ما هو تأثير الذكاء الاصطناعي التوليدي على البيئة؟

تؤدي صناعة الذكاء الاصطناعي إلى تأثيرات ضارة وغير مباشرة على البيئة. علماء يبحثون تخفيف هذه الأضرار في المستقبل، ووكالة الطاقة الدولية تتوقع استمرار زيادة الطلب على الطاقة للذكاء الاصطناعي التوليدي خلال العقد المقبل.

  • دراسة تكشف الآثار الخفية لتقنيات الذكاء الاصطناعي على الطبيعة والعمال وتدعو إلى تطوير ذكاء اصطناعي أخلاقي. (المصدر: Shutterstock)
    دراسة تكشف الآثار الخفية لتقنيات الذكاء الاصطناعي على الطبيعة والعمال وتدعو إلى تطوير ذكاء اصطناعي أخلاقي. (المصدر: Shutterstock)

من المتوقع أن يستمر الطلب على الطاقة للذكاء الاصطناعي التوليدي في الارتفاع بشكل كبير خلال العقد المقبل، بحسب تقرير صادر عن وكالة الطاقة الدولية، ومقرها فيينا في النمسا، في نيسان/أبريل 2025.

وذكر التقرير على سبيل المثال أنّ الطلب العالمي على الكهرباء من مراكز البيانات، التي تضم البنية التحتية الحاسوبية لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي ونشرها، سيتضاعف بأكثر من الضعف بحلول عام 2030، ليصل إلى حوالى 945 تيراواط/ساعة.

ورغم أنّ العمليات التي تُجرى في مراكز البيانات ليست جميعها مرتبطة بالذكاء الاصطناعي، فإنّ هذا الإجمالي يفوق بقليل استهلاك اليابان من الطاقة.

علاوةّ على ذلك، يتوقع تحليلٌ أجرته شركة "غولدمان ساكس للأبحاث" في آب/أغسطس الماضي، أن يُلبّى حوالى 60% من الطلب المتزايد على الكهرباء من مراكز البيانات عن طريق حرق الوقود الأحفوري، مما يزيد انبعاثات الكربون العالمية بنحو 220 مليون طن.

وبالمقارنة، فإنّ قيادة سيارة تعمل بالبنزين لمسافة 8000 كيلومتر تُنتج حوالى طن واحد من ثاني أكسيد الكربون.

إنّ هذه الإحصائيات مذهلة، ولكن في الوقت نفسه، يدرس العلماء والمهندسون في "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا" وفي جميع أنحاء العالم الابتكارات والتدخلات الرامية إلى التخفيف من البصمة الكربونية المتزايدة للذكاء الاصطناعي، بدءاً من تعزيز كفاءة الخوارزميات إلى إعادة التفكير في تصميم مراكز البيانات.

انبعاثات الكربون

عادةً ما يتمحور الحديث عن تقليل البصمة الكربونية للذكاء الاصطناعي التوليدي حول "الكربون التشغيلي" – أي الانبعاثات التي تنتجها المعالجات القوية، المعروفة بوحدات معالجة الرسومات (GPUs)، داخل مراكز البيانات.

وغالباً ما يتجاهل هذا الحديث "الكربون المُضمن"، أي الانبعاثات الناتجة عن بناء مركز البيانات في المقام الأول، كما يقول فيجاي جاديبالي، كبير العلماء في "مختبر لينكولن" التابع لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والذي يقود مشاريع بحثية في مركز لينكولن للحوسبة الفائقة.

إنّ بناء وتحديث مركز بيانات، مبني من كميات هائلة من الفولاذ والخرسانة، ومليء بوحدات تكييف الهواء وأجهزة الكمبيوتر، وأميال من الكابلات، يستهلك كمية هائلة من الكربون. في الواقع، يُعدّ الأثر البيئي لبناء مراكز البيانات أحد أسباب سعي شركات مثل" "ميتا" و"غوغل" لاستكشاف مواد بناء أكثر استدامة.

وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ مراكز البيانات عبارة عن مبانٍ ضخمة، أكبرها في العالم، وهو مجمع معلومات شركة الصين للاتصالات في منغوليا الداخلية، والذي يغطي مساحة تبلغ نحو مليون متر مربع ــ مع كثافة طاقة تتراوح بين 10 إلى 50 ضعف كثافة الطاقة في مبنى مكتبي عادي، وفق جاديبالي.

يقول جاديبالي: "الجانب التشغيلي ليس سوى جزء من القصة. بعض الأمور التي نعمل عليها لخفض الانبعاثات التشغيلية قد تُسهم أيضاً في خفض الكربون المُدمج، ولكننا بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود في هذا الصدد مستقبلاً".

تقليل انبعاثات الكربون التشغيلية

عندما يتعلق الأمر بخفض انبعاثات الكربون التشغيلية لمراكز بيانات الذكاء الاصطناعي، فهناك العديد من أوجه التشابه مع تدابير توفير الطاقة المنزلية. أولاً، يمكننا ببساطة إطفاء الأنوار.

يضسف جاديبالي: "حتى لو كان لديك أسوأ المصابيح الكهربائية في منزلك من حيث الكفاءة، فإنّ إطفاءها أو خفض إضاءتها سيستهلك دائماً طاقة أقل من تركها تعمل بكامل طاقتها".

وبنفس الطريقة، أظهرت الأبحاث التي أجراها مركز الحوسبة الفائقة أن "خفض وحدات معالجة الرسوميات في مركز البيانات بحيث تستهلك حوالى ثلاثة أعشار الطاقة له تأثيرات ضئيلة على أداء نماذج الذكاء الاصطناعي، كما يجعل تبريد الأجهزة أسهل".

أجهزة حاسوبية تستهلك قدراً أقل من الطاقة

عادةً ما تتطلب أحمال عمل الذكاء الاصطناعي التوليدي المُرهِقة، مثل تدريب نماذج استدلال جديدة مثل GPT-5، تشغيل العديد من وحدات معالجة الرسومات في آنٍ واحد. ويُقدّر تحليل "غولدمان ساكس" أنّ نظاماً متطوراً قد يضم قريباً ما يصل إلى 576 وحدة معالجة رسومات متصلة تعمل في آنٍ واحد.

لكن المهندسين يمكنهم في بعض الأحيان تحقيق نتائج مماثلة عن طريق تقليل دقة أجهزة الحوسبة، ربما عن طريق التحول إلى معالجات أقل قوة تمّ ضبطها للتعامل مع عبء عمل الذكاء الاصطناعي المحدد.

هناك أيضاً تدابير تعمل على تعزيز كفاءة تدريب نماذج التعلم العميق التي تتطلب الكثير من الطاقة قبل نشرها.

وجدت مجموعة جاديبالي أنّ حوالى نصف الكهرباء المستخدمة في تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي تُستهلك للحصول على آخر نقطتين أو ثلاث نقاط مئوية من الدقة، لذا فإنّ إيقاف عملية التدريب مبكراً يمكن أن يوفر الكثير من هذه الطاقة.

يقول جاديبالي: "قد تكون هناك حالات حيث تكون دقة 70 بالمائة جيدة بما يكفي لتطبيق معين، مثل نظام التوصية للتجارة الإلكترونية". و"يستطيع الباحثون أيضاً الاستفادة من التدابير الرامية إلى تعزيز الكفاءة".

على سبيل المثال، أدرك أحد الباحثين في مركز الحوسبة الفائقة أن المجموعة قد تقوم بإجراء ألف عملية محاكاة أثناء عملية التدريب لاختيار أفضل نموذجين أو ثلاثة نماذج للذكاء الاصطناعي لمشروعهم.

هذا ومن خلال بناء أداة سمحت لهم بتجنّب نحو 80% من دورات الحوسبة المهدرة، تمكنوا من تقليل متطلبات الطاقة اللازمة للتدريب بشكل كبير دون أي انخفاض في دقة النموذج، وفق جاديبالي.

الاستفادة من تحسينات الكفاءة

لا يزال الابتكار المستمر في أجهزة الحوسبة، مثل مجموعات الترانزستورات الأكثر كثافة على شرائح أشباه الموصلات، يتيح تحسينات كبيرة في كفاءة الطاقة في نماذج الذكاء الاصطناعي.

ورغم أنّ تحسينات كفاءة الطاقة كانت تتباطأ بالنسبة لمعظم الرقائق منذ عام 2005 تقريباً، فإنّ كمية العمليات الحسابية التي تستطيع وحدات معالجة الرسوميات القيام بها لكل جول من الطاقة كانت تتحسن بنسبة 50 إلى 60 في المائة سنوياً، كما يقول نيل تومسون، مدير مشروع أبحاث FutureTech في مختبر علوم الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، والمحقق الرئيسي في مبادرة المعهد بشأن الاقتصاد الرقمي.

يقول تومسون: "إنّ الاتجاه المستمر لقانون مور المتمثل في الحصول على المزيد والمزيد من الترانزستورات على الشريحة لا يزال مهماً بالنسبة للعديد من أنظمة الذكاء الاصطناعي هذه، نظراً لأنّ تشغيل العمليات بالتوازي لا يزال قيماً للغاية لتحسين الكفاءة".

والأمر الأكثر أهمية هو أنّ أبحاث مجموعته تشير إلى أنّ مكاسب الكفاءة من هياكل النماذج الجديدة التي يمكنها حل المشكلات المعقدة بشكل أسرع، وتستهلك طاقة أقل لتحقيق نفس النتائج أو نتائج أفضل، تتضاعف كل ثمانية أو تسعة أشهر.

صاغ تومسون مصطلح "نيغا فلوب" لوصف هذا التأثير. وكما يُمثل "نيغا وات" الكهرباء المُوفرة بفضل تدابير توفير الطاقة، فإنّ "نيغا فلوب" هو عملية حاسوبية لا داعي لإجرائها بفضل التحسينات الخوارزمية.

قد تكون هذه أشياء مثل "تقليم" المكونات غير الضرورية للشبكة العصبية أو استخدام تقنيات الضغط التي تمكن المستخدمين من القيام بالمزيد باستخدام قدر أقل من الحساب.

إذا كنت بحاجةٍ إلى استخدام نموذجٍ قويٍّ للغاية اليوم لإنجاز مهمتك، فبعد بضع سنواتٍ فقط، قد تتمكن من استخدام نموذجٍ أصغر بكثيرٍ للقيام بالمهمة نفسها، مما يُقلل العبء البيئي بشكلٍ كبير. ويقول تومسون: "إنّ جعل هذه النماذج أكثر كفاءةً هو أهمّ ما يُمكنك فعله لتقليل التكاليف البيئية للذكاء الاصطناعي".

تعظيم توفير الطاقة

يضيف جاديبالي أنه "على الرغم من أن تقليل الاستخدام الإجمالي للطاقة في خوارزميات الذكاء الاصطناعي وأجهزة الحوسبة من شأنه أن يقلل من انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، إلا أنّ ليس كل الطاقة متماثلة".

ويتايع أنّ "كمية انبعاثات الكربون في كيلوواط واحد في الساعة تختلف بشكل كبير، حتى خلال النهار فقط، وكذلك على مدار الشهر والسنة".

بدوره يقول ديبجوتي ديكا، باحث علمي في مبادرة الطاقة في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، إنّ "تقسيم عمليات الحوسبة بحيث يتم تنفيذ بعضها في وقت لاحق، عندما يأتي المزيد من الكهرباء المغذية للشبكة من مصادر متجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، يمكن أن يقطع شوطاً طويلاً نحو تقليل البصمة الكربونية لمركز البيانات".

ويقوم ديكا وفريقه أيضاً بدراسة مراكز البيانات "الأكثر ذكاءً" حيث يتم تعديل أحمال عمل الذكاء الاصطناعي لشركات متعددة تستخدم نفس معدات الحوسبة بشكل مرن لتحسين كفاءة الطاقة.

يقول ديكا: "من خلال النظر إلى النظام ككل، نأمل في تقليل استخدام الطاقة وكذلك الاعتماد على الوقود الأحفوري، مع الحفاظ على معايير الموثوقية لشركات الذكاء الاصطناعي ومستخدميه".

يعمل ديكا وآخرون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا على بناء نموذج مرن لمركز بيانات يراعي اختلاف احتياجات الطاقة لتدريب نموذج التعلم العميق مقارنةً بنشره. ويأملون في اكتشاف أفضل الاستراتيجيات لجدولة وتبسيط عمليات الحوسبة لتحسين كفاءة الطاقة.

ويستكشف الباحثون أيضاً استخدام وحدات تخزين الطاقة طويلة الأمد في مراكز البيانات، والتي تخزن الطاقة الزائدة للأوقات التي تكون هناك حاجة إليها.

وبفضل وجود هذه الأنظمة، يمكن لمركز البيانات استخدام الطاقة المخزنة التي تمّ توليدها من مصادر متجددة خلال فترة الطلب المرتفع، أو تجنب استخدام مولدات الديزل الاحتياطية في حالة وجود تقلبات في الشبكة.

بالإضافة إلى ذلك، يقوم الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وجامعة برينستون بتطوير أداة برمجية للتخطيط للاستثمار في قطاع الطاقة، تسمى GenX ، والتي يمكن استخدامها لمساعدة الشركات في تحديد المكان المثالي لإنشاء مركز بيانات لتقليل التأثيرات البيئية والتكاليف.

اقرأ أيضاً: انبعاثات "غوغل" الكربونية ترتفع 48% بسبب الذكاء الاصطناعي

الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي

في الوقت الحالي، لا يواكب التوسع في توليد الطاقة المتجددة هنا على الأرض النمو السريع للذكاء الاصطناعي، وهو أحد العوائق الرئيسية أمام تقليل بصمته الكربونية، كما تقول جينيفر تورليوك، الحاصلة على ماجستير إدارة الأعمال لعام 2025، وهي محاضرة قصيرة الأمد وزميلة سلون السابقة، وقائدة ممارسة سابقة للذكاء الاصطناعي في مجال المناخ والطاقة في مركز مارتن ترست لريادة الأعمال في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

يمكن أن تستغرق عمليات المراجعة المحلية والولائية والفيدرالية المطلوبة لمشاريع الطاقة المتجددة الجديدة سنوات.

كذلك يستكشف الباحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأماكن أخرى استخدام الذكاء الاصطناعي لتسريع عملية ربط أنظمة الطاقة المتجددة الجديدة بشبكة الكهرباء.

اقول تورليوك: "يعتبر التعلم الآلي مفيدًا للغاية في التعامل مع المواقف المعقدة، ويُقال إن الشبكة الكهربائية هي واحدة من أكبر الآلات وأكثرها تعقيدًا في العالم".

تضيف تورليوك: "إنّ الذكاء الاصطناعي، من خلال مساعدة الباحثين على جمع وتحليل كميات هائلة من البيانات، يمكن أن يساعد أيضاً في توجيه التدخلات السياسية المستهدفة التي تهدف إلى الحصول على أكبر قدر من العائد مقابل المال من مجالات مثل الطاقة المتجددة".

ولمساعدة صناع السياسات والعلماء والشركات على النظر في التكاليف والفوائد المتعددة لأنظمة الذكاء الاصطناعي، قامت هي وزملاؤها بتطوير مقياس صافي تأثير المناخ.

وتُعد النتيجة إطاراً يمكن استخدامه للمساعدة في تحديد التأثير المناخي الصافي لمشاريع الذكاء الاصطناعي، مع الأخذ في الاعتبار الانبعاثات والتكاليف البيئية الأخرى إلى جانب الفوائد البيئية المحتملة في المستقبل.

في نهاية المطاف، من المرجّح أن تنشأ الحلول الأكثر فعالية نتيجة للتعاون بين الشركات والهيئات التنظيمية والباحثين، مع قيادة الأوساط الأكاديمية للطريق، وفق تورليوك.

اقرأ أيضاً: هل تموّل الضرائب على الذكاء الاصطناعي والعملات المشفّرة العمل المناخي؟

اخترنا لك