"هند أو أجمل امرأة في العالم" لهدى بركات: بين النسيان والذاكرة
تظهر رواية "هند أو أجمل امرأة في العالم" مرارة العيش في بلاد المشرق العربي وفي مجتمعاتنا، كأنّ الروائية تحمّل سبب المرض وقبحهُ لـ "هند"، لأنّ الأم لم تجد العلاج لابنتها في بلدها، فتساعدها للخروج منهُ بالسفر.
-
هدى بركات تقدّم "هند أو أجمل امرأة في العالم" بين النسيان والذاكرة
تقدّم رواية هدى بركات بعنوان: "هند أو أجمل امرأة في العالم" صورة المرأة اللبنانية والعربية كأجمل امرأة في العالم بنظر أمّها التي تروي سيرتها في سرديّةٍ سلسلةٍ تتعمّق في النفسية المضطربة التي تعيشها هند التي تصاب بمرض التضخّم، فتتحوّل من أجمل امرأة في العالم إلى وجهٍ متضخّمٍ يظهر فيه الكثير من التحوّلات في الزمان والمكان، تسافر هند من لبنان إلى فرنسا للعلاج، فتمرُّ على مستشفيات فرنسا الكبيرة، وتعيش القلق الوجودي في علاقتها مع الناس هناك، ولا سيما "فرنسوا" الذي تتعرّف إليه فيما بعد وتكتشف اسمه الحقيقي "رشيد" العسكري المشرّد والجريح الخارج من الحرب ومبتور اليد، فتربطها به علاقة قوية، فبين قبح "هند" في مرض التضخّم وبين "فرنسوا – رشيد" مبتور اليد في فرنسا، تبدأ هنا الحلات النفسية المتوتّرة التي تعاني من تحدّيات الواقع والمجتمع، والهروب من البلاد التي تعاني الحروب إلى بلادٍ تحتضن الهاربين من الحرب، وتضعهم أمام أسئلة الوجود الكبيرة.
كأنّ الروائية اللبنانية هدى بركات أرادت أن تصنع من الشخصية الجوهرية شخصية "هند" التي تكتشف فيما بعد أنّها "هنادي"، بين هند وهنادي تبدّل الأسماء هنا، أيضاً له دلالة أخرى، أرادت أن تصنع من "هند" المرأة المركز في الجمال إلى المرأة الهامش في الحياة، فيدخل القارئ في عمق الفكرة بين الجمالي الذي يصارع القبح كي ينتصر عليه، تارةً تهرب "هند" من العالم الواقعي إلى العالم المتخيّل، من بنايتها البسيطة في لبنان التي تأثّرت بانفجار المرفأ وتركت آثاراً وخيمة على المكان إلى باريس، وبعد ذلك إلى أستراليا، عند عمّتها، وتتنقّل بين المطارات العالمية، والعالم المتخيّل هنا يرمز إلى حاجتها للجلوس على حافة النهر والنظر إلى الماء، "النهر يرمز إلى الحياة" و"الماء يرمز إلى انعكاس الوجوه فيها كالمرايا".
تقول في صفحة رقم "76" [أعودُ إلى هنا، إلى حافّة هذا النهر الذي ليس نهراً. حافّة النهر لا ضفّتهُ، إذ باتت المساحة بين مصطبة الصفصاف والمجرى أقلّ عرضاً. فالعصف الربّانيّ الذي ضرب البشر والحجر في الصيف الماضي، مزج في لحظة العناصر الأربعة وخبطها ببعضها من المرفأ البحريّ حتى هذه المصطبة].
نكاد نلمس القهر والحرمان للمرأة التي لفظها العالم "هند" وبقيت تبحث عن بلدٍ تتعالج فيه وتخرج من مرضها، يكون فيه المستقرّ الأخير، تعيش التجربة الكبرى في العثور على النجاة من مستنقع المرض القبيح والركض في المستشفيات وبين الأطباء، لكنّها لا تعثر على هذا الدفء المفقود لا عند العاشق ولا عند الصديق ولا حتى عند الطبيب، وتظهر في الرواية حالة التعاسة من العيش في بلاد المشرق العربي وفي مجتمعاتنا، كأنّ الروائية تحمّل سبب المرض وقبحهُ لـ "هند"، لأنّ الأم لم تجد العلاج لابنتها في بلدها، فتساعدها للخروج منهُ، كأنّ الجمال وحقوق المرأة ليس موجوداً في بلادنا، إنّهُ هناك في فرنسا وبلاد الغرب، تقول "هند" في صفحة رقم "230":
[أشتاقُ إلى أمّي كثيراً. أشتاقُ إلى أمّي كثيراً، وأشعرُ بالذنب لهربي منها. أشعرُ بالنّدمِ، وأتذكّرُ ما كانت تردّدهُ حين أسألها عن الماضي، من أنّهُ لا يتبقّى لنا ممّا فات سوى أسوأهُ].
تدخل الأم في صِراع النكران مع ابنتها "هند" وخصوصاً حين تحوّلت هند إلى هنادي، وعاشت حالة التنقّل بين الوطن والمهجر، وطال مرض التضخّم في وجهها، فدخلت أمّها في حالة نفسية جنونية، حيث لم تعد تعرف ابنتها، كأنّها لم تعد تصدّق أنّها "هند"، في حالة شكّ من ابنتها، فهذه أسئلة وهمية من عدم قدرتها على اكتشاف ابنتها الحقيقية، لم تعد ترى "هند" كما كانت تراها سابقاً "أجمل امرأة في العالم" وصلت إلى حد أنها لم تعد تراها. فدخلت دلالات الرواية في عمق البحث عن الشخصيات الأولى، من شدّة انقسام أو انفصام المجتمع الذي لم يعد يشبههم، لأنّ الأم هي الراوي في الرواية، البطل الأول الذي يخوض هذا الصِراع مع ابنتها هند والمجتمع والمرض والفقر والحرب والاضطهاد والقبح والضياع، وأحياناً يلجأ إلى الموروث التاريخي للبلاد كي يستعيد قوّة الإيمان في وجه المعاناة، "من معاناة سيّدنا عيسى المسيح في فلسطين" إلى المعارك والحروب القديمة والجديدة: "الألم الذي يقيم طويلاً في صمت، ويحفر في الظل كالضغينة".
ونحن نسأل بعد قراءة الرواية ويلحظ القارئ ذلك: كيف لهذه المعاناة والتحدّيات الثقيلة أن تمكث على كاهل امرأة مريضة "هند"؟ هند التي تفقد كلّ شيءٍ حتى أمّها أصبحت لا تراها وتهرب منها، و"فرنسوا – رشيد" الذي أحبّها كثيراً وهي في فرنسا تتعالج، فقدته فيما بعد، وظنّت بأنّ اختفاءه فجأة، ربّما مات في مكانٍ ما، وحتى الشخصيات التي عاشت معها "هند" مثل: الأفارقة ونيجيرية "غلوريا" الشخصية المتحوّلة فجأةً، من أنثى راقصة إلى ذكر، وكأنّ مجتمع "هند" في الغربة يتحوّل إلى "مجتمع المضطهدين"، عالم "هند" كلّهُ محمول على صليبٍ مليءٍ بالأشواك، هكذا تصوّر الرواية انشقاقات المجتمع، البلاد ليست على ما يُرام، والغربة هي ملجأ المضطهدين ولا علاج فيها، فأين هو عالم "هند" - الدواء الشافي لها؟ ولا سيما أنّنا نلحظ ذلك في الخاتمة:
[تركتُ هذه البلاد من دون أن أصل إلى البلاد الأخرى، وها أنا أعودُ إليها فلا أجدها. الحقيقةُ أنّي لم أُغادر أحداً، ولم أجد أحداً يستقبلني حين رجعت. بقائي هنا على هذه الحافّة بالذات يبدو لي فكرةً ملائمة].
كأنّ هذه الحافّة هي البرزخ بين العالمين، حيث لا وصولَ إلى المستقرّ الأخير، لا هنا ولا هناك، ولا دواء ولا هواء، وربّما هي حافّة في المطار أو حافّة النهر التي غدت أجمل بلاد العالم.