هل حرّرت الصهيونية اليهود من "الاضطهاد"؟

هل الاضطهاد اليهودي تاريخ دائم أم ادّعاء؟ ولماذا علينا تجاوز الجدل الأخلاقي حول حقوق اليهود والفلسطينيين؟

تدور هذه المادة في فلك ما طرحه المفكّر المصري الراحل، أحمد صادق سعد (1919-1988)، من أفكار في كتابه "فلسطين في مخالب الاستعمار" الصادر عام 1946، وذلك في خضمّ صعود الصهيونية حينها، وقبل أن تصبح كياناً مجسّداً في "دولة" استعمارية تقوم على الفصل العنصري واغتصاب الأراضي من أهلها الأصليين، كبديل عن الاستعمار البريطاني. 

ويشير سعد إلى المصالح الاقتصادية المشتركة بين الحركة الصهيونية والإمبريالية البريطانية، ممسكاً بتلك الجذور الاستعمارية المتصلة بين كليهما، كاشفاً عن أقنعة الفكر الاستعماري للحركة الصهيونية. كما أنّ صادق سعد، قبل كلّ ذلك، يتساءل عن مدى تماسك السردية الصهيونية القائمة على فكرة الشتات اليهودي.

تدّعي الصهيونية أنها تعمل باسم حقّ "الشعب اليهودي" في استرجاع أراضي بني إسرائيل، ومن ناحية أخرى يبرّر الغرب الأوروبي تحيّزه إلى "إسرائيل" باعتبار تلك التحيّزات نابعة من مُثل إنسانية عليا، تتعلّق بحقوق اليهود المضطهدين تحت الضغط العنصري. 

كثيراً ما ينخدع الناس في بلادنا العربية بتلك الادعاءات؛ ونتيجة لذلك يندفع أغلبهم نحو مناقشات الحلول، ويقع كثيرون في فخ الجدل حول حقوق اليهود وحقوق الشعب الفلسطيني، وكأنهما على كفَّي ميزان متساويان، كما يتبنّى آخرون القول بأنّ نجدة اليهود من "الاضطهاد"، يجب ألا ينتج عنها اضطهاد جديد للفلسطينيين.

ومن ثم، يدعونا صادق سعد في كتابه "فلسطين في مخالب الاستعمار"، إلى أن ننتقل بالنقاش إلى مستوى آخر، يحمينا من الوقوع في فخّ المساواة بين الطرفين من جهة، ويدفعنا للتساؤل من جهة أخرى؛ هل كانت مشكلة اضطهاد اليهود قائمة بالفعل طوال تاريخهم؟ وما طبيعة هذا الاضطهاد؟ حيث يرتبط فهم الحركة الصهيونية عند صادق سعد بتاريخ اليهود من ناحية، ثم تفسير كليهما من خلال التطوّرات التاريخية للمجتمعات البشرية التي عاش فيها اليهود، بمعنى فهم السياقات التاريخية والاجتماعية داخل المجتمعات التي نشأ فيها هذا "الاضطهاد".

الشتات.. أوهام الأمة اليهودية المزعومة

  •  روّجت الحركة الصهيونية لفكرة أن أمة لم تتعرض للاضطهاد مثلما تعرض له اليهود في تاريخهم
    روّجت الحركة الصهيونية لفكرة أنّ أمّة لم تتعرّض للاضطهاد مثلما تعرّض له اليهود في تاريخهم

على مدى قرنين من الزمان، روّجت الحركة الصهيونية لفكرة أنّ أمّة لم تتعرّض للاضطهاد مثلما تعرّض له اليهود في تاريخهم الطويل، ودأبت الصهيونية على اختيار أمثلة من التاريخ لتدلّل على ذلك، وتصوّره وكأنه سلسلة لا تنقطع، ومن ثم يتسرّب العطف إلى قلوب الكثير من الناس تجاه تلك الجماعة التي عانت، من دون النظر إلى طبيعة ذلك الاضطهاد وأسبابه وسياقاته الجغرافية والتاريخية، ومن دون الالتفات إذا ما كان اضطهاد الدولة الرومانية التي كانت ترغب في تقديس الإمبراطور، هو ذاته اضطهاد الغرب الأوروبي المسيحي لهم، وهل كانت الأسباب ذاتها التي دفعت الألمان إلى ذلك.

وفقاً لصادق سعد، كان اليهود في أول تاريخهم قبائل رحّلاً متنقّلة لا يختلفون كثيراً عن غيرهم من باقي القبائل التي عاشت في الشرق الأوسط. وقد أدّت بعض من تلك القبائل دوراً فعّالاً في حركة نقل البضائع بين الشرق والغرب، وفي مقدّمتهم القبائل العبرانية التي احترفت الاتّجار بالسلع عبر الصحاري والبحار. 

وقد وجدت تلك القبائل في فلسطين الظروف الملائمة لخلق مراكز تجارية شبه مستقرة، وما لبثت أن اشتعلت الحروب في شرق البحر المتوسط، مثل تلك الغزوات التي قام بها الآشوريون والبابليون على فلسطين، والتي أجبرت العبرانيين من الفئات العليا على الهجرة إلى عواصم الشعوب الغازية في بلاد الشام رغبة في استمرار نشاطها التجاري، بينما خضعت الفئات الدنيا من فقراء العبرانيين إلى سلطة الشعوب الغازية.

وعلى هذا النحو، اندفعت الجماعات العبرانية إلى جميع المراكز التجارية في الشرق الأوسط، محقّقة بذلك مكانة أرقى اقتصادياً، بسبب الروابط التي كانت ترسّخها العقيدة الدينية المشتركة، ونتيجة عطف الحكّام اليونانيين، وما تمتعوا به من امتيازات من قبل الحكّام الرومان، ما جعل منهم شعباً شبه مستقل.

في العصور الوسطى، كان أغلب اليهود قد جمعوا ثروات طائلة، واحتفظوا لأنفسهم بمكانة مرموقة توارثوها في جميع المراكز التجارية على طول ساحل البحر المتوسط، سواء كان الساحل الإيطالي في البندقية ونابولي وجنوى، أو كان الساحل الفرنسي في مرسيليا وناربون، حيث يمكث اليهود داخل أحياء خاصة بهم، كما هو حال جميع الجاليات الأجنبية في تلك العصور.

وقد أدّت الغالبية منهم دور الصيارفة، يتبادلون النقود المختلفة، ويحفظون الودائع، ويمنحون القروض. ولنا أن نتخيّل التاجر اليهودي في تلك العصور بشكل تاجر صغير أو مرابٍ، وهو ما فتح عليهم باب العداء والحسد من قبل الأوروبيين المسيحيين، حتى إنّ البابوية أصدرت مرسوماً عام 1215 م تحاول الحدّ من استغلال اليهود للأوروبيين، سواء في عملية منح القروض أو رهن الممتلكات.

وقد شهدت الفترة الثانية من العصور الوسطى (1300–1600) بزوغ علاقات رأسمالية نتجت عنها طبقة من التجار المحليين غير اليهود في إيطاليا وإسبانيا وفرنسا. وما لبثت تلك الطبقات المحلية الناشئة أن اصطدمت مع اليهود، بعدما باتت المنافسة الاقتصادية بينهما حتمية، ومن ثم تعرّض اليهود في تلك القرون الثلاثة إلى اضطهاد واسع النطاق في أوروبا الغربية، وتحوّلوا تدريجياً من تجار وماليين ميسورين إلى وسطاء تجاريين صغار. 

ونتيجة لذلك، بدأت الجماعات اليهودية القلقة تنتقّل من غرب أوروبا إلى شرقها، لا تستقر في بلد حتى ترى فيهم القوميات الأوروبية الناشئة تهديداً لمصالحها الاقتصادية والتجارية، وهو ما يتفق فيه صادق سعد مع المؤرخ سعيد عاشور في كتابه "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى".

ومن هنا، فإنّ اضطهاد اليهود في أوروبا في العصور الوسطى لم يكن إلا محاولة قامت بها القوميات المحلية بهدف انتزاع الاحتكار المالي والتجاري من اليهود. غير أنّ بلاد أوروبا الغربية ما لبثت أن شهدت تطوراً سريعاً للرأسمالية، تزامناً مع تصاعد الإنتاج الفكري على يد مجموعة من المفكّرين أمثال روسو وفولتير، وما تبعها من ثورات سياسية واجتماعية؛ لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ أوروبا، دخل معها اليهود إلى الفترة الثالثة من تاريخهم، وفقاً لصادق، حيث بات من غير الممكن التفرقة بين التاجر أو المصرفي اليهودي وبين التاجر أو المصرفي الكاثوليكي.

هل اليهود أمة؟

  • رجل يهودي يقرأ صحيفة في إحدى ساحات سالونيك العامة أمام مجموعة من الرجال اليهود، جميعهم يرتدون الزي العثماني التقليدي نحو عام 1916
    رجل يهودي يقرأ صحيفة في إحدى ساحات سالونيك العامة أمام مجموعة من الرجال اليهود، وجميعهم يرتدون الزي العثماني التقليدي نحو عام 1916

بعد هذا السرد التاريخي الذي قدّمه صادق سعد عن حياة اليهود عبر عصور تاريخية متعاقبة، علينا أن نتساءل عن وجود اليهود في الشرق الإسلامي، وبعيداً عن المركزية الأوروبية، وطبيعة حياتهم الاقتصادية والاجتماعية، وهل طالهم الاضطهاد على نحو ما كان في الغرب الأوروبي المسيحي؟

بالنظر إلى ما دوّنه سعيد عاشور في دراسته المقارنة عن اليهود في العصور الوسطى بين الشرق والغرب، فإن تاريخ اليهود في الشرق الإسلامي يختلف اختلافاً نوعياً عن تاريخهم في الغرب الأوروبي المسيحي. 

ذلك أنّ اليهود في الشرق الإسلامي نالوا قسطاً وفيراً من الحرية الاقتصادية والاجتماعية، واكتظت بهم المدن الإسلامية الكبرى. إذ عاش في دمشق وحدها ما يصل إلى 3 آلاف يهودي خلال القرن الــ 12 الميلادي، وفي حلب 5 آلاف، وفي القاهرة 7 آلاف، وفي الإسكندرية 3 آلاف يهودي، نعموا جميعاً بالحرية الدينية والتشريعية. وقد شهد بذلك مؤرّخون ورحّالة غربيون ويهود أمثال بنيامين التطيلي.

هذه الكثرة العددية لليهود في العالم الإسلامي فتحت أمامهم جميع الجوانب الاجتماعية، وانخرطوا بقوة في الحياة الثقافية. وترجع تلك الحرية التي تمتع بها اليهود في الشرق الإسلامي، في المقام الأول، إلى حاجة الأمراء والسلاطين لهم، بهدف الاستفادة من خبراتهم في الأعمال المصرفية، ومن ثم حصلوا على العديد من الامتيازات الاجتماعية، بل ومنهم من تولّى الوزارة وترقّى في أعلى المناصب السياسية.

هذا الاختلاف النوعي بين تاريخ اليهود في الغرب وبين تاريخهم في الشرق يجعل من "المسألة اليهودية" واحدة من الأزمات الناتجة عن تشكّل القومية الأوروبية الحديثة، ويدفعنا إلى عدد من التساؤلات، يتقدّمها سؤال جوهري: "هل كان اليهود أمة واحدة في يومٍ ما؟"

وإن كانت الأمة، بمفهومها الحديث، وفقاً لكتاب "عصر القومية" لهانز كوهن، تتمثّل في تلك الجماعة الثابتة التي تكوّنت تاريخياً نتيجة لعدة عوامل، أهمها اشتراك أفرادها في المنطقة الجغرافية واللغة والحياة الاقتصادية، بشكل نجد له صدى في ثقافتهم، فإننا نجد يهود غرب أوروبا ويهود الأميركيتين يفتقرون إلى غالبية هذه الصفات المميّزة للأمة الواحدة، إن لم يكونوا يفتقرون إليها افتقاراً كاملاً. 

وهنا يتساءل صادق سعد: كيف يمكننا تصوّر أنّ اليهود قد شكّلوا أمة واحدة في زمن ما؟ ذلك أنهم، وعلى مدار قرون طويلة، لم يعرفوا المنطقة الجغرافية المشتركة، وقبل كل شيء، افتقروا إلى اللغة الواحدة المشتركة، حيث إن اليهود في غرب أوروبا يتكلمون الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، وفي شرق أوروبا ووسطها يتحدّثون "اليديش - Yiddish"، وهي خليط من الألمانية والبولندية والعبرية، أما العبرية القديمة، فهي لغة ميتة لا تُستعمل إلا في المراسيم الدينية، مثلها في ذلك مثل القبطية واليونانية القديمة.

ومن هنا يبرز الفكر الصهيوني كفكر رجعي، فعلى الرغم من الفروقات الجوهرية على مستوى الثقافة والاجتماع، والتي هي نتاج تفاعلات اليهود مع السياقات المحلية المتنوّعة التي عاشوا خلالها، فإن الحركة الصهيونية تسعى إلى إذابة هذه الفروقات من خلال خلق قومية متخيّلة لليهود، اعتماداً على إحياء لغة ميتة، وإعادة إنتاج تقاليد بائدة على أرض فلسطين المغتصبة.

هكذا، تعلّمنا التجارب على مدار التاريخ، أنّ الكفاح الشعبي ضدّ المستعمر هو طريقنا الوحيد لإنقاذ فلسطين، وخلاص بلادنا من التبعية الاقتصادية والسياسية. وجدير بهذا الكفاح الشعبي أن يعرف أعداءه معرفة كاملة، وأن يعي تمام الوعي أنّ الغرب الأوروبي والصهيونية لا يبحثان في فلسطين إلّا عن المنافع المالية والموارد المادية، التي ستملأ جيوب الرأسماليين من اليهود وغير اليهود.

وإن كانت أصوات في مصر قد ارتفعت على مدار ما يزيد عن عام كامل، متساءلة: "ما لنا والقضية الفلسطينية؟"، سواء كان أصحاب تلك الأصوات ممن يخلطون عمداً بين مفاهيم التقدّمية وحرية المعتقد، وبين محاباة الاستعمار، ظنّاً منهم أنهم بذلك أكثر اتساقاً وأقرب إلى المنطق، وتوهّماً منهم أنّ المستعمر الصهيوني يجسّد مفاهيم الحرية والتقدّم الغربي في الشرق، أو كان أصحاب هذه الأصوات ممن اختلط عليهم الأمر من دون عمد، بنازع الوطنية وحماية الحدود، ظناً منهم أنّ الوطنية النموذجية في طورها الحالي تستدعي بالضرورة معاداة المقاومة الإسلامية، حتى وإن كانت تواجه كياناً استعمارياً توسّعياً يحبو خطواته التدريجية نحو الأراضي الوطنية والموارد الاستراتيجية.

فأما من اختلطت عليهم مفاهيم الحرية والتقدّمية، فإننا نذكّرهم بأنّ الفكر التقدّمي يجب عليه أن ينتصر لكلّ أشكال التحرّر، وأنّ قضية الحرية تتضمّن بالضرورة مقاومة الاحتلال والسردية القائمة عليه. وأنّ "إسرائيل"، التي هي كيان صهيوني رجعي دموي، تجسّد أبشع تجلّيات الاحتلال.

وأما من اختلطت عليهم القضية الوطنية، وتمزّقت عقولهم بين معاداة الكيان الصهيوني من ناحية، وبين معاداة الإسلام السياسي من ناحية أخرى، فإننا نؤكد لهم أنّ القضية المصرية ليست مختلفة في جوهرها عن القضية الفلسطينية. إذ ما كانت قضيتنا هي التحرّر من التبعية الأجنبية، والحفاظ على حدودنا ومواردنا، ودورنا الفعّال في المنطقة. بل لعلّ بعضاً من التأمّل قد يدفعنا للقول إن قضية التحرّر من الاحتلال لا تختلف عن قضية التحرّر من الحكم الرجعي المفروض على بلادنا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك