كيف يصنع الغرب الأجندات البحثية في العالم العربي؟
من الديمقراطية إلى حقوق المرأة والهجرة غير الشرعية.. كيف يصنع الغرب الأجندات البحثية في العالم العربي؟ وكيف يزوّر الحقائق المرتبطة بواقعنا وكيفية تحسينه؟
لطالما خاض العرب حروبهم على أرضية اقتصادية وعسكرية، مستبعدين، في الغالب، أرضية الفلسفة والفكر والمعرفة. الأمر الذي جعلهم بلا "أصوات فكرية مؤثّرة"، خاصة في ظل حرب الإبادة المستمرة ضد الشعب الفلسطيني في غزة والضفة منذ أكثر من عام. يحصل هذا اليوم فيما تعلو أصوات فكرية عالمية داعمة لكيان الاحتلال.
على مدى أكثر من نصف قرن من استقلال الدول العربية عن الاستعمار، لم يستطع العرب المشاركة بفاعلية في النقاشات الفكرية العالمية، كما لم يتمكّنوا من بناء أطر لإنتاج المعرفة النقدية وهو ما تشهد عليه هامشية العلوم الإنسانية والفلسفة والفنون في معظم الجامعات العربية، حتى أن بعض هذه الجامعات يمنع تدريس هذه العلوم ويدرجها في إطار "معاداة الدين".
الأمر الذي ترك الكثير من الباحثين عرضة للتكفير والعنف من قبل الجماعات المتطرفة التي لا يخفى على أحد تواطؤها وتحالفها الهيكلي والتاريخي مع السلطات السياسية من أجل مراقبة النطاق الفكري والتحكّم في حركة المجتمع.
استمرّ هذا الوضع حتى بعد انتفاضات "الربيع العربي"، حيث لم تستطع "القوى الثورية" سواء أحزاب أو حركات اجتماعية من إنتاج معرفة وفكر فلسفي، مكتفية بترديد مفاهيم تحليلية قديمة على غرار مقولة الصراع الطبقي والاستلاب الثقافي والتغريب والوحدة الوطنية. أو أنها انخرطت في نوع من الناشطية والممارسة السياسية من دون أيّ نظرية سياسية، ما يفسّر القطيعة والهوّة العميقة بينها وبين الجامعة، وكذلك عدم قدرة الأخيرة على إنتاج معرفة حول المجتمع. إذ يكتفي جامعيون، خوفاً من السلطة أو طمعاً في المناصب، بتأدية واجب التدريس كمجرد وظيفة وتكريس بقية وقتهم لإنتاج بحوث تعبّد طريقهم أمام الترقّي الوظيفي، علماً أن هذه البحوث لا تأثير يذكر لها على حركة المجتمع أو على السياسات التي توجّهه. هكذا باتت معظم الجامعات في العالم العربي مجرّد مؤسسات لنقل المعرفة بدل إنتاجها، فضلاً عن تحوّل بعضها إلى أجهزة لإعادة إنتاج النزعات التسلطية.
قد يبدو هذا التشخيص متسرّعاً، لكن طرح إشكاليات سياسات إنتاج المعرفة ومساءلة المعارف حول مجتمعاتنا بات أمراً ملحاً، خاصة في ظل ضعف مؤسسات إنتاج المعرفة في البلدان العربية وسيطرة نماذج بحث غربية تتشابك مع النزعات الكولونيالية والمركزية الأوروبية على غرار النزعة الاستشراقية المتداولة منذ القرن الــ 18 والتي عمل إدوارد سعيد على تفكيكها (من داخل الجامعات الأميركية) بحصافة مميّزة مبيناً تشابكاتها مع الإمبريالية والاستعمار. إلا أن ما توصّل إليه سعيد وغيره ممن فكّكوا "السردية الاستعمارية المهيمنة"، لم يلقَ الصدى الكافي في الجامعات العربية التي لم تقدر على تشكيل وبناء تيارات نظرية وتجميع الباحثين حول "أجندات بحث" محلية.
برز هذا الأمر بشكل واضح جلي خلال أحداث "الربيع العربي" حيث تجنّدت جامعات غربية وباحثون غربيون لـ "فهم ما حدث"، من بينها مراكز بحوث ومعاهد بحث ومجموعات بحثية غربية متخصصة في دراسة المنطقة العربية مثل "معهد البحوث والدراسات حول العالم العربي" ومقره مرسيليا، و"معهد دراسات الإسلام والعالم الإسلامي" ومقره باريس. علاوة على البعثات العلمية التابعة لوزارات خارجية بعض الدول الغربية، على غرار فرنسا التي تمتلك أكثر من معهد بحثي في المنطقة العربية مثل "مركز الدراسات حول المغرب المعاصر" ومقره في تونس، و"مركز جاك بيرك" ومقره المغرب، و"معهد دراسات الشرق الأدنى" ومقره لبنان والذي تغطي دراساته لبنان والأردن وفلسطين والعراق، و"مركز التوثيق والدراسات القانونية والاقتصادية والاجتماعية" ومقره مصر.
ينطبق هذا أيضاً على دول مثل ألمانيا والولايات المتحدة اللتين تمتلكان أجندة بحثية خارجية حول المنطقة العربية. ولا يتعلق الأمر هنا برفض عدمي للمنتج المعرفي الغربي حول المنطقة العربية أو رفض التعاون مع تلك المراكز. لكن الرهان الأساسي يجب أن يكون من منطلق العدالة الإبستيمولوجية أو المعرفية التي تمكّن من أخذ مسافة نقدية إزاء التقليد المعرفي الأورو - مركزي الذي يلغي ويهمّش تقاليد معرفية محلية من خارج "سردية الحداثة" بشقّيها البرجوازي والنقدي، ما يؤدي حتماً إلى الوعي بتنوّع تجارب إنتاج المعرفة على مستوى عالمي وهي تجارب لا يمكن اختزالها في نظرية عامة مهيمنة على مستوى عالمي، وبالتالي فالجهد الذي يجب أن تقوم به المؤسسات البحثية في المنطقة هو الانخراط في إبستيمولوجيا للجنوب كمقابل لإبستيمولوجيا الشمال.
باحثون عرب.. "مقاولون" يعيدون إنتاج اللاعدالة المعرفية
لا تقوم "الجماعة الأكاديمية" في العالم العربي بما يكفي من الجهد لتبيئة المعرفة أو إنتاجها أو حتى المشاركة في النقاش العالمي القائم حول المعضلات والقضايا الكبرى التي تواجهها المنطقة والعالم عموماً، بل إن انخراطها يظهر سلبياً للغاية، حيث تعمل على تكريس "السرديات المعرفية" التي تنتجها المراكز البحثية الغربية عن المنطقة. وتساهم بذلك في ترسيخ اللاعدالة المعرفية التي تتجلى في المشاريع البحثية التي تقوم بها المراكز البحث العالمية التابعة للولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي وحتى بعض وكالات الأمم المتحدة.
هكذا تنخرط الجامعات والمشتغلون في مجالات العلوم الإنسانية (التاريخ ، الأنثروبولوجيا، علم الاجتماع، علوم الآثار، القانون..إلخ) في نوع من المناولة البحثية التي تقوم على تقسيم عالمي غير متكافئ لإنتاج المعرفة، يحوّل الباحثين المحليين إلى مجرد كاتبي تقارير وصفية ومجمّعي معلومات ميدانية يرسلونها إلى المراكز البحثية الغربية التي تقوم بتجميعها وإعادة تدويرها وفق ما تقتضيه أجندات حكوماتها تجاه المنطقة.
على سبيل المثال، عمل اقتصاديون تونسيون وعرب على مشروع بحثي مموّل من "البنك الدولي" يرتبط بالمعوّقات التي تواجه الاقتصاد التونسي، وانتهى بتقرير عنوانه "تونس: الثورة غير المكتملة"، قدّم تحليلاً كمّياً دقيقاً للاقتصاد التونسي قبل أن يصل إلى استنتاج أساسي مفاده، أن العائق الأساسي أمام الاقتصاد التونسي هو النزعة التداخلية للدولة وعدم تحرير السوق بشكل كافٍ والتي تتجسّد في العوائق الجمركية والبيروقراطية الموضوعة أمام حركة السلع.
بغض النظر عن وجاهة هذا الاستنتاج، إلا أنه عكس في النهاية سردية "البنك الدولي" كمؤسسة مالية تسعى إلى تثبيت السياسات النيوليبرالية في المنطقة ونزع التسييس عن قضايا التنمية التي تسفر غالباً عن سياسات معادية لمصالح الفئات المتوسطة والفقيرة في المنطقة. بالتوازي مع هذا، كان "الربيع العربي" فرصة لتكريس مقولات فكرية ومفاهيم جديدة تجد طريقها إلى السياسات العامة لدول المنطقة عبر باحثين محليين يعملون وفق أجندات بحثية غربية، ويدخلون في علاقة "مناولة بحثية"، تفرضها المؤسسات البحثية الغربية بوصفها الجهة المموّلة لأبحاث مهمة مرتبطة بقضايا الانتقال الديمقراطي و"الإرهاب" وقضايا المرأة والنوع الاجتماعي وحقوق الإنسان والهجرة غير النظامية والتنمية ومحاربة الفقر.
الانتقال الديمقراطي وحقوق الإنسان: سوق بحثيّة مزدهرة
شكّلت فكرة الانتقال الديمقراطي أحد مكوّنات الأجندة البحثية في المنطقة العربية، حيث استخدم هذا المفهوم كأداة توصيفية لما حدث في المنطقة (بغض النظر عن اختلاف السياقات)، وهو توصيف سياسي يتخفّى تحت مقولة نظرية. بدأ هذا التوصيف منذ الحرب المدمّرة على العراق سنة 2003 وقبلها كلّ محاولات دعم الديمقراطية في لبنان والجزائر والمغرب واليمن، وهي محاولات لم تفضِ إلى أي نتائج تذكر سوى مزيد من النزاعات والحروب الأهلية في المنطقة.
وتقوم النماذج التحليلية المستخدمة للتعاطي مع المسألة الديمقراطية في المنطقة على أسس ومستندات أورو - مركزية لا تأخذ في الاعتبار تعقيدات المنطقة، ولا تولي أيّ اهتمام للفاعلين على الأرض، بل تقترح نماذج تحليلية ذات نزوع ثقافوي تتمثّل البنى الذهنية السائدة في المنطقة بوصفها عائقاً أمام فكرة الديمقراطية (فكرة الاستبداد الشرقي)، وبالتالي الدعوة إلى تغيير البنى الذهنية من خلال تعبئة فاعلين مؤسساتيين يقومون بدور الوساطة والتوعية المجتمعية لنشر "الديمقراطية".
وكثيراً ما يُسند هذا الدور إلى المنظمات غير الحكومية من خلال انتداب باحثين يتحوّلون في ما بعد إلى "خبراء في الانتقال الديمقراطي"، وهي صفات تتجاوز فكرة "المناولة البحثية"، محوّلة العمل الأكاديمي من مجال للتفكير والنقاش العام إلى سوق يتنافس في داخلها أعضاء الجماعة الأكاديمية المحلية للظفر بمشاريع بحثية ذات تمويل أجنبي كثيراً ما تكون خاضعة لمعايير مرجعية محددة مسبقاً وتندرج ضمن الأجندة السياسية للجهة المموّلة. ولا يتعاطى الباحثون مع تلك المعايير المرجعية بشكل نقدي بل ككرّاس شروط يجب الاستجابة له والتأقلم معه وفق مقتضيات العرض والطلب.
من ناحية أخرى تتوافق الرؤية الثقافوية ذات المنحى الاستشراقي المتداولة لدى بعض مراكز البحث الغربية المشتغلة على المنطقة العربية مع بعض النخب المحلية التي تدافع بدورها عن فكرة أن العائق أمام ترسيخ الديمقراطية في المنطقة ثقافي بالأساس، وأن العائق الرئيسي هو البنى التقليدية التي يجب إعادة هندستها بما يتلاءم مع مقولات الديمقراطية الليبرالية بكل حمولاتها المتعلقة بدعم حقوق النساء، والحريات الفردية، وحرية الأقليات ومناهضة التمييز العنصري.
ولهذا يلقى جزء من تلك النخب ترحيباً من قبل منظمات المجتمع المدني ذات التمويل الخارجي حيث يكون دورها إنتاج خطابات وتمثّلات حول مسألة الديمقراطية تتوافق مع الرؤية المهيمنة على نطاق عالمي، والتي تقودها تحديداً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
وظهرت الرؤى الغربية للديمقراطية بشكل واضح في العالم العربي منذ الاحتلال الأميركي للعراق وصولاً إلى "الربيع العربي"، وكانت من نتائجها النزاعات الطائفية والحروب الأهلية المدمّرة وفشل تجارب الانتقال الديمقراطي في مصر وتونس، نتيجة ارتباط المشروع الديمقراطي الغربي في المنطقة بالمصالح الاقتصادية للقوى المهيمنة. وقد تبيّن أن الهدف لم يكن بناء ديمقراطيات قوية بل تحويل مجتمعات المنطقة إلى أسواق استهلاكية كبرى أسفر عن تفتيت النسيج الإنتاجي المحلي سواء في قطاعات الصناعة أو الزراعة، كما عزّز ممارسات الفساد والفروقات الاجتماعية بين فئات المجتمع.
وإضافة إلى هذا التصوّر الثقافوي الذي يقارب مجتمعات المنطقة بوصفها "أراضي غير صالحة لزراعة الديمقراطية"، عملت القوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، على تحويل بعض الأكاديميين إلى وسطاء لخلق "حالة توافق"، والبحث عن أرضية مشتركة بين القوى السياسية المتنازعة في المنطقة. وركّزت عملية صناعة "التوافق" تلك على القوى المحافظة (القادة القبليين والتيارات الإسلامية بشكل خاص وبعض فروعها السلفية)، وكذلك القوى المحسوبة على التيارات التقدّمية والحداثية تحت عناوين سياسية مثل "الحوار الوطني" و"التوافق".
ولعل أبرز أمثلة على ذلك الحالتان العراقية واللبنانية ثم الحالة التونسية التي شكّلت نموذجاً لم يدرس بشكل جيد، حيث دفعت القوى الراعية لفكرة الديمقراطية بنموذجها الغربي إلى رعاية "توافق" بين التيار الإسلامي والقوى الليبرالية لم يؤدِ إلى نتيجة، سوى ترحيل الأزمات السياسية على حساب تدعيم التحالفات بين القوى المتنفّذة مالياً وبين المجموعات السياسية المرتبطة بالإسلاميين أو بالنظام القديم.
كل هذا أسهم في الإجهاز على عملية الانتقال الديمقراطي وإنتاج طيف واسع من الساخطين داخل الطبقتين الوسطى والفقيرة. يمكن القول إن نسيج الجمعيات غير الحكومية المدعوم أوروبياً وأميركياً هو المجال الذي رسم عبره الغرب أجندته لقضايانا، وهدف أساساً إلى نزع التسييس والتخفيض من حدة المقاومات الاجتماعية المحتملة للسياسات النيوليبرالية في المنطقة، عبر تحويل المشكلات السياسية إلى مشكلات تقنية، وجعل أساتذة القانون في الجامعات العربية موضع ترحيب لدى المنظمات الدولية والمشاريع المتعلقة بالديمقراطية في دولنا العربية، واختزال النقاش السياسي حول الديمقراطية إلى نقاش قانوني وإجرائي بحت حوّل أساتذة القانون إلى "حرّاس للنفاق الاجتماعي"، وفق العبارة النقدية لعالم الاجتماع الفرنسي، بيار بورديو.
نساؤنا ومؤسسات البحث الغربية: شرق وغرب.. إسلام وحداثة!
ترى عالمة الأنثروبولوجيا الأميركية من أصل فلسطيني، ليلى أبو اللغد، أن الخطاب الحقوقي المتأثر بلغة الأمم المتحدة أضر بالنساء في المنطقة والعالم الإسلامي عموماً. إذ شكّل مطية للتدخّل الأجنبي في بلدان عديدة على غرار أفغانستان التي احتلتها الولايات المتحدة، والتي كان من جملة دعايتها السياسية القضاء على حركة "طالبان" التي تقمع النساء.
وتدافع أبو اللغد عن مقاربة مختلفة تأخذ في الاعتبار الحقائق والسياقات المعقّدة كما تعيشها نساء المنطقة بعيداً من التنميط الذي يروّج له الغرب ومؤسساته البحثية، حيث يعمدون إلى ربط واقع المرأة في الإطار الثقافي والمعتقدات الدينية المتصلة بالإسلام.
وتقول العالمة أبو اللغد إنه بدلاً من سعي الغرب إلى الكشف الجاد عن جذور المعاناة في هذا الجزء من العالم عبر تفسيرات سياسية وتاريخية، يتم اللجوء إلى أجوبة ثقافية ودينية، وبدلاً من الدفع بمقاربات تأخذ في الاعتبار الترابط العالمي، تقوم مؤسسات البحث الغربية والعربية المرتبطة بها، ببناء نماذج متخيّلة تعارض بين "الغرب" و"الشرق" وبين "الإسلام" و"الحداثة".
هذا التعارض المصطنع يدفع بالمنظمات العالمية والخبراء المشتغلين بقضايا وحقوق المرأة العربية إلى طرح تصوّرات ترى أن "النساء في المنطقة يحتجن إلى إنقاذ"، بمعنى تطوير سياسات تخلصهن من هيمنة البنى التقليدية والعلاقات الأبوية، كما يصفها الغرب. علماً أن هذه البنى، ونموذج العلاقات الأبوية نفسها، لا تنفصل عن التاريخ الاستعماري للغرب. فقد قام الأخير على سردية دينية "إنقاذية" تتحدث بضرورة أن يهبّ الرجل الأبيض لمساعدة الشعوب على "التحضّر" كونه يحمل قيماً كونية متفوقة أخلاقياً. هذا التصوّر يهيكل بطريقة واعية أو غير واعية تصورات كثير من المنظمات غير الحكومية في منطقتنا التي تتدخّل بشكل قوي للتأثير في السياسات العامة المرتبطة بحقوق المرأة.
هذا التصوّر ذاته تتبنّاه ناشطات في الحركات النسوية ونخب أكاديمية في العالم العربي تشتغل على مسائل النوع الاجتماع وقضايا المرأة. وقد أثبت هؤلاء فشلهم في إنتاج معرفة عن الواقع النسوي في المنطقة سواء عبر نقاش المنتج المعرفي الغربي أو فهم الديناميكيات المحلية من خلال أعمال ميدانية لها تأثير معرفي. علماً أن معظم ما يقومون به اليوم هو ترديد المقولات الغربية وإعادة إنتاجها عبر إسقاطها على واقع محلي يتسم بالتعقيد. الأمر الذي يفسّر عدم تجاوز جلّ الدراسات التي يقوم بها باحثون محليون دائرة "النزعة الوضعية" أو خطاب إدانة "المجتمع الأبوي الظالم"، وتالياً تصوير النساء كضحايا عبر إغفال السياقات المركّبة لوضعيتهن وتنوّع مساراتهن وتناسي قدرتهن على الفعل والمقاومة.
لقد أدى غياب أي جهد محلي لإحداث قطيعة إبستمولوجية مع الخطابات النسوية المهيمنة، إلى طغيان لغة قانونية عربية حول وضع النساء تتماشى مع لغة المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي ساهمت في نزع التسيس عن قضايا النساء وإدراجها ضمن توجّه ليبرالي يتجاهل الثقافة والتاريخ والسياسة، جاعلاً ما تتعرّض له المرأة من مظالم مجرد إشكالية قانونية وجزء من عملية إصلاح يجب أن تقوم بها الأنظمة العربية.
وعلى الرغم من الإصلاحات القانونية لصالح النساء والتي جاءت نتيجة توصيات أممية، لا تزال الكثير من نساء المنطقة يتعرضن للحيف واللاعدالة الاجتماعية والاقتصادية علاوة على كونهن ضحايا للحروب الطائفية والأهلية التي ساهم الغرب في تأجيجها. وقد خلق هذا الواقع "سوق خبرات" في ما يسمى بالنوع الاجتماعي يقتات منه كثير من المتخصصين في العلوم الاجتماعية في المنطقة عبر إنتاج تقارير ومعارف ذات بعد تقني، وهي معارف لم تفد النساء في شيء غير تعميق صورتهن النمطية التي تشكّل جزءاً من منظومات اقتصادية ليبرالية ترسّخ علاقات الهيمنة والقوة بين "دول الشمال" و"دول الجنوب" من خلال باحثين أقرب إلى "مقاولين محليين".
"خبراء الهجرة" العرب في مراكز الأبحاث.. الاستعمار "بريء" وتقسيم العمل العالمي "عادل"!
أمام تصاعد موجات الهجرة واللجوء من بلدان "الجنوب" (المنطقة العربية وأفريقيا) نحو أوروبا، والتي صارت تتم بطرق غير نظامية تفلت من رقابة السلطات المحلية، ومنذ أن قررت أوروبا إغلاق حدودها في تسعينيات القرن الماضي في إطار اتفاقية شينغن، صارت إشكالية الهجرة غير النظامية ضمن المباحث التي يشتغل عليها الباحثون المحليون في المنطقة العربية، ليس لمردوديتها المعرفية بل لكونها "سوقاً للخبرة" على المستوى العالمي وتحظى بدعم مالي من دول الاتحاد الأوروبي.
ذلك أن السياسة الأوروبية المسكونة بتاريخ استعماري طويل، ترى المهاجرين القادمين من الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط خطراً أمنياً محدقاً يجب التقليص من احتمالاته، عبر تطوير سياسات يطغى عليها الطابع الأمني.
ويعتبر البحث العلمي حول الهجرة جزءاً من هذه السياسات، التي بقدر ما تتعاطى مع الهجرة كظاهرة إنسانية وسوسيولوجية (دراسة أسباب الهجرة والفقر والتغيرات المناخية والتمثلات السائدة حول أوروبا كجنة موعودة والنزاعات والحروب الأهلية)، إلا أنها تغرق في معظمها في طابع وصفي وإثنوغرافي يعوزه "تسييس" الظاهرة وربطها بالتقسيم العالمي للعمل.
وعلى الرغم من الدعاية التي تقوم بها أوروبا والغرب عموماً للسردية النيوليبرالية، وأيديولوجية الرأسمالية الجديدة، وأن "العالم قرية صغيرة" يؤمن حرية تدفّق البشر والسلع في ظل اقتصاد السوق، إلا أن هذه الدعاية تتوقّف عندما يتحرّك مواطنو مجتمعات "دول الجنوب" تجاه أوروبا. هذه الازدواجية في الخطاب لا يمكن فهمها كنفاق أوروبي، بل كمكوّن أساسي من مكوّنات علاقات الهيمنة بين دول "الشمال" و"الجنوب"، وكذلك كجزء من منطق التحكّم التي تسيطر على الدولة الوطنية الحديثة. فالهجرة لا يمكن أن توجد لولا فكرة الحدود ذاتها (وهي فكرة حديثة) حيث لا تشكّل الحدود خطوط تماس ثابتة لكنها في الأساس أنظمة أمنية وقانونية منتجة لعلاقات الهيمنة.
وعلاوة على كونها ظاهرة مرتبطة بالإمبريالية وبالكوارث المناخية وبالقمع السياسي، فقد باتت مسألة الهجرة نظاماً للتحكّم والسيطرة من خلال عزل طبقات اجتماعية ضمن نماذج تصنيفية تقوم على العرق والدين والجندر.
كما أن سياسات "شنغنة" الهجرة غير منفصلة عن التقسيم العالمي للعمل. فعلاقات الهيمنة الجديدة لا تسمح لعمال "دول الجنوب" بالانتقال إلى أوروبا وزيادة فاتورة الحماية الاجتماعية، بل تريد منهم البقاء في شركاتها متعددة الجنسيات ومصانعها ضمن بلدانهم الأصلية. حيث المصانع الملوّثة والمجهود الكبير والأجور الرخيصة، خاصة في البلدان التي تحكمها ديكتاتوريات تضيق على العمل النقابي وتنتهك حقوق العمال.
يصمت الخطاب البحثي لدى من يسمون أنفسهم بــ "خبراء الهجرة" عن هذه التعقيدات، ويكتفي بالتعاطي مع مسألة الهجرة خارج علاقات الهيمنة الاستعمارية عبر صياغات مفاهيمية اختزالية على غرار "التدفقات الهجرية"، وهي مصطلحات مرتبطة بسياسات أمنية ترى في المهاجرين خطراً كبيراً.
ليست هذه المواضيع وحدها هي التي تحدّدها المؤسسات البحثية الدولية كأولوية بحثية، بل يتجاوز الأمر إلى مباحث تتعلق بموضوعات الإرهاب والطاقة والسياسات الغذائية وغيرها. في مقابل هذا تعيش الجماعة العربية العلمية حالة من الركود، خاصة في مجال العلوم الإنسانية، وهو المجال المرتبط بإنتاج المعنى ومساعدة مجتمعاتنا على التفكير في ذاته. بل تكتفي إما بالانكفاء على ذاتها داخل جدران الجامعة، أو العمل في إطار"المقاولة البحثية" على نحو لا يساعد مجتمعاتنا على التحرّر. بل تساهم في تكريس السياسات الاستعمارية ودعم التبعية. أما الحكومات العربية وحكومات المنطقة فلا تمتلك أي رؤية جدية لجعل البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية منطلقاً للفهم والتفكير في المجتمعات والمساعدة على تنميتها، إذ تعمل على حصار المعرفة النقدية وتجريمها ما يفتح المجال لسيطرة قوى التطرّف والجهل.