة إسرائيل" هي "دولة" الشعب اليهودي.
مجتمع المستعمِرين والمستعمَرون
إنّ الاستعمار قام على فكرة الفصل بين مجتمع المستعمِرين والمستعمَرين لإعادة إنتاجهم في إطار تحقيق الكفاءة والفعّالية، باعتبارهم أداة إنتاج تابعة للاستعمار، وعلى ذلك استخدمت العنف المباشر المتفجّر ضدّهم، كما مارست الإقصاء والاستثناء بحقّهم.
وتستغلّ التهديدات الأمنية كأساس للتدخّلات وإقامة حالة الفصل والإقصاء والاستثناء، والكشف يقوم على التصاريح للحركة في الجغرافيا أو الحركة من وإلى السجن المميّز الذي يمتاز بالمناطق المفصولة، والجدران، والأسوار والطرق والمستوطنات، والأسلاك الشائكة، وأبراج المراقبة ووضع العراقيل أمام حرية التنقّل والحركة.
إلا أنّ الاعتراف بالفصل الجغرافي كأمر واقع يمارسه "جيش" الاحتلال لخلق جماعات سكانيّة أقلّ من سياسية (تطهير ثقافي) كإنشاء هويات فرعية (سكان غزة، والقدس، وسكان الضفة ... إلخ) عبر الجدران والأسلاك (السجن)، وهذا يعني نظام فصل للشعب الفلسطيني وخلق حيّزات جغرافيّة وسكنيّة، منها: التحكّم ـــــ سلب الموارد ــــــالحرمان.
يكشف المؤلّف منذر خلف مفلح، أنّ السياسات هذه التي يقوم عليها الفصل أو نظام الفصل والأبارتهايد، تنطبق على "دولة" الاحتلال إلا أنّ هناك اشتباهاً في تعريف الجماعات السكانية وطبيعة الحكم، وعلاقته بالجماعات، وتعريف الجماعات نفسها، وكذلك من الطبيعة السياسية للشعب أو طموحه السياسي. ويشير المؤلف إلى أنّ الفلسطينيين هم الخطر المباشر والقريب بحسب الاستراتيجية الاستعمارية، وفي خضمّ التطوّرات والتبدّلات العالمية والإقليمية المحيطة والأحداث في المنطقة لا يمكن التنبّؤ بما يمكن أن يحدث أو التكهّن باتجاهات التطورات؛ لذا لا بدّ من استراتيجية تبقي الفلسطينيين في إطار فقير ومحتجز يؤمّن أقلّ فعّالية للمقاومة تجاه المستعمِر كي يتفرّغ المستعمِر لمهام هندسة الحيّز المستعمَر والمنطقة المحيطة به بالتعاون مع حلفائه الدوليّين أو بالتعاون مع دول المنطقة عبر التطبيع، هذا من جهة ومن جهة أخرى تحطيم رسوخ هويّتهم القومية كشعب من خلال تفتيت جغرافيتهم وتالياً هويتهم ضمن منطق منع تشكّل الهويّة أو تحطيمها.
وأخيراً ينبّه المؤلف منذر خلف مفلح أنّ تشكيل الهوية الوطنية، باعتبارها قضية تحرّر وطني ونضال ضدّ مستعمر، وتحديد الاستراتيجيات الشاملة من أجل إنجاز هذا المشروع عبر تحديد خطط واضحة وشعارات دقيقة وقيادة محدّدة تعتبر القيادة القومية أو الممثّل القومي مصدراً للنضال والمقاومة، وتحديد الأهداف مستندة إلى تأیید شعبي راسخ وشامل لكلّ الفلسطينيين ليس بالمعنى الحزبي بل بالمعنى الحيّزي، أي توحيد الشعب الفلسطيني وإعادة إطلاق فاعليته في الزمان والمكان ضدّ المستعمِر المحتل أو ما أسماه عيسى قراقع تحرير الهوية الوطنية من معسكر الاعتقال.