موروث ثري ولوحة فنية متنقلة.. ما قصة "السِّتارة الصنعانية"؟
ترتبط ارتباطاً نسيجياً بخصوصية المجتمع اليمني، ولاسيما مجتمع صنعاء وما حولها.. ما قصة "السِّتارة الصنعانية"؟
تحيل دلالة "السِّتارة الصنعانية" في اليمن، على قطعةٍ من القماش القطني، تلُفُّها المرأة على رأسها كنوعٍ من الحجاب الذي يُغطّى به الشعر والوجه، امتداداً إلى تغطية سائر الجسد، إذ تأتي تسميتها من وظيفتها غطاء ساتراً، يحجب جسد المرأة، حينما تخرج من منزلها إلى التسوّق أو الزيارات.
وتتميز "الستارة الصنعانية" بحجمها الكبير، وشكلها المربع، ولونها الذي تطور من الأبيض إلى زخارف ونقوش وأشكال هندسية ذات ألوان متعددة، يغلب اللون الأزرق على الوسط منها، والأحمر على أطرافها، والأبيض والأصفر على حوافّها. كما ترتبط بها قطعةٌ قماشية شفّافة، يُصطلح عليها "المغمق"، تُصنعُ من الحرير أو القطن. وتتميز بلونها الأسود المنقوش بدوائر ملونة بالأحمر والأبيض، مع إمكان تطريزها بالفضة أو المرجان.
وتمثّل "الستارة الصنعانية" نسقاً من تميز الأزياء النسائية في اليمن، ولدى نساء مدينة صنعاء بصورة خاصّة، إذ لا تزال كثيرات منهن يرتدينها. ومثلهُنّ نساءُ المناطق المجاورة، من مثل: "بني حشيش"، و"سنحان"، و"حبابة"، و"خولان".
تُعدُّ سوق "باب اليمن" في صنعاء أشهر أسواق بيع "الستارة"، بنوعيها، الأول: "البَقَرِي"، الأغلى ثمناً، والأعلى جودةً وخامة. والثاني: "الغَنَمِي" الأقل جودةً، والأرخص ثمناً من سابقه.
"الستارة الصنعانية" تاريخاً ومراحل
لم تتضمّن أدبيات الموروث الشعبي في اليمن ما يحيل على تحديد دقيق يوثّق بداية ارتداء "الستارة". وعلى ذلك، هناك إشارات تفضي إلى مقاربة لهذه البداية، إذ تعيدها أمة الرزاق جحاف [1] إلى الفترة التي قدِمَ فيها الإمام يحيى بن الحسين الرسي، عام 284 هـ من صعدة إلى صنعاء [2]؛ استضاءةً بتلك المقولة، التي تشير إلى أن الإمام فور وصوله إلى صنعاء أمر نساءها بأن يقمن بلف أجسادهُنّ بقطعة من القماش، حينما يردن الخروج من منازلهن.
مرّت "الستارة الصنعانية" في محطات تاريخية متعاقبة، إذ بدأت على هيئة قطعة من القماش الملوّن بألوانٍ زاهية، كان يُطلق عليها اسم "المصون" للدلالة على وظيفتها في صيانة جسد المرأةِ من النظرات الفضولية. ثم تطوّرت إلى ما عُرف بـ"الستارة الصنعانية"، التي انتشرت خارج صنعاء، ولاسيما وصولها إلى مدينة رداع، التي اشتُهرت بنموذج خاص بها، أُطلق عليه "الستارة الرداعية". لكن هذا النموذج اختفى، حينما حلّ محلّه نموذجٌ آخر، مجلوبٌ من الهند، صُنع في سبعينيات القرن الماضي في "مصنع الغزل والنسيج" بصنعاء، ثم توقف إنتاجه في اليمن؛ فجلبه التجار جاهزاً من الهند، ولا يزال سائداً حتى اليوم.
"الشّرشف" و"البالطو"
تشير الدراسات إلى أن "الشرشف" زيٌّ تركي، شاع ارتداؤه في اليمن، في نهاية القرن الــ 19، أيّام الحكم العثماني لليمن، في فترة السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1908). و"الشرشف" ثوبٌ أسود، تلبسه المرأة على كامل ثيابها عند خروجها من المنزل. ويتكون من قطعتين: سفلية، وعلوية. يقال للعلوية "خُنَّة"، وهي غطاء من 3 طبقات متتالية لتغطية الوجه والرأس، وتنسدل حتى إلى ما فوق الركبة. والقطعة السفليّة تشبه التنورة الطويلة، ويُطلق عليها محليّاً اسم "الفوطة"[3].
أمّا العباية الحديثة "البالطو"، فوفدت إلى اليمن من بلدان الخليج العربي، مطلع تسعينيات القرن الفائت. وتتعدد تسمياتها بتعدد نوعية القماش الذي تُصنع منه، من مثل: "الجرجيت"، و"الحرير"، و"الكريب". وقد تمكن "البالطو" من إزاحة "الشرشف"، فقصر ارتداؤه على كبيرات السن، بينما لم يتمكن لا "البالطو"، ولا "الشرشف" من إزاحة "الستارة الصنعانية".
حضور "الستارة" في العادات والتقاليد اليمنية
من صور حضور "الستارة" في العادات والتقاليد اليمنية، استخدامها غطاءً فوق جنازة المرأة، في أثناء تشييعها؛ إذ يمثّل هذا الأمر واحداً من التقاليد الصنعانية المتوارثة، تمييزاً لجنازة النساء عن جنازة الرجال المتوفين، إذ يتم تغطية جنازاتهم بلحاف وسجاجيد ذات أولوانٍ متعددة.
كذلك، تُستخدم "الستارة" في مناسبات الأعراس؛ فيتم تزيين الجدران بها خلف الفتاة العروس. كما أنها تُعَد جزءاً رئيساً من تجهيزات كل عروس، ولاسيما في مدينة صنعاء. وفي كل عرس، يتم تحديد يوم خاص بـ"الستارة"، تحرص فيه الفتيات والعروس على ارتدائها والتزيُّن بها.
ومن المناسبات الاجتماعية، التي تحضر فيها "الستارة"، مناسبات الولادة، ولاسيما حينما يكون المولود أنثى. فالمرأة حديثة الولادة يتم تزيين جدران غرفتها بقطع متوسطة من قماش "الستارة"، بأشكالٍ هندسية جمالية، ولمسات فنية يدخل فيها "الخرز" وبعض "المصاغات الفضية"، لإضفاء أجواء فرائحية على المناسبة.
وفي سياق اجتماعي آخر، في مدينة صنعاء والمناطق الريفية القريبة منها، يُستخدم قماش "الستارة"، في تزيين نوافذ المنازل، وخصوصاً نوافذ مجالس المقيل.
"الستارة": خصوصية ثقافية وفنية
ترتبط "الستارة" ارتباطاً نسيجياً بخصوصية المجتمع اليمني، ولاسيما مجتمع صنعاء وما حولها، إذ تجسد شخصية المرأة الصنعانية، وتفاصيل البيئة المحيطة بها، من خلال علاقة هذه البيئة بـ"الستارة"، التي تتجسد فيها هوية الإنسان والمكان، وفقاً لما تشير إليه الكاتبة والناقدة التشكيلية، آمنة النصيري، بوصف هذا الزي النسائي الشعبي بأنه جزء مهم من هوية البيئة الصنعانية. وهو ما يتجلى في منظر المرأة مرتديةً "الستارة" مع تفاصيل أخرى، إذ تقترب بهيئتها هذه من التقاسيم التي تتميز بها الواجهات الخارجية للبيت الصنعاني، بما فيها من زخارف وأحزمة، تجعلها قريبة الشبه من زينة أزياء المرأة الصنعانية، بما في ذلك زينة "الستارة". وهو ما يحيل على اهتمام عدد من الفنانين التشكيليين اليمنيين برسم "الستارة". كما يحيل على تفسير ذلك بمكانة "الستارة"، في مكونات الموروث الشعبي، الذي تم توظيفه بأشكال متعددة في اللوحات الفنية.
وفي السياق نفسه، يتجلى حضور "الستارة" ضمن مكونات الفن التشكيلي، ثم من خلاله، في تفاصيل الكتابة السردية في اليمن، من مثل ما نجده في رواية الكاتبة اليمنية نادية الكوكباني بعنوان "صنعائي"، التي ورد فيها تسريد لهذه العلاقة، على لسان شخصيتها الرئيسة "صبحية"، وهي تتحدّثُ عن اهتمامها برسم الموروث الشعبي، بما فيه "الستارة"، التي شرعت في رسمها منتَقِلَةً بامرأة صنعانية من الواقع إلى اللوحة التشكيلية: "رجوتها أن تظل كما هي... رحتُ أرسم: جلوسها المنكسر، نظراتها الزائغة في كل اتجاه، سرها الذي تخبئه خلف ستارتها... فكانت اللوحة: "الرحم"، لتلك المرأة الغامضة التي رحلت ولم تعد بستارتها؛ لكن ما فعلته بي بسلوكها الغريب وبألوان ستارتها كان مدهشاً!" [4].
في نسق الحداثة والمعاصرة، والذي شمل الأزياء النسائية في اليمن، ظهرت سياقاتُ عصرنة "الستارة"، بأشكالٍ متعددة، تجمع بين أصالة الماضي ومواكبة اللحظة المعاصرة.
من ذلك، الاهتمام بقماش "الستارة"، والصناعة منه فساتين بنّاتية، وفساتين و"أرواب" عصرية، وحقائب ومحافظ يدوية نسائية، أو تصميمه على هيئة "تنانير" طويلة، وأغطية للرأس، أو إدخاله في تصاميم العباءات النسائية السوداء.
[1] تشغل منصب المديرة العامة للبيوت اليمنية التقليدية.
[2] أبو الحسن الخزرجي، "طراز أعلام الزمن في طبقات أعيان اليمن"، تحقيق: عبد الله محمد الحبشي. ط1، دار الكتب العلمية، 2021، جـ1/ ص 384.
[3] عباس السوسوة، "قد اليمنية، أبحاث في الأبنية والنحو والاقتراض المعجمي"، دار عبادي للدراسات والنشر، ط1، صنعاء، 2012، ص: (187،186).
[4] نادية الكوكباني، "صنعائي". ط1، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2013، ص98،97.