هل تحوّلت "يوروفيجن" إلى ساحة للرؤى السياسية والثقافية؟

مع كل دورة جديدة من مسابقة "يوروفيجن"، يُعاد طرح أسئلة كبرى حول هذا الحدث الأوروبي الضخم. فهل تحوّلت "يوروفيجن" إلى ساحة للرؤى السياسية والثقافية؟

مع كل دورة جديدة من مسابقة "يوروفيجن"، تعود الأسئلة الكبرى إلى السطح، لا سيما تلك المتعلقة بالأبعاد السياسية والثقافية الكامنة وراء هذا الحدث الأوروبي الضخم. لكنّ الجديد هذا العام لم يكن خلافاً فنّياً أو جدلاً حول أداء متسابق، بل ظهور رواية تقول إن حلف شمال الأطلسي (الناتو) هو من يقف خلف تأسيس المسابقة، لأهداف تتعلق بالتأثير السياسي والدعائي إبّان الحرب الباردة.

هذا الادعاء لم يأتِ من فراغ، بل يستند إلى وثيقة أرشيفية حقيقية، تعود إلى عام 1955، صادرة عن لجنة الإعلام والعلاقات الثقافية في "الناتو"، وتقترح إقامة ما سُمّي حينها بـ"مهرجان شمال الأطلسي" كوسيلة ثقافية ناعمة لتعزيز صورة الحلف بين الشعوب الأوروبية. 

الوثيقة تتحدث صراحة عن إمكانية بث الحدث عبر شبكة "يوروفيجن" الأوروبية، لكنها في الوقت ذاته تحذر من أن يتحوّل الحدث إلى أداة دعائية مباشرة، مفضلة أساليب أكثر "دهاءً"، على حد تعبيرها، للتأثير في الرأي العام.

وما ميز دورة هذا العام من المسابقة، كان الاعتراض على المشاركة الإسرائيلية بسبب الجرائم التي ترتكبها "إسرائيل" في فلسطين، خصوصاً حرب الإبادة في غزة، حيث وقّع عشرات المتسابقون في النسخات السابقة عريضةً تدعو إلى إقصاء "إسرائيل" من المنافسة على اللقب.

المساران المتوازيان: تشابه زمني لا يعني وحدة المنشأ

  • زائر يرفع علم فلسطين مشاركة الإسرائيلية يوفال رافائيل في مسابقة
    زائر يرفع علم فلسطين أثناء مشاركة الإسرائيلية يوفال رافائيل في مسابقة "يوروفيجن" (Alamy Stock Photo)

هنا يكمن الخلط. ذلك أن مسابقة "يوروفيجن"، كما نعرفها، انطلقت رسمياً عام 1956، أي بعد عام من تلك الوثيقة. وقد تبنّى المشروع اتحاد الإذاعات الأوروبية (EBU)، بناءً على اقتراح من هيئة الإذاعة الإيطالية RAI، مستلهماً تجربة "مهرجان سان ريمو الغنائي".

إذاً، الوثيقتان - مشروع الناتو من جهة، وولادة "يوروفيجن" من جهة أخرى - جاءتا في فترة زمنية متقاربة، في سياق أوروبي يتلمس سبل التعافي بعد الحرب العالمية الثانية، ويبحث عن أدوات جديدة لتكريس التعاون والوحدة، في مواجهة انقسام جغرافي وأيديولوجي واضح بين الشرق والغرب.

لكن التقارب الزمني لا يعني التطابق في النشأة أو الهدف. "مهرجان شمال الأطلسي" كان مقترحاً لم يُنفذ بالشكل المقصود، واقتصر على عروض عسكرية رمزية في إطار مهرجان فرنسي، ولم يحمل عناصر المسابقة الفنية أو التنافس الغنائي التي تميز "يوروفيجن". في المقابل، وُلدت "يوروفيجن" في فضاء الإعلام العمومي الأوروبي، بوصفها مشروعاً ثقافياً عابراً للحدود، احتفالياً في طبيعته، دعائياً لكنه غير عسكري.

"يوروفيجن": الثقافة كساحة صراع رمزي

  • تحولت مسابقة
    تحوّلت مسابقة "يوروفيجن" إلى مساحة للتضامن مع أوكرانيا ضد روسيا وبيلاروسيا

الارتباك زاد بفعل وجود "شبكة يوروفيجن"، وهي بنية تقنية أنشأها اتحاد الإذاعات الأوروبية عام 1954، لتسهيل تبادل المحتوى السمعي- البصري بين الدول الأوروبية. هذه الشبكة كانت منصة مفتوحة لأي مشروع يُبث عبرها، سواء كان مهرجاناً ثقافياً، حدثاً رياضياً، أو مسابقة غنائية.

وقد اقترحت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في وقت مبكر استخدام الشبكة لبث مهرجان "الناتو" المفترض، ما زاد من احتمالية الخلط بين "المنصة" و"البرنامج". لكن، من المهم التفريق: المسابقة الغنائية لم تكن نتاجاً لتخطيط عسكري، بل بمبادرة إعلامية مستقلة ذات أهداف ثقافية.

مع ذلك، لا يمكن تجاهل أن الفضاء الثقافي في أوروبا لم يكن يوماً بمنأى عن التوظيف السياسي. فالفن والموسيقى والإعلام كانت دوماً أدوات صراع رمزي، سواء في يد الدول أو الحركات أو حتى الشركات. والحرب الباردة، تحديداً، كانت زمناً تتداخل فيه القوة الصلبة والناعمة على نحو غير مسبوق.

وعليه، فإن السؤال الأهم ليس هل أنشأ "الناتو" يوروفيجن؟ بل هل تحوّلت "يوروفيجن" مع الزمن إلى ساحة تتقاطع فيها الرؤى السياسية والثقافية؟، والإجابة نعم، خاصة في السنوات الأخيرة، حيث أصبحت المسابقة منبراً للصراعات الرمزية، من قضايا الجندر إلى التضامن مع أوكرانيا، واستبعاد روسيا وبيلاروسيا.

بين الوثيقة والسياق

  • انطلقت مسابقة
    انطلقت مسابقة "يوروفيجن" رسمياً عام 1956

الوثائق وحدها لا تكفي لتحديد نوايا المؤسسات. فهي تحتاج إلى قراءة في السياق، وتتطلب تمييزاً دقيقاً بين المقترحات النظرية والممارسات الفعلية. "الناتو"، بالفعل، فكّر في استخدام الأدوات الثقافية كوسيلة للتأثير. لكن، لا يوجد ما يثبت، حتى الآن، أنه كان العقل المدبر وراء مسابقة الأغنية الأوروبية.

وفي المقابل، فإن نفي هذا الادعاء لا يعني أن "يوروفيجن" تظل خارج الحسابات الجيوسياسية. بل هي، بحد ذاتها، نموذج معقد لتلاقي الفن بالهوية، والوحدة بالانقسام، والرمزية السياسية بالتعبير الشعبي.

في المحصلة، تعكس المزاوجة بين "يوروفيجن" و"الناتو" ميلاً معاصراً لتفكيك السرديات السائدة وإعادة قراءة المؤسسات من منظور نقدي. وهو أمر مشروع ومطلوب. لكن من المهم أن يتم هذا التفكيك بأدوات معرفية دقيقة، لا بمجرد المقاربات القائمة على المصادفة أو التشابه السطحي.

"يوروفيجن"، في النهاية، ليست مسابقة أغانٍ فحسب. إنها مرآة أوروبا، بكل تناقضاتها. وإذا كانت قد خدمت ذات يوم مصالح سياسية ضمنية، فإن قوتها اليوم تنبع من قدرتها في أن تكون فضاء حراً، تتقاطع فيه الأغاني مع السياسات، لكن من دون أن تفقد روحها الجماهيرية.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك