من فيتنام إلى فلسطين ولبنان.. السلاح زينة المقاومين

ذات مرة قال أحد وزراء خارجية أميركا إجابةً عن سؤال أين تقف القوة الأميركية: "لا توجد حدود للولايات المتحدة، حيث توجد مصالح توجد أميركا"، معقّباً بأنَّ حدودها الفعلية هي "يوم قيام يسوع المسيح، نهاية العالم".

  • تظاهرة في الولايات المتحدة تطالب الحكومة الأميركية بالخروج من فييتنام
    تظاهرة في الولايات المتحدة تطالب الحكومة الأميركية بالخروج من فيتنام

"العنق الأعزل لا يستطيع الانتصار على سكاكين الجلّادين"، محمد الماغوط.

استعاد مفهوم المقاومة هذه الأيّام بريقه ونشاطه الدلالي والرمزي في وقت يواجه فيه لبنان اختباراً وجودياً خطيراً، يتمثّل في المطالب المتصاعدة داخل النظام الطائفي لتسليم سلاح حزب الله. السلاح الذي مثّل على مدى عقود عاملاً أساسياً في الحفاظ على السيادة الوطنية ومواجهة الاحتلال الصهيوني. 

ويزداد الضغط بعد خطاب الأمين العامّ لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، الذي حمل عناوين عديدة تتلخّص بأنّ مشروع المقاومة ليس مجرّد أداة عسكرية، بل رؤية سياسية تحمل طابعاً استراتيجياً، حيث ركّز الخطاب على تعزيز الروح المعنوية للمقاومة، وتوضيح الإنجازات، وربطها بالرؤية الأوسع لمحور المقاومة، ومن ثم التشديد على بقاء السلاح طالما الاحتلال قائماً... والسلاح هنا هو زينة المقاومة في كلّ مكان.

لقد أنتجت صور المقاومة في التاريخ أيقونات نموذجية رفعت بعض الثوريّين إلى رموز خالدة في ذاكرة الشعوب من قبيل سبارتاكوس، وتشي غيفارا، وعبد الرحمن الكواكبي، وأنطون سعادة، وناجي العلي، وغسان كنفاني، والسيد حسن نصر الله.. بينهم من اضطهد وآخرون تمّ اغتيالهم.

***

يقال إن السياسة لا ثابت فيها، وتتقلّب بتقلّب الظروف وتغيّر المصالح.. وقضية المقاومة، لا يمكن حلّها بحروب أو معاهدات سلام فحسب وتسويات وتطمينات، فهي أعقد من ذلك بكثير. ومهما نجحت القوى الكبرى، في أوقات سابقة، في أن تميّع القضية وتفقدها زخمها وتأثيرها وتحاول دفنها تحت تراب التطبيع أو معاهدات سلام، أو تجعلها مسألة تخص "حزب الله والشيعة" وحدهم، فهي لن تنجح. ذلك أنّ الأمور قبل "طوفان الأقصى" لم تعد كما بعدها، وهو ما يذكّرنا بالمقاومة الفيتنامية. ففي حين كان أسلوب المقاومة الفيتنامية "الفيتكونغ" يقوم على أساس الهجمات الخاطفة في الأدغال ومن ثم الاختباء في خنادق تحت الأرض، تكشف المقاومة الفلسطينية واللبنانية خلال مواجهاتها البرية للاحتلال، أنّ مقاومتنا استلهمت أسلوب المقاومة الفيتنامية وأضافت إليها نظرتها المتطوّرة في المواجهة القائمة.

***   

أكثر من نصف قرن مضى على الهزيمة المدوّية لأميركا في فيتنام، حيث انسحبت آخر القوات الأميركية المقاتلة من فيتنام عام 1973 تاركة النظام الفيتنامي الجنوبي الديكتاتوري برئاسة تيو أمام مصيره المحتوم. وبقدر ما كانت حرب فيتنام دليلاً صرفاً على وحشية الاحتلال الأميركي وإفلاسه في آن واحد، وبالتالي مصدر إلهام هائل وقوة دفع معنوية لقوى المقاومة في العالم، فإنّ الأسئلة الكبيرة بقيت تداعب عقول المقاومين في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا، وهي: كيف انهزمت قوة عظمى كالولايات المتحدة أمام دولة صغيرة من العالم الثالث في حرب مركزية مفتوحة؟ وما هو الدور الذي أدّته المقاومة الفيتنامية وكذلك الحركة المضادة للحرب في الولايات المتحدة نفسها في تحقيق هذا النصر على القوات الأميركية؟ وما هي العلاقة بين هزيمة القوات الأميركية في فيتنام وأزمة الاقتصاد الأميركي؟  

ذات مرة قال أحد وزراء خارجية أميركا إجابةً عن سؤال أين تقف القوة الأميركية: "لا توجد حدود للولايات المتحدة، حيث توجد مصالح توجد أميركا"، معقّباً بأنّ حدودها الفعلية هي "يوم قيام يسوع المسيح، نهاية العالم".

هذا الأبوكاليبس السياسي (apocalypse political) وتدل الكلمة اليوم عادة على نهاية العالم. هو وضع نبوئي بنهاية التاريخ والحضارة كما روّج لها فرانسيس فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ"، وصموئيل هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات"، وليس قليلاً - بناء على ذلك - أن تتدخّل أميركا وتضع أنفها في أيّ شأن، إقليمياً كان أم دولياً. لكنّ الأكثر دلالة هو تشكيل صورة العالم وفقاً للأخرويات السياسية على الأرض، هي تزعم التعجيل بقدوم الرب وإغراق مناطق العالم ببرك من الوحل والدماء.

***

دخلت أنظمة التطبيع الرسمي والتنسيق الأمني مع العدو في نفق مظلم وتبرير للهزيمة السياسية التي بات يتحرّك ضمنها العرب والمسلمون منذ عقود، وفشلهم المتكرّر في استعادة زمام المبادرة والعبور نحو التحرير. فإذا كانت الأنظمة العربية المطبّعة قد أنجبت جيلاً تافهاً فإنّ فخر المقاومتين، الفلسطينية واللبنانية، أنها أنجبت أجيالاً مقاومة. أليس الصمود الحقيقي في هذه المعركة المقدّسة هو على النزعة الانبطاحية تجاه "إسرائيل"؟ 

في المقابل، زاد الكيان الصهيوني الهجين من مساحة هيمنته ودرجات غطرسته وآليات اعتداءته ووصلت الى حد التصميم على تهويد بلاد الشام وصولاً لبلاد الرافدين وسيناء، واكتساح الساحات ومصادرة الأراضي واعتقال الشباب والدوس على الحقوق وابتزاز المناضلات وتدنيس المقدّسات وخلع الكرامات واستدراج العملاء وغواية الطامعين وتخويف الصامدين وترهيب المقاومين.

لقد توهّم العدو أنه اقترب من تجسيم مخيّلته الخرافية على أرض الواقع وطالت يداه ما بعد الفرات والنيل وكادت تلامس مجالات التطبيع كافة، بما في ذلك الرياضي والاقتصادي والثقافي والتعليمي، وكلّ ذلك استكمل بالدعم المالي والعسكري والمعلوماتي للكيان الاستيطاني/ الاستعماري من طرف أنظمة ونخب موالية ومرتزقة. 

وبهدف ترسيخ أقدامه أكثر في الوسط الطبيعي الداعم له وهو الغرب المتركّز على ذاته، وزاد على ذلك باستقطاب قوى إقليمية صاعدة في الشرق والجنوب والشمال وداخل العمق الحضاري، ولعلّ مفاجأة هذا الاستقطاب تحوّل الهند من جانب الدعم المطلق للحقّ الفلسطيني إلى الدعم المطلق للعدوان الصهيوني باعتباره حقاً طبيعياً للقضاء على "الإرهاب" الفلسطيني!

***

ويبقى السؤال: كيف ننتقل بالمقاومة من لحظة الانفعال والدفاع الى حقل الواجب والحق والهجوم (الدائم)؟ وكيف يمكن استثمارها في عملية استرجاع ما تمّ تفكيكه ونهبه والاستحواذ عليه بالقوة؟ هل نقدر على وقف أداة التدمير الشامل؟ وإلى أيّ مدى تكون فلسفة المقاومة أداة خلاص جماعي من الظلم والاستيطان والاحتلال والاقتدار على الإبداع التامّ والمبادرة من جديد كما في "طوفان الأقصى"؟

العامل المهم الذي يجب الإشارة إليه هو انتقال المقاومة اللبنانية من كونها واقعاً وبشكل عملي تخصّ "الشيعة" وحدهم ولسنوات، وتحوّلها إلى قضية تخصّ اللبنانيين بمختلف مذاهبهم وتوجّهاتهم، وهذا ما يجب أن تسعى إليه "المقاومة الإسلامية" في ترسيخه في الذهن اللبناني والعربي والإسلامي، وهو سيكون نجاحاً عقائدياً وسياسياً وعلمياً وعسكرياً كبيراً جداً، وسيحسب لها وحدها.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك