لحظات لا تموت

كانت يده في يميني كما يد أخيه في يساري، لكن في اللحظة الحرجة من المسيرة، عندما أعلن سماحة السيد تلبية نداء الحسين الذي وقف في مثل هذا اليوم قبل مئات السنين طالباً الناصر.

  • لحظات لا تموت

سرت قشعريرة هلع في داخلي. ارتخت قدماي وارتجف قلبي عندما لم أجده بقربي. أنزلت كفي التي كنت أرفعها للأعلى. شددت بكفي الأخرى على كف أخيه خوفاً من أن يضيع هو الآخر، وصرت أتلفت يميناً ويساراً، مشيت كثيراً قبل أن أنتبه إلى أنني أفلت يد ابني ذي السبع سنوات.

الشوارع مزدحمة جداً. لون واحد يتشح به جميع الخلق... الأسود. كأنه قد أصبح قلبي فارغاً. هذه أول مرة يضيع فيها ولد من أولادي.

بكيت كثيراً منذ ساعات الفجر الأولى على مصاب الإمام الحسين طوال المسيرة. ربما لا أملك دموعاً إضافية لأبكي خوفاً على مصير ابني، أو على الرعب الذي يعيشه في هذه اللحظات.

- يا حسين.. فداك نفسي وولدي.. فدا طفلك الرضيع.

فقط قلت هذا، وأنا أمشي وأدور بحثاً عنه.

كانت يده في يميني كما يد أخيه في يساري، لكن في اللحظة الحرجة من المسيرة، عندما أعلن سماحة السيد تلبية نداء الحسين الذي وقف في مثل هذا اليوم قبل مئات السنين طالباً الناصر.

صرخت وأنا أرفع قبضتي:

- لبيك يا حسين

صرخت.. مشيت.. بكيت.. نسيت الدنيا... نسيت أنني أمّ.

لا أدري كم مرّ من الوقت منذ أن ابتعدت عنه. كيف سأجده بين ألوف الناس التي ما زالت محتشدة. بعض النسوة شاهدن الخوف والاضطراب على وجهي. اقتربن لطمأنتي ومساعدتي. صرن يبحثن معي. آآه ما أجمل المواساة. تذكرت زينب التي لم يأتِ أحد لمواساتها. خجلت.. بكيت مجدداً. 

أقسم إنني لم أكن أبكي هذه المرة على فراق ابني، لكن للدمعة شفاعة.. أنا أؤمن بذلك.

فجأةً ظهرت امرأة تتقدم من بين الجموع، كأنها حضرت من عالم آخر. تنظر ناحيتي بعينين مهيبتين لم تجف دموعهما.

- أيتها السيدة.. يا حاجة.. سمعت أنك تبحثين عن طفلك.

شهقت فقط من دون أن أنبس ببنت شفة.

- اطمئني.. وجده بعض الشبان وهو معهم في ذلك الشارع.

هرولت للناحية التي أشارت إليها تلك السيدة. كان ابني يضحك والدموع في عينيه.بكى كثيراً قبل أن يحمله بعض شبان الحرس.

لكن ما الذي أوقفه عن البكاء؟ قالوا لي بأنهم أخبروه أنه لن يكون معهم في المقاومة عندما يكبر لو ظل يبكي.. فصار يتبسم.

احتضنت ولدي بلهفة كأنه غاب عني غيبة يوسف عن يعقوب.

- تقبرني يا إمي ليش ما ضليتك حدي؟ عاتبته وكأنه هو المخطئ.

قال وهو ينظر في وجهي ليزيد اطمئنانه.

- كنت أنظر إلى يدك عندما رفعتها كي أظل أراك، ولكن كل الأيادي يا أمي ارتفعت إلى السماء، وكلها يشبه بعضها بعضاً.

اخترنا لك