كيف غيّر برنامج "كولتورا" الوطني روسيا؟
برنامج ثقافي وطني روسي بدأ عام 2019، وشمل افتتاح آلاف المراكز الثقافية والمكتبات وصالات السينما والمسارح والمتاحف، وهدفه توحيد اتجاهات الروس وبناء روح وطنية خلال الأزمات. ماذا تعرفون عن برنامج "كولتورا"؟
أواخر كانون الأول/ديسمبر الجاري، يُختتم البرنامج الوطني الروسي "كولتورا" (الثقافة)، الذي بدأ عام 2019، وتسارعت وتيرته مع بدء العملية العسكرية الروسية الخاصة في أوكرانيا، تعبيراً عن أن الثقافة هي ما يجمع شمل المواطنين ويوحد اتجاهاتهم ويبني روحاً وطنية في الأزمات.
ويرى القيمون على البرنامج أنه "زمن الانتصارات الإبداعية". فعلى مدار أعوام البرنامج الستة، بُني وافتُتح نحو 1900 مركز ثقافي في مختلف المقاطعات الروسية، ونحو 1900 مدرسة فنون للأطفال كذلك، وأكثر من 1200 مكتبة نموذجية، ونحو 1400 صالة سينما، وافتُتح كذلك 658 متحفاً و64 مسرحاً. كما انخرط أكثر من 200 ألف عامل ثقافي في دورات تدريبية متقدمة في الجامعات الرائدة في البلاد، في إطار مشروع "المبدعين". وليس كل ذلك إلا جزءاً من الإنجازات المرتبطة بهذا البرنامج الوطني.
وكان البرنامج مرّ بمحنة جائحة "كورونا" في عامه الأول، إلا أنه تخطاها، بحيث تمكن ملايين الروس، عبر استخدام منصة "آرتيفاكت" التابعة للبرنامج في جميع أنحاء البلاد من الوصول إلى مواد أكثر من 1350 معرضاً، وبثت فيها أحداث ثقافية من نحو 450 قاعة. بالإضافة إلى ذلك، كانت وزارة الثقافة الروسية أتاحت للمواطنين الروس وللناطقين بالروسية الدخول المجاني عبر الانترنت لمختلف المتاحف والمعارض والمكتبات الإلكترونية.
بيوت الثقافة
لا بدّ من التوقف عند خصائص تتعلق بواقع البلاد، ففي الاتحاد الروسي تعيش 198 قومية متعددة، لكل واحدة منها لغتها وأعرفها وتقاليدها، إلا أن اللغة والثقافة الروسيتين تجمعان تلك الشعوب وتوحدانها. وتناولت جملة من التحقيقات الصحافية هذا البرنامج على مدى الأعوام الأخيرة، للوقوف على تهيئة الظروف للأنشطة الإبداعية، خاصة بعدما لمست زيادة كبيرة في نسبة الشباب الذين يرتادون المسارح والمتاحف والحفلات الموسيقية. وقد لوحظ أن النوادي والمراكز الثقافية استردت الروح بدعم من هذا البرنامج الوطني.
على سبيل المثال، بات "بيت الثقافة" في قرية تاتارتشينو في منطقة تامبوف مركزاً ثقافياً حقيقياً. في هذه القرية النائية تعيش عائلات روسية وتتارية جنباً إلى جنب منذ 300 عام. تتشابك تقاليد أبناء القرية الثقافية وتتجسد في حفلات موسيقية مشرقة في مسرح "بيت الثقافة"، الذي أُعيد افتتاحه بعد التجديد. وبدءاً من مطلع العام المقبل، سيحمل اسم "بيت الصداقة بين الشعوب".
هناك افتتحت مكتبة حديثة تضم أعمال الشعراء والكتاب الروس والتتار. بالإضافة إلى ذلك، توجد فيه قاعة كبيرة مجهزة بمعدات الصوت والإضاءة الحديثة، بالإضافة إلى صالات للأعياد الوطنية وأماكن للترفيه العائلي وللعب. تعبّر عن ذلك مديرة بيت الثقافة ماريا كوبيشكينا، تقول: "نحن سعداء جداً بمثل هذه التغييرات التي تلهمنا انتصارات إبداعية جديدة. سنقوم بعناية أكبر بالمحافظة على التقاليد الثقافية والتاريخية التي تنتقل في هذه القرية من جيل إلى جيل، إذ نحمل على عاتقنا مهمة نقل كل هذه المعلومات القيمة إلى جيل الشباب".
المتاحف
ساهم هذا البرنامج الوطني في جذب مزيد من الزوار للآثار التاريخية والثقافية. وتولى تجديد قاعات العرض وغرف الأرشيف وتركيب المعدات الحديثة في المتاحف، وعمل الموظفون بنشاط على تطوير موضوعات مثيرة للرحلات الجديدة لجذب مزيد من الزوار.
في هذا البرنامج افتتح 658 متحفاً، إلا أن بعضها لا يزال ينتظر الافتتاح الشهر المقبل، فبعد عمل استمر عامين، في مدينة نوفوسيبيرسك يفتتح متحف أحد مؤسسي علم الفضاء الروسي يوري كوندراتيوك، الذي احتسب بدقة المسار الأمثل للطيران نحو القمر مطلع القرن العشرين. وأعيد تجديد أحد المباني الأثرية في المدينة، حيث سكن كوندراتيوك، وطال التحديث أساس المبنى والجدران والسقف والمرافق والديكور الخارجي والديكور الداخلي.
وفي المحصلة، تمكّن المهندسون من إعادة مظهر المبنى إلى ما كان عليه في عام 1924. في الطبقة الأرضية من هذا المرفق، الذي سيتبع متحف نوفوسيبيرسك الوطني، ستكون هناك ثلاث قاعات مخصصة لحياة يوري كوندراتيوك وعمله العلمي. وبين المعروضات الرئيسة نسخة طبق الأصل بالحجم الطبيعي لمركبة الهبوط "زينيت 2" من فئة "فوستوك".
كما ستُعرض مواد أخرى مثيرة للاهتمام بشأن سكان نوفوسيبيرسك، الذين ساهموا في تاريخ استكشاف الفضاء. أما الطبقة الثانةي فستخصَّص للمعارض الموقتة.
وتقول مديرة متحف نوفوسيبيرسك، يلينا شتشوكينا، "إن إعادة بناء هذا المنزل التاريخي لم تجعل من الممكن تحديث مظهره فحسب، بل أتاحت أيضاً الفرصة في تقديم تاريخ مدينتنا المرتبط بالفضاء بصورة ملائمة من خلال الاطلاع على مسيرة حياة عالم بارز ورفاقه. ونحن نخطط عقدَ أيام خاصة بالأطفال في عطلات نهاية الأسبوع من أجل جعل كل زائر صغير يشعر كأنه مستكشِف".
صياغة المواهب
تولي الإدارة الروسية الأطفال واليافعين اهتماماً خاصاً، كونهم بناة مستقبل البلاد. وبفضل هذا البرنامج الوطني، وفرت الوسائل التعليمية والمعدات لمدارس الفنون للأطفال.
وبين تلك المؤسسات التعليمية مدرسة "آفي أول" للفنون في قرية ساماغالتي، في جمهورية تيفا التابعة للاتحاد الروسي. هناك أُعيد افتتاح مدرسة الفنون بعد إجراء تجديدات كبيرة على مبنى يعود تاريخه إلى عام 1966، بحيث بات كل شيء فيه جديداً، ما عدا المحافظة على الجدران الخارجية. كانت هذه المدرسة خرّجت أجيالاً من الموسيقيين والراقصين، وهي معروفة بفرقتها "آزير كارا" للغناء والرقص. تضم الفرقة 80 فناناً تتراوح أعمارهم بين 8 و16 عاماً، وحصلوا عدة مرات على جوائز في المسابقات الإقليمية والوطنية. بالإضافة إلى الراقصين، تدرّب المدرسة نحو 120 طفلاً في مجالات متعددة، منها الرسم، وفنون المسرح، وتصميم الرقصات، والعزف على البيانو، بالإضافة إلى الآلات الشعبية والنفخية.
كذلك في نوفوسيبيرسك، افتتحت مدرسة كوبينو الفنية للأطفال، التي تضم 250 طفلاً في 9 مجموعات إبداعية. تم تجهيز فصلين دراسيين حديثين لدروس تصميم الرقصات، وواحد للفنون الجميلة والزخرفية. وفي عام 2024، شارك الأطفال في 53 مسابقة ومهرجاناً ومعرضاً، في مختلف المستويات، وحصلوا على عدد من الجوائز. ولا يُخفي مدير المدرسة إيليا كنيازيف فخره بما أنجزته فرق المدرسة.
بطاقة بوشكين
منح برنامج "كولتورا" الوطني اليافعين والشبان فرصة في الانخراط في الإبداع وحضور الفعاليات الثقافية مجاناً. فمنذ أكثر من 3 أعوام أُطلقت "بطاقة بوشكين". ويحصل حامل هذه البطاقة سنوياً على إمكان الحصول على مبلغ قدره 5 آلاف روبل، يمكنه إنفاقها في رحلات إلى المسارح والمتاحف ودور السينما. اليوم يستخدم هذه البطاقة أكثر من 11 مليون شخص تتراوح أعمارهم بين 14 و22 عاماً. وتشير منصة "كولتورا" إلى أنه، على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، نشر أكثر من 680 ألف حدث ثقافي، أتيحت جميعها لحاملي بطاقة بوشكين. ونتيجة لذلك، منذ عام 2021، بيع أكثر من 77 مليون تذكرة في المؤسسات الثقافية في جميع أنحاء البلاد، وتم الدفع بموجب هذه البطاقة.
بالإضافة إلى ذلك، أطلق البرنامج مشاريع لتعريف الجيل الأصغر بتاريخ أنواع الفن المتعددة. وبينها الأولمبياد الإلكتروني "الثقافة من حولنا"، الذي يضم مسابقة فكرية للأطفال في المدارس. وشارك في عام 2024 أكثر من مليون و300 ألف متسابق.
وتقول داريا أوستروفسكايا، رئيسة قسم الأولمبياد في منصة "أوتشي"، التابعة للبرنامج، إنه "لإضفاء الحيوية على الكلاسيكيات قرّبناها من اهتمامات الأطفال، على سبيل المثال، تمكنوا من تحديد أبطال الأدب من خلال المنشورات في شبكات التواصل الاجتماعي، وتصحيح الأخطاء اللغوية للروبوتات، وإنشاء استعلامات بحث بشأن الكتب. وبالنظر إلى المراجعات، فإن هذا التنسيق زاد في اهتمام تلاميذ المدارس بثقافتهم الأصلية".
تجدر الإشارة إلى أن البرامج الثقافية لعموم روسيا تنطلق من بديهية تقول إن أي تغيير اجتماعي لا بد من أن يسبقه تغيير ثقافي، وأولت الإدارة الروسية اهتماماً بالغاً بالثقافة وبتعميقها والارتقاء بالمستوى الثقافي للمواطنين من كل القوميات، ليس على حساب ثقافة كل قومية على حدة، فهي قيم محفوظة في الاتحاد الروسي، لكن على نحو يجمع بين أبناء القوميات في أمة واحدة. أما بشأن نتائج تنفيذ برنامج "كولتورا" الوطني، الذي يشارف على الانتهاء، فتقول وزيرة الثقافة الروسية، أولغا ليوبيموفا، إنها تجاوزت نتائج تنفيذ برامج التنمية الشاملة الأخرى المماثلة.
وتشير إلى أن المجالات الرئيسة في هذا المشروع سيتم تضمينها في البرنامج الوطني الجديد، الذي يحمل عنوان "الأسرة".
وترى ليوبيموفا أن ذلك "سيوفر فرصة لمواصلة تحديث المرافق المهمة التي طالها البرنامج، على نحو يساعد على ضمان إمكان الوصول إلى الثقافة لكل مقيم في بلدنا".