"روج آفا" تسابق حسابات نهاية المطاف.. روسيا لا زالت هنا

هل انسحبت موسكو فعلاً؟ وأي أثر لذلك؟ وما الأسباب وراء هذه الخطوة؟ هل تؤدي إلى التقسيم خصوصاً بعد بيان "روج آفا"؟

روج آفا تسابق الحل النهائي
ترك القرار الروسي بسحب القوات الإضافية من سوريا المشهد ضبابياً إلى أقصى درجة، بعد مجموعة من التطورات الميدانية والسياسية، وبالتزامن مع جولةٍ جديدةٍ من مفاوضات جنيف-3 بين الحكومة السورية ووفود من المعارضة، إضافة إلى تحفز كردي نحو الفدرالية، مستفيداً من ارتياح أميركي-روسي لقوات سوريا الديموقراطية التي تقاتل ضد المنظمات الإرهابية شمال البلاد.

واعتُبر إعلان الرئيس الروسي عن قراره مفاجئاً للأطراف الأخرى التي لم تتوقع قبلاً بدء الضربات الروسية في سوريا قبل خمسة أشهر ونصف الشهر. وإن كان التدخل يومها مفاجئاً بالفعل نظراً لتعارضه مع مسار التصريحات الروسية الرسمية السابقة له، فإن تقليص القوات اليوم تأتي متوافقةً مع ما أعلنته موسكو في قرار دخولها إلى الميدان السوري. فهي قالت في نهاية أيلول الماضي إن عملياتها في سوريا سوف تستمر لثلاثة أشهرٍ، ثم أتبعت ذلك بتصريحات عديدة أبرزها للرئيس بويتن يقول فيها إن ضربات بلاده ستستمر حتى تحقيق الأهداف المرادة منها.

ولكن خطوة موسكو لم تأت إلا بعد أن غيرت الكثير من ظروف الميدان والمفاوضات. مئات القرى والمدن السورية تم تحرريها تحت المظلة الجوية التي وفرتها الطائرات الروسية. بنى أساسية للجماعات الإرهابية تم محوها. فضلاً عن خسائر بشرية ومادية هائلة تكبدها كل من "داعش" و"النصرة" والمجموعات الإرهابية الأخرى. ما أتاح للجيش السوري التقدم واستعادة زمام المبادرة في معظم ما اصطلح على تسميته مؤخراً بـ"سوريا المفيدة".

ولكن أهم الإنجازات الروسية الميدانية في الأشهر الخمسة الفائتة، تمثل من جهة في إنهاء مشروع المنطقة العازلة الذي سعت إليه تركيا والسعودية، وحاولتا جر واشنطن إليه. ومن جهة ثانية في تمتين حكم الرئيس بشار الأسد وتمكينه من استعادة زمام المبادرة.

وعلى المستوى السياسي أيضاً، حققت روسيا إنجازات أكثر تأثيراً، فهي استطاعت أن تمنع سيطرة الغرب وحلفائه على سوريا، وبالتالي فرض إرادة مخالفة لمصالحها هناك، خصوصاً إذا ما استرجعنا الظروف الميدانية التي سبقت بدء الضربات الروسية، وأجواء تسليح المعارضة بأسلحة نوعية، وتقدم مجموعات مدعومة من تركيا في ريف اللاذقية باتجاه مدن الساحل.

كل هذه الظروف تبدلت مع عودة الهجوم المضاد للجيش السوري وحلفائه إلى تسيّد الميدان، وإدارة دمشق لملف المفاوضات بالتناغم مع تقدم الجيش على الأرض.

كما أدت العملية الروسية بالتعاون مع سوريا وحلفائها الآخرين إلى ضرب الشريان الرئيس لتمويل "داعش"، عبر قصف عشرات قوافل النفط التي كانت تشكل العصب المالي للتنظيم، ودمرت محطات تكرير النفط وحقول إنتاج له، وطرق تجارته إلى العراق وسوريا. (يمكنكم مشاهدة نفط الدم للزميل علي هاشم حول الموضوع)

 

لقد أضاف التدخل الروسي بالمستوى الذي كان فيه، قدرات لم تكن موجودة لدى الجيش السوري وحلفائه من ناحية الخبرات الميدانية، كما من ناحية التسليح ومهارات استخدام السلاح، حتى أصبحوا قادرين على متابعة المعركة، معززين بالمظلة الروسية المستمرة في سوريا، خصوصاً بأركانها الأساسية من مروحيات MI، ومقاتلات SU24 وSU25 التي نفذت معظم الضربات الجوية ضد الإرهابيين، بالإضافة إلى منظومة S400 فائقة التطور وصواريخ بانتسير، القادرة على مواجهة طائرات F35 فخر صناعات "لوكهيد مارتن"، ومنع أية محاولة إقليمية جامحة، ومتفلتة من قدرة الضبط الأميركية خلال الأشهر الأخيرة من حكم أوباما.

ولم ينس بوتين التذكير بجاهزية وإمكانية عودة جنوده العائدين من سوريا إليها "خلال ساعات، حرفياً"، كما قال خلال تكريمهم إبان عودتهم، حيث أضاف في خطابه ان بلاده واثقة من ضمان ميزان القوى في سوريا بعد سحب جزء من قواتها، وتراجع مستوى الطلعات الجوية الروسية هناك إلى الثلث، وأن الرئيس الأسد أيد قرار سحب جزء من القوات الروسية، وأن هذا لن يضعفه أبداً، مع التأكيد على أن القاعدتين في طرطوس واللاذقية آمنتان تماماً من أي خطر. وأشار بوتين إلى أن القوات الجوية الروسية هدفت منذ البداية إلى دعم العمليات الهجومية للجيش السوري ضد المنظمات الإرهابية، مؤكداً أن "موسكو لا تنوي التورط في النزاع السوري الداخلي".

إشارة أخرى هامة في كلام بوتين، وهي أن الجماعات التي تخرق الهدنة في سوريا، سوف تستبعد من القائمة الأميركية تلقائياً، ما يؤشر إلى توكيل أميركي ما لروسيا في ملف جنيف، وهو مؤشر يتقاطع مع معلومات أخرى عن اتفاق أميركي-روسي بالسعي الحثيث والجاد لإنجاح جنيف3، ومنع عرقلته من قبل الحلفاء. عملياً روسيا لم تنسحب. ما حدث هو أنها أرادت استثمار خبر الانسحاب في الداخل والخارج. وتقليص الكلفة.

ولكن، لماذا إعلان بوتين عن سحب فائض القوات الآن؟

هاجس الوحل الأفغاني

في أول تعليق لها بعد قرار بوتين بسحب بعض القوات من سوريا، قالت الخارجية الروسية إن "محاولات الغرب تصوير العمليات الروسية في سوريا على أنها أفغانستان جديدة باءت بالفشل". وأكدت المتحدثة باسمها ماريا زاخاروفا أن هذه المحاولات كانت "دعاية إعلامية مأجورة".

لا تريد روسيا التورط في حرب طويلة كالتي واجهها الاتحاد السوفياتي في أفغانستان في ثمانينيات القرن الماضي. هذا ليس أسلوب بوتين بأي حال. الرئيس الحالي يتقن لعبة المفاجآت عالية الفاعلية، أسلوبه أضرب وتراجع، والقِ مزيداً من الضوء على إنجازك. الماكينة الإعلامية الروسية تزداد خبرةً في هذا المجال، وبوتين يحتاج إلى الانتصار في سوريا وليس إلى الغرق هناك. ولكن الانتصار في سوريا ما زال بحاجةٍ إلى المزيد من الوقت. فلم العودة الآن؟

الرئيس الروسي أصبح مطمئناً إلى نتائج الحرب السورية بالنسبة لمصالح روسيا الكبرى. التفاصيل لا تزال تحتاج إلى الكثير من الجهد. تحديداً من ناحية تجنب خديعة أميركية في اللحظات الأخيرة، خصوصاً إذا تغير الحزب الحاكم في البيت الأبيض. كما من ناحية مفاجآت الميدان، والأمر الواقع الذي قد يفرضه عليه الخصوم أو الحلفاء. ولكن المسار العام للأمور يسير لصالح روسيا.

الهاجس الأفغاني نفسه حاضر أيضاً في ذهن أوباما. هذا ما يدركه بوتين أيضاً، وهو نفسه ما منع جموح الأميركيين في السنوات الفائتة باتجاه استخدام القوة ضد الأسد. وهو اليوم سبب رئيس من أسباب التفاهم الروسي الأميركي حول سوريا. الطرفان يريدان إنجاح جنيف3. والضغط على المعترضين.

ولكن هذا كله لا يمنع تنافسهما على المنطقة بشكل عام، ولا يلغي توجس الغرب من صعود روسيا، ومن نجومية سياسات بوتين، حتى داخل المجتمعات الغربية (يمكنكم مراجعة الخوف من روسيا.. مرض غربي مزمن)، الاستراتيجيتان الأمنيتان لموسكو وواشنطن تشيران إلى خطرهما على بعضهما البعض. وزير الدفاع الأميركي آشتون كارتر قالها بصراحة قبل أيام: روسيا تمثل الخطر الأول في قائمة تحديات الأمن الأميركي الاستراتيجية. لم يكتفِ بذلك، بل أضاف: روسيا والصين منافستين لأميركا، تملكان منظومات عسكرية متطورة، وتستمران في تحديثها لتهدد الولايات المتحدة في بعض المجالات ... الأوضاع على الصعيد الأمني في الوقت الراهن تختلف كثيراً عما كانت عليه في غضون السنوات الـ25 الماضية، الأمر صار يتطلب توظيفات وخطوات جديدة".

ومن الناحية الاقتصادية، لا تستطيع روسيا تحمل أكلاف حربٍ طويلة في سوريا، فخ التورط في حرب مع جماعات مرتبطة بعشرات أجهزة المخابرات، وتتداخل فيها العوامل الدينية والقومية والوطنية، لا تقع فيه إدارة الكرملين. ولكن ما علاقة الخطوة الروسية، بإعلان الفدرالية في "روج آفا"؟

هاجس الوحل الأفغاني

"روج آفا".. ربع الساعة الأخير بدأ: لنصنع "أمر واقع"

مقاتلون كرد قرب الحدود
لقد كانت خطوة التدخل الروسي محسوبةً بدقة. حدثت لتوقف المشاريع الإقليمية الطموحة في الرياض وأنقرة، وما كان يمكن أن يستتبعه ذلك في واشنطن. ولمنع الإرهاب من الوصول إلى موسكو. ولكن أيضاً، هي حدثت لمنع المشروع السياسي الماثل خلف الحرب من التحقق. وهو الذي يتلخص بتفتيت الدولة الواحدة في سوريا، كوسوفو جديدة. ما قد يفتح الباب أمام نموذج كوسوفي في الشيشان، ومثله في بورما. أي في الدول التي قال كارتر إنها تنافس بلاده. إذن، التقسيم بالنسبة لروسيا والصين خطر على وحدتهما، مثلما هو بالنسبة لدمشق.

ولكن بلبلةً كبيرة حدثت بسبب تصريح نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف الذي فهم منه قبول روسيا بنوع من التقسيم في سوريا. ريابكوف قال: "إن نظام الدولة في المستقبل الذي يعتمد النموذج (الاتحادي) سيخدم مهمة الحفاظ على سوريا موحّدة وعلمانية ومستقلة وذات سيادة". فُسر ذلك على أنه انقلاب روسي على المواقف المعلنة سابقاً، وعلى إرادة حلفائها السوريين. ولكن روسيا عادت ونفت المعنى الذي يؤدي إلى التقسيم في كلام ريابكوف. في هذا السياق أشار مصدرٌ دبلوماسيٌ روسيٌ رفيع للميادين إلى أن روسيا ليس لديها أي مشروع بشأن شكل الحكم والنظام في سوريا، إنما هذا يعود إلى السوريين أنفسهم، لافتاً إلى أن كلام ريابكوف جاء ضمن صيغة معينة، وأسيء فهمه، مؤكداً على أنه ليس موقفاً يستند إلى رؤية روسيا لمستقبل سوريا.

إذن رؤية روسيا لمستقبل سوريا مختلفة. المصدر نفسه أشار إلى أنه إذا وافقت كل المكونات السورية على طروحات بعض المكونات بشأن الفدرالية، فإن روسيا ليس لديها أي اعتراض. أي أن خطوة الكرد الأخيرة في "روج آفا" لا يمكن أن تشرعها موسكو ما لم يوافق عليها السوريون الآخرون. إذن روسيا غير متحمسة للفدرالية في سوريا. إذ أن خمس سنوات من الصراع تكون قد انتهت بنتيجة، كان يمكن الحصول عليها من اليوم الأول. وهي نتيجة أسلفنا سابقاً أن لها ما بعدها بالنسبة لوحدة الأراضي المتنوعة عرقياً ودينياً ولغوياً، كما في سوريا، وكما في روسيا والصين أيضاً. فهل ما يمنع أن يقرر الأميركيون في وقت ما حاجة الروس والصينيين لشيء من الديموقراطية التي ذاقتها شعوب أفغانستان والعراق وسوريا، وجل بلاد العرب؟

ما من شكٍ في أن كثير من الكرد يميلون منذ بداية الأزمة السورية إلى تعزيز حضورهم المتمايز عن القوى المؤيدة للنظام. أطراف شريكة في الميدان ترى أنهم تصرفوا بأنانية منذ اليوم الأول. وكان واضحاً اهتمامهم بعلمهم الخاص، مع أنهم استفادوا من مساعدات الجيش السوري، ومن الأميركيين والروس أيضاً. حمايتهم لمناطق وجودهم اليوم خففت العبء عن دمشق، ولكن حسابات نهاية المطاف مختلفة عن حسابات المحطات على الطريق.

المشاركون في مؤتمر رميلان في ريف الحسكة أعلنوا توافقهم على قيام نظام حكم فدرالي في مناطق سيطرة الكرد في الشمال السوري تحت اسم "روج آفا".

البيان الختامي أعلن أن "سوريا المستقبل هي لكل السوريين وهذا ما يحققه نظام فيدرالي ديمقراطي على أساس جميع المكونات المجتمعية"، و"أن تحقيق النظام الاتحادي الديمقراطي ضمان وحدة الأراضي السورية". وأضاف المجتمعون "أنه يحق للمناطق التي يتم تحريرها من التنظيمات الإرهابية أن تكون جزءاً من النظام الاتحادي الديمقراطي بشكل توافقي".

ولكن مصدراً كردياً قال للميادين إن "لا طموحات انفصالية للكرد"، مضيفاً "نحن جزء لا يتجزأ من الجغرافية السورية"، وأوضح أن "الفدرالية هي نموذج حكم لا مركزي تعددي ديمقراطي ضمن سوريا الاتحادية"، مشيراً إلى أن "الاتفاق على تسمية الاقليم الفدرالي لشمال سوريا روج افا (كردستان الغربية) سيكون ضمن وحدة الأراضي".

الخارجية السورية قالت إن لا قيمة قانونية لهذا الإعلان، وحذرت أيّ طرف تسوّل له نفسه النيل من وحدة سوريا وشعبها تحت أيّ عنوان بمن فيهم المجتمعون في مدينة الرميلان في الحسكة. وأكد مصدر في الخارجية أنّ طرح موضوع الاتحاد أو الفدرالية سيمثّل مساساً بوحدة الأراضي السورية، الأمر الذي يتناقض مع الدستور.

المعارضة بكل فروعها وخصوصاً المشاركين في مفاوضات جنيف3 أعلنوا أنهم ضد الخطوة الكردية. الائتلاف  المعارض رفض النظام الفدرالي وحذر من تشكيل ما وصفها كيانات أو مناطق أو إدارات تصادر إرادة الشعب السوري. وأكد الائتلاف في بيان له "أنّ تحديد شكل الدولة السورية سواء أكانت مركزية أو فدرالية ليس من اختصاص فصيل بمفرده".

تركيا لا يمكن لها أن تقبل كياناً كردياً يمتد على معظم حدودها مع سوريا. هي صرحت علناً أنها ترفض كياناً كردياً معادياً. إيران أيضاً تعارض ذلك من عدة منطلقات. خطورة تشجيع هذه الخطوة لكرد إيران على الانفصال أو المطالبة بصلاحيات شبيهة لما هو قائم في العراق، أو ما استجد في سوريا، هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فإن ذلك سيؤثر على دمشق، حليفتها الأولى في المنطقة.

العراق ليس سعيداً بهذه الخطوة أيضاً. فتقسيم سورياً، سيؤثر حكماً على وحدة العراق الذي يعاني من الإرهاب نفسه. ومن ابتزاز مكونات من نسيجه لحكومته المركزية. لبنان قد يكون أكبر الخاسرين، فتقسيم سوريا له وقع الأمر الحتمي بتقسيم لبنان. كونه دولة محتضنة جغرافياً من سوريا التي تكبره بفارقٍ كبير. فضلاً عن التوازنات الهشة في الداخل اللبناني، وارتباطه تاريخياً بدمشق.

حسابات نهاية المطاف

إذن ليس كل الكرد مع التقسيم، أو الفدرالية، ولكن من يساند مؤيديها؟ الولايات المتحدة وروسيا متفقتان على دعم الجهود الديبلوماسية والسياسية للحل في سوريا. تسعيان إلى كل ما يفضي إلى نجاج جنيف-3. مرتاحتان إلى الكرد كقوة قتالية في وجه الإرهاب لها سيطرة واسعة على الأرض. تتنافسان على اجتذاب هذه القوة. لا ضير في دغدغة أحلام الكرد مرحلياً. هذا أيضاً من ضمن حسابات المحطات على الطريق، وليس من ضمن حسابات نهاية المطاف. تغاضي دمشق عن أحلام الانفصال طوال السنوات الخمس جاء من المنطلق نفسه، حسابات المعركة.

نهاية المطاف مختلفة. قد تتحول الخطوة الكردية هذه إلى نقطة لقاء سورية-تركية. الدولتان تفصلهما اليوم هذه القوة الكردية. هذا قد يكون خط عودة العلاقات بينهما، بترتيب إيراني أو من دونه حتى، فالخطر يستحق. سترتفع حينها فجأة قيمة القرارات الدولية رقم 2253 و2173 و2178، وستغلق الحدود على أساسها. الأميركيون والإيرانيون يتقدمون في العراق جنباً إلى جنب. داعش تتقلص. الحرب ضد الإرهاب في سوريا مستمرة، في حسابات الدقائق الأخيرة تعود سوريا عقدة المنطقة، وفرطها يفتت كل ما حولها. حينها ستعني "روج آفا" شمال شرق سوريا.

جنود روس