هؤلاء الجنوبيون!
واجه الجنوبيون الغطرسة الصهيونية منذ نشأة الكيان، وتشاركوا مواجهته مع آخرين، لكنهم هم أكثر من دفع الأثمان من أبنائهم وممتلكاتهم. ظاهرة عادية، ومفهومة طالما امتدت على عقود عديدة من الزمن.
قد نكون بحاجة إلى إعادة "عجن" و"خبز"، لكي نفهم مواطنينا من المسلمين الشيعة من سكان جنوبي لبنان. كان زميل شيعي يقول لنا إنه من "الصعب عليكم أن تفهموا المسلم بالعمق"، ولم يكن يقصد الشيعة بالتحديد. ذلك، في الوقت الذي كنا نعدّ فيه أنفسنا، نحن المتحدّرين من أصول مسيحية، أقرب المقرّبين من المسلمين، لا بل نتعايش حياتهم، وطقوسهم، وتقاليدهم، ونتقاسم الكثير منها.
وفي السياق، أستغرب القول أن يكون اللبنانيون بغالبيتهم، إما مسيحيين صرفاً، أو مسلمين صرفاً، فمدى التداخل، والمشاركة في الحياة العامة، تجعل الإنسان مزيجاً من التراثَين، والتقليدَين. لكم كنت، وما أزال أستأنس أذان الفجر في ظل الصمت المطبق والناس نيام، وكذلك قرع الطبلة في الأيام الرمضانية. لا يختلف الموقف عند قرع أجراس الكنائس الذي كنا ننتظره صباح كل أحد، فيدخل البهجة إلى قلوبنا تذكيراً بأعياد الفرح، والبهجة، والتطيّر.
وإذا كان لا يحق للمرء أن يعمّم ما يتعايشه على بقية الناس من مختلف فئات المجتمع، وانتماءاتهم، فيمكن القول إن التقارب والاختلاط بين الناس، حيثما حصل، يجعل الإنسان يعيش على تقاطعات الأديان، ومتشابهاتها، ويصبح الإنسان لا مسلماً صرفاً، ولا مسيحياً صرفاً، بل مزيجاً من الاثنين، خارج قيد الأحوال الشخصية الرسمية.
هذا بصورة عامة، لكن في ما يتعلّق بالشيعة، فقد كان من "حسنات" التهجير، أن تعرفنا على جوانب من طباعهم، وخصالهم، وتعايشنا جزءاً من تراثهم، وبنيتهم الفكرية، والثقافية، والاجتماعية.
بدأت دهشتنا بالشيعة منذ بداية التهجير، تحت وطأة القصف الهمجي على أحيائهم، وقراهم، ومدنهم، ما اضطرهم للبحث عن أمان في مكان ما.
أولى العائلات حطّت في أحد منازل البلدة، وتوجه الأهالي نحوها للاستضافة، والوقوف على حاجاتها، واحتضانها، وقد اضطر أفرادها للمغادرة الفورية تحت القصف، فكان الزائرون لهم يكادون يبكون لهول ما شاهدوا من مشاهد قاسية تدمي القلوب، وحاولوا مواساتهم، والتخفيف من جراحهم، وللغرابة، انقلب الموقف، فكان الوافدون بحالة تماسك، يستضيفون زوارهم بالبسمة، والضحكة كأنهم يعرفونهم منذ زمن بعيد، ويحاولون التخفيف من أحزانهم، وكأنه لم يصبهم أي مكروه لا بفقد السيد حسن، الذي بلغ ببعضنا شيئاً من عبادته، ولا بالبيجر، وما خلّفه من مأساة، ولا بالناس العاديين الذين فقدوا أعزاء لهم من أبنائهم، منهم المقاتلون، ومنهم المدنيون.
وبدلاً من مواساتهم، صاروا هم يواسون مستضيفيهم، ويهدِّئون من روعهم، وتحوّل المشهد المفترض من مأساة إلى حفاوة، بدايةً، وصداقة تنامت يوماً بعد يوم، فترامى إلى أذهاننا مشهد الأم تحتضن ابنها الشهيد، والناس يقاومون العدو بصدورهم، متحدِّين وحشيته، وغير آبهين بما يمكن أن يتصرف به تجاههم.
صارت بيوت النازحين ملتقى الأحبة، من مقيمين ووافدين نظراً لقدرتهم على التقرّب، والتفاعل مع الآخر، وما هي إلّا أيام قليلة حتى تحوّلت القرى، والبلدات، والأحياء إلى حالة تفاعلية جديدة، وانتفت التباينات، الظاهر منها، وغير الظاهر، ونشأ مجتمع جديد مزيج من الوافدين والمقيمين، أفضى إلى حزن الفراق عندما دقّت ساعته لحظة الإعلان عن وقف إطلاق النار، وانطلقت التمنيات بالعودة في زيارات لاحقة، وأخرى بالدعوة لتبادل الزيارات.
كل المقيمين الجدد كانوا يردّدون أنه عند اللحظات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار، إنهم سيعودون إلى بيوتهم ولو كانت ركاماً، وتفاقم المشهد عند حدوث ذلك، حيث حزموا ما لديهم من أمتعة، بلمح البصر، وركبوا عرباتهم، واتجهوا نحو بيوتهم، وبعض منها في مواجهة "جيش" الاحتلال بصورة مباشرة وقريبة، لكنهم لم يأبهوا لذلك، فــ "الشهادة جزء من حياتنا"، كما قالوا.
وللحقيقة، فإن تقبّل الشيعة للشهادة ظاهرة لافتة للنظر، وإن كان فقد ابن أو حبيب أمراً غالياً عند كل الناس، إلا أنه "اعتيادي جداً" عند الشيعة في اللحظات المصيرية دفاعاً عن النفس. لماذا إلى هذا الحد؟ لأن الجنوبيين واجهوا الغطرسة الصهيونية منذ نشأة الكيان، وتشاركوا مواجهته مع آخرين، لكنهم هم أكثر من دفع الأثمان من أبنائهم وممتلكاتهم. ظاهرة عادية، ومفهومة طالما امتدت على عقود عديدة من الزمن.
ومع ذلك، يظل فهم المسلمين الشيعة منقوصاً، إلى أن يستعيد المرء بعضاً من تقاليدهم بالشهادة، المعبّر عنها بالكربلائية، والحزن المتوارث على اغتيال الإمام الحسين، الذي ظلوا يتذكرونه، ويعيشون مأساته، ويحيون شهادته سنوياً، لطماً، وندباً، وطقوساً أخرى، وفي يومياتهم التي تحولت إلى تراث عميق متجذرٍ في قلوبهم.
يستذكر المسيحيون بشهادة الحسين، شهادة السيد المسيح، وتكمن المقارنة تحديداً بين عاشوراء، وخميس الصلب، وهو اليوم الذي يسبق الجمعة الحزينة، أي مراسم دفن السيد المسيح إثر صلبه قبل يوم واحد.
ليل الخميس، يقيم المسيحيون رتبة الصلب في كنائسهم، ويتم تركيز صليب عليه نصب أو رسم لسيدهم مصلوباً، فيركعون، ويظلون يبكون عليه لساعات طويلة طوال الليل إلى أن تنتهي مراسم تلاوة 14 إنجيلاً.
ليلة الخميس عاشورائيّة مسيحيّة بامتياز، يعيش فيها المسيحيّون آلام السيد المسيح، مثلما يعيش الشيعة آلام الحسين، وكلاهما قضيا فداء لخلاص الآخرين، وفق ما يعتقدون.
وتتواصل عاشوراء لعشرة أيام، بينما تستمر آلام المسيح حتى سبت النور؛ و"العودة" قصة أخرى لدى الاثنين.
آخر مشاهد كانت مذهلة للأبصار والقلوب أرتال الجنوبين العائدين إلى قراهم، وبلداتهم، ومنازلهم، ما لا يفعله مهجّرون آخرون. مشهد يتكرّر بوضوح مرتين أمام الأعين، الأول إثر انتهاء حرب تموز 2006، واليوم. مشهد يجعل الإنسان يقتنع أن الجنوبي إنسان خاص، متمايز، ومهما قسى الزمن، فهو مقاوم صلب، بفطرته، وثقافته الحسينية، وتمسكه بأرضه، وصدقه مع نفسه، تالياً مع الآخرين.
أما آخر ميزة ترد إلى الذهن، وليست الأخيرة بالتأكيد، أن أهل الجنوب يدفعون الأثمان الغالية من أنفسهم، وممتلكاتهم، وأبنائهم، وعند حلول الحلول، يتقاسمونها مع الآخرين من دون مقابل أو ثمن!