مثقّفون مصريون بعد حادثة "دار المرايا": هل بات الإبداع داخل قفص الاتهام؟

قرار منع "دار المرايا" من المشاركة في "معرض القاهرة الدولي للكتاب" واعتقال مديري دور نشر وكتّاب، يثير استياء مثقفين يرون أن الإبداع في البلاد بات في قفص الاتهام. ماذا جرى مع الدار؟ وكيف تبرّر السلطات المصرية ما يحصل؟

أثار قرار "الهيئة العامة المصرية للكتاب"، منع "دار المرايا" من المشاركة في الدورة المقبلة من "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، استهجان العديد من الكتّاب والمثقفين في مصر.

وأوضحت "دار المرايا"، في بيان رد على القرار، أنها قامت بتسجيل اشتراكها في المواعيد المقررة، إلا أنها لم تتلق إذن الدفع لسداد إيجار الجناح الخاص بها، وفوجئت بإغلاق حساب الدار على موقع المعرض.

أما حملة "أنقذوا حرية الرأي" في المفوضية المصرية للحقوق والحريات، فاستنكرت القرار، معتبرة أنه "استهداف واضح وممنهج لدار المرايا، خاصة أنها سبق أن تعرضت لحوادث منع مماثلة".

وقالت في بيان إن: "منع دار المرايا اعتداء على حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور والقانون"، وأن ذلك "رسالة تخويف لدُور الكتب والمبدعين، وهجمة على الفنون والأدب".

وأدانت 10 منظمات حقوقية في وقت سابق قرار الهيئة بحق الدار، من بينها "مؤسسة حرية الفكر والتعبير"، و"الجبهة المصرية لحقوق الإنسان"، و"مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان"، و"المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، و"مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان"، التي أكدت في بيان أن "مداهمة (دار المرايا) يثير مخاوف بشأن الحريات الثقافية في مصر".

وأضافت أن التحركات الأمنية الأخيرة ضد الدار المذكورة "تتناغم مع السياسات الأمنية المقيدة لحرية الإبداع والتعبير الفني وفي القلب منها تشديد الخناق على المنظمات الثقافية المستقلة عبر إرهابها بعدة طرق، على رأسها الاستهداف الأمني واستخدام المصنفات والضرائب لإبعاد الشبهات حول الاستهداف السياسي لتلك المنظمات".

ويرى مثقفون مصريون أن المداهمات الأمنية والمنع من المشاركة في الفعاليات الثقافية في البلاد، "باتت إحدى وسائل حصار الإبداع"، وأن ما يجري "ظاهرة تمسّ حرية الرأي والتعبير الفنّي، وتزيد من تردي المناخ الثقافي، ولا تتماشى مع تطلّعات المثقّفين والجمهور". 

في المقابل، يدافع مسؤولون حكوميون عن قرار "الهيئة العامة المصرية للكتاب"، ويعزون ذلك إلى "مخالفة دور النشر لقواعد النشر وإصدار (دار المرايا) مجلة ثقافية من دون ترخيص من (الهيئة الوطنية للإعلام)، فضلاً عن عدم دراية دور النشر المصرية بميثاق الشرف الذي أقره (اتحاد الناشرين المصريين) أو أعراف مهنة النشر المتعارف عليها لدى اتحادات الكُتاب في العالم، وعدم الحصول على التراخيص اللازمة لنشر الكتاب هو التزام حيال الأمن القومي للبلاد".

ويفتتح الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، في 24 كانون الثاني/يناير الجاري، الدورة الـ56 من "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، الذي يحمل هذا العام اسم المفكر أحمد مستجير، ليكون شخصية المعرض، وكاتبة أدب الطفل فاطمة المعدول، شخصية معرض كتاب الطفل. فما الذي جرى مع "دار المرايا"؟ ولماذا يقف مثقفون ضد ما حصل، علماً أن له مبرراته القانونية؟ هذان السؤالان وغيرهما طرحتهما "الميادين الثقافية" على كتّاب وجهات حكومية مصرية، وهذه كانت إجاباتهم.

**

"دار المرايا": التضييق علينا بلغ حدوداً غير مسبوقة

يُعدّ "معرض القاهرة الدولي للكتاب" موسماً تحقق فيه دور النشر المصرية نحو نصف مبيعاتها السنوية، ورغم ذلك، تمنح اللائحة التنظيمية لإدارة المعرض الحقّ في قبول أو رفض اشتراك أي دار نشر من دون تبيان الأسباب. كما تتيح لها سحب الكتب التي تراها "غير مناسبة".

أما المنع الذي طال "دار المرايا" فلم يكن الحادثة الوحيدة التي اختبرتها الدار. إذ سبقتها حوادث شبيهة. ففي 27 تموز/يوليو الماضي، داهمت قوات الأمن الدار وصادرت شرطة المصنفات الفنية 217 كتاباً، بينما قامت شرطة التهرب الضريبي بمصادرة 4 صناديق تحتوي ملفات ومستندات مالية خاصة بالدار وكذلك القبض على المساعد الإداري في الدار، قبل أن تخلي سبيله على ذمة قضية جنح قيدت برقم 5142 لسنة 2024.

وقبلها مُنعت الدار من إقامة حفلة توقيع ديوان "كيرلي" للناشط السياسي والشاعر أحمد دومة، المفرج عنه من السجن في 19 آب/أغسطس 2023. فالديوان كتبه صاحبه في السجن وتم تهريب أوراقه على مدار سنوات ليُنشر عام 2021، لكن تمت مصادرته من جناح الدار في "معرض القاهرة الدولي للكتاب" عام 2022، كما منع نشره وتوزيعه من قبل أي دار نشر أخرى.

وسبق ذلك أيضاً مداهمة قوات الأمن المصرية مقر "دار المرايا" في 25 أيلول/سبتمبر 2022، حيث صادرت نسخاً من بعض إصداراتها إضافة إلى عقود مع المؤلفين، واقتادت مديرها، كاتب السيناريو، يحيى فكري، إلى النيابة للتحقيق معه بتهم "اختلاف عناوين بعض الكتب المنشورة عن العقود الموقعة مع المؤلفين، وإصدار مجلة "مرايا" من دون ترخيص من الهيئة الوطنية للإعلام". وجاء ذلك بعد يوم واحد من ندوة نظمتها الدار لمناقشة كتاب "شبح الربيع" للناشط والسجين علاء عبد الفتاح.

أما الحادثة الخامسة فتمثلت في رفض "دار الكتب والوثائق القومية" عام 2021 منح "دار المرايا" رقم إيداع لكتاب "مرايا 25"، وهو إصدار ثقافي شارك فيه عدد من الكتّاب والسياسيين والاقتصاديين.

في هذا الإطار، تقول دينا قابيل، مديرة الدار إن: "التضييق المستمر على الدار بلغ حدوداً غير مسبوقة، ووصل إلى حد منعنا من المشاركة في معرض القاهرة الدولي للكتاب رغم سداد الالتزامات المالية وسلامة كل أوراق الدار والتراخيص"، معتبرة أن الهدف هو "السيطرة على محتوى الكتب المنشورة".

وتضيف قابيل في مقابلة مع "الـميادين الثقافية"، أن "الواقعة الجديدة تأتي في سياق تكميم حرية الإبداع والرأي، حيث تكرر اقتحام الدار منذ العام 2019"، لافتة إلى أن "وسائل التضييق على الناشرين كثيرة، فمنها الإغلاق والاعتقال، فضلاً عن المراجعة المستمرة من قبل هيئة المصنفات الفنية حيال أرقام إيداع الكُتب، أو مصادرة كتب بعينها بعد نشرها".

واعتبرت مديرة الدار أن "قرار هيئة الكتاب بمنع الدار من المشاركة في المعرض رغم مشاركتها منذ العام 2017، تعسّف يعرض مصداقية المعرض للخطر"، مشيرة إلى أن "اتحاد الناشرين المصريين حاول على مدار الأسابيع الماضية، معرفة أسباب الرفض وتقديم حلول لها، إلّا أنّ الهيئة أصرّت على موقفها من دون تقديم أي مبرّرات".

وأضافت أن "هذا القرار يحمل تداعيات سلبية كبيرة على دُور النشر، لا سيما أن "معرض القاهرة الدولي للكتاب" يمثّل موسماً رئيسياً لعرض الإصدارات الجديدة وتحقيق المبيعات، فضلاً عن كونه فرصة لإبرام تعاقدات مع الموزعين المحليين والدوليين".

وكانت "الهيئة العامة لدار الكتب والوثائق القومية" المسؤولة عن تسجيل الكتب، وضعت قوانين جديدة لتسجيل الكتب الجديدة تبعتها قواعد إجرائية تتضمن توقيع الكاتب إقراراً بالمسؤولية عمّا ورد في كتابه، وتحمل عواقب كل ما يحتويه. كما تخضع الكتب المترجمة أو المستوردة من الخارج إلى مراحل متعددة ومعقدة من الرقابة في ظل قوانين متداخلة وفضفاضة وغير واضحة.

إغلاق مكتبات وتحفظ على كتب وسجن كتّاب 

تتشابه أزمة "دار المرايا" اليوم مع ما حصل مع الناشر المصري خالد لطفي عام 2018.  فقد حكمت محكمة عسكرية على الأخير بالسجن مدة 5 سنوات بتهمة نشر أسرار عسكرية على خلفية نشر "دار تنمية" التي يرأسها لطفي، كتاب "الملاك: أشرف مروان" الصادر في العام 2016 للكاتب الإسرائيلي، يوري بار جوزيف، على الرغم من وجود ترجمات عربية للكتاب متوفرة في السوق العربية.

وتبع عقوبة السجن منع "دار تنمية" من المشاركة في "معرض القاهرة الدولي للكتاب"، إضافة إلى دور نشر أخرى نذكر منها "دار التنوير"، و"كتب خان"، و"ديوان العرب".

وفي العام 2019 اقتحمت قوة أمنية مؤسسة "الدار للنشر" وألقت القبض على أيمن عبد المعطي، مدير الدار، وأدرجت اسمه في قضية الانضمام إلى جماعة إرهابية، والترويج لفعل إرهابي ونشر أخبار كاذبة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي.

كما داهمت في العام نفسه "مكتبة البلد" وأغلقت مقرها بدعوى أنها بلا تراخيص رغم ملكيتها لفريد زهران، رئيس "اتحاد الناشرين المصريين" حالياً، والمرشح الرئاسي بعد الواقعة، ما دفع البعض إلى الربط بين مواقفه السياسية وقرار الاقتحام.

وسبق كل ذلك، التحفظ على "مكتبة ألف" من قبل لجنة التحفظ على أموال تنظيم الإخوان المسلمين في مصر، وتم تعيين مراقبين لأدائها الإداري والمالي. وفي كانون الأول/ديسمبر عام 2016، تم إغلاق مكتبتين تابعتين لسلسلة "مكتبات الكرامة" لمؤسسها جمال عيد، رئيس "الشبكة العربية لحقوق الإنسان".

ووفق منظمات حقوقية، لا يزال الشاعر جلال البحيري قيد الحبس الاحتياطي عقب قضائه عقوبة السجن التي أقرتها محكمة عسكرية على خلفية نشر ديوانه "خير نسوان الأرض"، بينما تم حبس المترجم ورسام الكاريكاتير، أشرف صدقي، على ذمة التحقيقات في القضية رقم 1968 لسنة 2024 - أمن الدولة العليا.

ويرى الروائي المصري، إبراهيم عبد المجيد، أن "سياسة المنع والمصادرة تضرّ بالحركة الثقافية والإبداع لا يزدهر إلّا في مناخ من الحرية، باعتبارها ركيزة أساسية في الفكر والثقافة".

وطالب عبد المجيد، في حديث مع "الميادين الثقافية"، هيئة الكتاب إلى "التراجع عن قرارها بمنع دار المرايا من المشاركة في المعرض"، معتبراً أن ذلك "يشكك في مصداقية المعرض الذي حقّق نجاحات ملحوظة على مدى العقود الماضية، ويجب الحفاظ عليها".

من جانبه، يقول الروائي المصري، عمّار علي حسن، إنّ القرار "يتناقض مع التزامات مصر الدولية باحترام الإبداع والثقافة، ويُظهرها بصورة لا تتماشى مع تطلّعات المثقّفين والجمهور".

وأشار حسن، وهو أستاذ علم الاجتماع السياسي، إلى أن "المنع رسالة سلبية ضدّ المصداقية والرمزية التاريخية لمعرض الكتاب الذي اكتسب سمعة طيّبة عبر العقود الماضية وإن كان ابتعد في السنوات الأخيرة عن كونه مساحة للتنوّع الثقافي والرأي والرأي الآخر، ليتحوّل إلى أداة دعائية للسلطة الحاكمة في مصر".

ولتفادي سياسات التضييق على سوق النشر، يتوجه كتّاب مصريون اليوم إلى التعاقد مع دور نشر عربية خارج مصر، كما حصل مؤخراً مع الروائي علاء الأسواني الذي وقّع عقداً مع دار الآداب في بيروت لنشر روايته الجديدة.

"الهيئة المصرية العامة للكتاب": حرية الإبداع مصونة 

ردّت "الهيئة المصرية العامة للكتاب"، بشخص رئيسها أحمد بهي الدين، على حالة الاستياء بالقول إن: "مصر تتميز بأنها ساحة لحرية الفكر والإبداع والكتب التنويرية الثقافية بما لا يخل بأي ثوابت وطنية".

وأضاف بهي الدين في مقابلة مع "الميادين الثقافية" أن "دورات المعرض السابقة تشهد بعدم مصادرة أي كتب، وما يحكمنا هو الدستور الذي كفل حرية التعبير، والقانون والقضاء الذي يمنع أحياناً بعض الكتب رغم أنه أمر نادر الحدوث". 

وأشار إلى أن "سياسة الدولة المصرية هي الإتاحة وليس المنع والمصادرة، لكن من يخالف القانون ومن لم يحصل على تراخيص أو يخالف الشروط يتم التعامل معه على هذا الأساس".

أما سعيد عبده، الرئيس السابق لــ "اتحاد الناشرين المصريين"، فيقول إن: "حرية الإبداع للناشرين والكُتاب في مصر مصونة دوماً ولا يمسها أحد ما دام هناك التزام بالقانون والدستور"، موضحاً أن "بعض دور النشر المصرية تجهل ميثاق الشرف الذي أقره اتحاد الكُتاب"، مشيراً إلى أن "الحصول على التراخيص اللازمة لنشر الكتب هو التزام بالأمن القومي للبلاد".

حصرية التغطية الإعلامية لمعرض الكتاب

قرارات المنع من المشاركة في الدورة المقبلة من "معرض القاهرة الدولي للكتاب" لم تقتصر على دور النشر فحسب، إذ طالت مؤسسات صحفية.

وفي تصريحات خاصة لــ "الـميادين الثقافية"، قالت مصادر صحافية فضلت عدم الكشف عن هويتها، أن هناك قراراً حكومياً باقتصار التغطية الإعلامية للمعرض على "وكالة أنباء الشرق الأوسط" ، باعتبارها الوكالة الرسمية للبلاد، من دون باقي وسائل الإعلام سواء الحكومية أو الخاصة.

وأضافت المصادر، أن جهات حكومية تواصلت مع هيئة تحرير الوكالة للحصول على أسماء فريق التغطية وهويات أفراده الشخصية تمهيداً للاستعلام الأمني حول المكلفين بالتغطية.