ماذا لو طالبت روسيا ترامب باسترداد كاليفورنيا؟
ما دام دونالد ترامب فتح بازار البيع والشراء في غرينلاند وغزة.. فماذا لو طالبته روسيا باسترداد كاليفورنيا؟
في حمأة جنون الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، المستعر بشأن السيطرة على غرينلاند، أو ضمّ كندا إلى الولايات المتحدة، أو شراء غزة وطرد أهلها منها إلى بلدان مجاورة، أو توسعة حدود الكيان الاحتلال الإسرائيلي على حساب الأراضي العربية، أتى عرض الدانمارك مقايضة غرينلاند بولاية كاليفورنيا الأميركية.
بدا الردّ ساخراً، ومن دون مسوّغ محدد، لكن ماذا لو طالب الاتحاد الروسي باسترداد كاليفورنيا من الولايات المتحدة؟ أو على الأقل مقاطعة سانوما، التي كانت روسية بالفعل قبل نحو 180 عاماً؟
قبيل انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، ولمناسبة الذكرى الــ 250 لتأسيس "أميركا الروسية"، أصدر البنك المركزي السوفياتي عملة فضية تذكارية من فئة 3 روبلات، تحمل خلف المنجل والمطرقة نقشاً لـ"قلعة روس" في كاليفورنيا. وفي العام نفسه، صدر طابع بريدي يحمل صورة القلعة وبورتريه إيفان ألكسندروفيتش كوسكوف (1765-1823)، حاكم البلدة، مع عبارة "قلعة روس، كاليفورنيا، 1812". شكل هذا الطابع حافزاً على البحث، وكان في متناول أيدينا كطلاب في السنة الأخيرة من الحقبة السوفياتية، قبل أن تدخل روسيا في العقد المعتم من تاريخها بعد الانهيار.
أصل الحكاية
-
قلعة روس سنة 1828
يسمي الأميركيون البلدة الروسية في كاليفورنيا باسم "فورت روس"، ويختزلونها بمبنى الكاتب والرحالة الروسي ألكسندر غافريلوفيتش روتشيف (1806-1873)، آخر حاكم للبلدة، ومنزله لا يزال قائماً حتى اليوم، إلى جانب بعض المباني التي أعيد بناؤها في محمية تاريخية يقصدها نحو 150 زائر سنوياً، وفق الأرقام المعلنة. لكن هذا الاختزال لا يتوافق مع الوثائق التاريخية، فالبلدة لم تكن عبارة عن قلعة وعدد من المباني في ذلك الزمن، بل بلدة روسية ذات أراض زراعية شاسعة على بعد 80 كيلومتراً شمال سان فرانسيسكو، أسستها "الشركة الروسية للصيد وتجارة الفراء". وانضمت البلدة إلى البلدات والمستوطنات في "أميركا الروسية"، التي بدأت من عاصمتها "نوفوأرخانغلسك" شمالاً (مدينة سيتكا جنوبي ولاية آلاسكا اليوم)، وكانت "قلعة روس" أبعدها جنوباً.
كان السياسي الروسي ألكسندر أندريفيتش بارانوف (1790-1818) اتخذ قراراً يقضي بإنشاء مستوطنة روسية في كاليفورنيا. وللعثور على مكان ملائم لها أرسل 3 أو 4 بعثات بين عامي 1808 و1812، تحت قيادة الباحث المستشار إيفان كوسكوف.
ولفت كوسكوف الانتباه إلى هضبة تقع على بعد 30 كيلومتراً عن شمال خليج روميانتسيف (خليج بوديغا حالياً)، مفصولة عن المنطقة بممرات عميقة ومحاطة بالغابات والمراعي، على بعد 10 كيلومترات عن مجرى أطلق عليه اسم سلافيانكا ("النهر الروسي" حالياً).
-
طابع "أميركا الروسية" السوفياتي سنة 1991
وأسس الروس، في الـ30 من آب/أغسطس 1812 (الـ11 من أيلول/سبتمبر وفق التقويم الحالي) بلدة مسوّرة، في أراضٍ تابعة لقبيلة كاشايا بومو، التي سمح زعيمها للروس باستخدام الأرض في مقابل بضائع، منها بطانيات وسراويل وفؤوس ومعاول وخيوط من الخرز.
كان الهدف من إنشاء البلدة في جنوبي أميركا زراعياً، من أجل رفد عاصمة "أميركا الروسية" نوفوأرخانغلسك ومقاطعة آلاسكا الروسية بالطعام. ومع نمو المجتمع الروسي في كاليفورنيا تقاسمت الزراعة والصناعات الخفيفة اقتصاد البلدة.
لم ترضَ إسبانيا بادئ الأمر، إذ عدّت هذه الأراضي تابعة لها على الرغم من أنها لم تستوطنها، إلا أن الشركة الروسية أشارت إلى أن حدود مستعمرات الإسبان، شمال سان فرانسيسكو، لم تكن حُددت، وأن السكان الأصليين لم يكونوا خاضعين للإسبان. كما أن وزير الخارجية الإسباني، خوسيه لوياندو، لم يرغب في إفساد العلاقات بالإمبراطورية الروسية، وأصدر تعليماته لنائب ملك "إسبانيا الجديدة" (المستعمرات الإسبانية في أميركا الشمالية بين عامي 1535 و1821)، وتضمنت "إظهار الحذر الشديد لتحقيق التسوية مع الروس من دون المساس بالعلاقات الودية بين البلدين".
-
جانب من "قلعة روس" اليوم
وفي عام 1816، جرت مفاوضات بين المبعوث الروسي أوتو إيفستافييفيتش كوتزيبو (1787-1846)، والحاكم الأعلى لولاية كاليفورنيا، بابلو فيسينتي دي سولا، في سان فرانسيسكو، بحيث أثار الأخير مسألة "قلعة روس"، فاستدعى كوتزبو كوسكوف، الذي ذكر أنه أسس البلدة بأمر من رؤسائه، ولا يمكنه تركها إلا بأمر منهم. وخلص اللقاء إلى توقيع محضر يتضمن مواقف الطرفين، وأرسل إلى العاصمة سان بطرسبرغ، لكن دي سولا أدرك عدم جدوى معارضة الروس.
-
منزل ألكسندر روتشيف الذي لا يزال قائماً إلى اليوم
حاول أهل "قلعة روس"، بصورة فعالة، التأثير في السلطات المكسيكية للاعتراف بالبلدة وتحديد أراضيها، لكنهم رفضوا بحجة عدم وجود علاقات دبلوماسية بالإمبراطورية الروسية. في عام 1835، أرسل أهل البلدة مبعوثاً إلى مدينة مكسيكو بهدف إبرام اتفاقية تجارية معها، واشترطت المكسيك اعتراف روسيا رسمياً بها في مقابل اعترافها بـ "قلعة روس"، لكن القيصر نيقولاي الأول رفض الاعتراف باستقلال المكسيك. بعيداً عن السياسة، كانت العلاقات التجارية وثيقة بين "قلعة روس" والمكسيكيين، الأمر الذي ساهم في تنمية البلدة الروسية وتطورها ومدها بالمعدات الزراعية والصناعية.
في المقابل، شارك "الهنود"، السكان الأصليون، في العمل في البلدة وأراضيها منذ بداية وجودها. في البداية، أعطى الروس إلى السكان الأصليين الدقيق واللحوم والملابس، ووفروا لهم السكن في مقابل عملهم. ولم يخلُ الأمر من تشنج في العلاقات بينهم وبين الروس، إلا أن الروس، على عكس المستعمرين الآخرين، لم يخوضوا أي اشتباك مسلح مع أصحاب الأرض الأصليين، حتى عندما هاجم هؤلاء المواشي الروسية.
ومن خلال "الهنود"، حاول الروس أيضاً إضفاء الشرعية على ممتلكاتهم في كاليفورنيا. في عام 1817، زار المنطقة قائد "أميركا الروسية" الأعلى ليونتي أدريانوفيتش غيغميستر (1780-1833)، والتقى بزعيم قبيلة كاشايا بومو ومعاونيه، وأعرب عن امتنانه للتنازل عن الأرض، وقدم إليهم الهدايا، ومنح الزعيم وسام "حلفاء روسيا".
ووثّقت نصوص اللقاءات محاضر موقعة. كما وقع الجانبان الروسي و"الهندي" على اتفاقية، تذكر على وجه الخصوص أن السكان الأصليين "مسرورون بوجود الروس في هذا المكان". ويولي الباحثون الروس هذه الوثيقة اهتماماً خاصاً لكون بلدتهم حظيت بشرعية من السكان الأصليين.
نموّ "قلعة روس"
-
جانب من قرية روسية تابعة لقلعة روس عام 1841
في "قلعة روس"، ظهرت أولى طواحين الهواء وأحواض بناء السفن والبساتين وكروم العنب في كاليفورنيا. بالإضافة إلى ذلك، كان الروس أول من جلب إلى كاليفورنيا عدداً من منتوجات الحضارة الأوروبية، مثل زجاج النوافذ.
في الفترة 1837-1840، دوّن إيغور تشيرنيخ ملحوظات منتظمة للطقس في كاليفورنيا، للمرة الأولى.
زراعياً، حققت تربية الماشية نجاحاً كبيراً، ففي نهاية ثلاثينيات القرن الــ 19، كان فيها 1700 رأس من الماشية المتنوعة، و940 حصاناً و900 خروف. وأنتجت أكثر من 800 كيلوغرام من الصوف سنوياً. وفي الصناعات الخفيفة، أنتج حرفيو البلدة الأثاث والأبواب والإطارات والبلاط، بالإضافة إلى العجلات والبراميل والعربات ذات العجلتين والجلود المدبوغة (وورّدت البلدة نحو 90 قطعة إلى نوفوأرخانغلسك سنوياً).
وبنت القرية السفن، وبيع بعضها للإسبان، الذين لم يكن لديهم سفينة واحدة هناك في ذلك الحين. وفي الفترة 1816-1824، بنيت 3 سفن كبيرة وسفينة شراعية واحدة.
-
قطعة الروبلات الثلاث الفضية السوفياتية عام 1991
تمدّدت أراضي البلدة إلى نهر سلافيانكا (النهر الروسي حالياً)، بحيث أنشئت القرى التابعة لها، ومنها أكبرها مزرعة كوستروميتينوفا (قرية كوستروميتينوفسكوي) الواقعة جنوب النهر، من جهة، وميناء روميانتسيف، المطل على خليج بوديغا. وغطت بساتين الأشجار المثمرة وكروم العنب والمزارع المركزية الثلاث التابعة لها مساحات كبيرة، وبلغ عدد سكانها نحو 260 شخصاً.
لكن البلدة وقراها الثلاث (قرية كوستروميتينوفسكوي، ومزرعة تشيرنيخ، ومزرعة سهول كليبنيكوف) فقدت أهميتها لدى "الشركة الروسية الأميركية للصيد وتجارة الفراء"، بعد اتفاقها مع "شركة خليج هدسون" على الإمداد المنتظم بالمواد الغذائية للمستوطنات الروسية الأخرى بأسعار ثابتة، فاختفت حاجتها إلى الإمدادات الغذائية من "قلعة روس" وكاليفورنيا المكسيكية، فتخلت عنها في عام 1839، وباعت أملاكها فيها، عام 1841، لرجل الأعمال الأميركي، جون سوتر، مؤسس مستوطنة نيو هلفيتيا، الذي كان يمتلك ما يقرب من 200 كيلومتر مربع من الأراضي المجاورة، في مقابل 42857 روبلاً فضياً.
أهمية "قلعة روس"
-
من فيلم "قلعة روس" ليوري ماروزوف
بغض النظر عن قرار الشركة المذكورة التخلي عن ممتلكاتها في "فورت روس" والقرى الملحقة بها، إلا أن الروس يَعُدّون "فورت روس" جزءاً من "أميركا الروسية"، فالشركة لا يمكنها أن تبيع الناس ومصائرهم.
وترجم الروس ذلك الوعي، عبر عدد كبير من البحوث والكتب والروايات، وسلسلة من الأفلام الوثائقية والخيالية، ومنها فيلم "أميركا الروسية"، للمخرج يوري بافلوفيتش موروز، عام 2011، ويتناول قسم كبير منه "قلعة روس". وفي العام التالي، ظهر فيلم الخيال العلمي "قلعة روس". في عام 2012، أكملت شركة "حفظة الأسرار" للأفلام واستوديو "يونست" (الشباب) سلسلة الأفلام الوثائقية، "روسيا الأميركية"، في 8 حلقات. كما أنتجت فيلماً وثائقياً بعنوان "العيد الروسي"، وهو مكرّس للأشخاص الذين ارتبط مصير عائلاتهم ببلدة "قلعة روس". وظهر في العام عينه الفيلم الوثائقي "قلعة روس: رحلة عبر الزمن"، للمخرجة تمارا مالوفا. وفي عام 2014، ظهر فيلم "قلعة روس: بحث عن المغامرة"، للمخرج يوري موروز أيضاً.
ويوجد تقليد قديم لدى عائلات المهاجرين الروس وذوي الأصول الروسية، والذين يعيشون في سان فرانسيسكو والمنطقة المحيطة، يقضي بأنه، في يومي السبت والأحد اللذين يسبقان الرابع من تموز/يوليو (عيد الاستقلال الأميركي)، يقومون بنزهة جماعية سنوية في "قلعة روس"، يؤكد أصالة الوجود الروسي في كاليفورنيا.
ويترافق ذلك مع تجذر في الوعي لدى الباحثين في تاريخ الانتشار الروسي، ويرتبط بالوثيقة الموقعة من السكان الأصليين الأميركيين، والتي رحبت بوجود الروس من جهة، وأضفت شرعية على البلدة الروسية والقرى الملحقة بها، من جهة أخرى. فما دام الأميركي اليوم فتح بازار البيع والشراء، خارج الأصول الدبلوماسية والأعراف الدولية، فما الذي يمنع الاتحاد الروسي من المطالبة باسترداد كاليفورنيا؟