"درب الحرير" بعد العدوان.. مسار في طبيعة لبنان

الأشجار ترحب بالزائرين دائماً في أحضانها، ورغم أن الطبيعة هي الأشجار، والوديان، والتلال والينابيع والسهوب، لكنّ منظم المسار يلقي على الشجرة فضل الطبيعة على الانسان، ويقول: "الأشجار بالتأكيد لن تخذلنا"!

  • مسار جميل في طبيعة لبنان
    مسار جميل في طبيعة لبنان

يحدّث المشّاؤون، أي الأشخاص المولعون بالسير بالطبيعة، عن مدى تأثير المسارات في الطبيعة على صحة الانسان الجسدية والنفسية، ومنهم من يوغل في حديثه عن شفائه من عوارض صحية، وأوجاع، وأمراض، بسبب متابعته للسير في الطبيعة. 

وإذا شئنا تسمية السير في الطبيعة (الهايكينغ) إدماناً، فليس في ذلك غرابة، فمنظّم مسار "وايلد أدفنتشرز" قاسم حمادة ينقل عن توماس ميرتون- الشاعر والراهب المتصوّف الأميركي- إنه "من الصعب أن تكون عصبياً في بستانٍ من الأشجار."

يأتي حديث حمادة لـ "الميادين نت" بعد أسابيع قليلة من توقف العدوان على لبنان، وإعادة مساره للحركة والنشاط مع مجموعة من المشّائين المشاركين في مساره. 

يقول حمادة إنه "في مثل هذه الظروف الحرجة، لا يوجد شيء يمكن أن يجلب السلام والثبات إلى القلب والروح أكثر من الطبيعة، سواء كنت تريد الابتعاد عن الضغوط اليومية الطاحنة، أو أن تصادق الصمت بعيداً عن كل ضجيج الأخبار المأساوية، أو لمجرد التأمل في مجد الأرض وجمالها".

الأشجار ترحب بالزائرين دائماً في أحضانها، ورغم أن الطبيعة هي الأشجار، والوديان، والتلال والينابيع والسهوب، لكنّ حمادة يلقي على الشجرة فضل الطبيعة على الانسان، ويقول: "الأشجار بالتأكيد لن تخذلنا”.

تيمّن بالأجداد

إضافة لأهمية المسار على المستوى الشخصي، فإنه يضيء على ما تكتنزه الطبيعة من جمالات، وما أبدعه الانسان عبر التاريخ، لذلك استعار حمادة تسمية المسار الأخير لمجموعته "مسار درب الحرير"، تيمّناً بما كان الأجداد اللبنانيون يعتمدون عليه في حياتهم، وهو صناعة الحرير عبر تربية دودة القزّ. 

ويتحدث حمادة عن اختيار التسمية بأنها تنحصر في رمزيتها، بهدف إحياء ذاكرة دأب الأجداد عليها منذ مئات السنين، ونموذج منها منطقة الشبانية في بعبدا في جبل لبنان، حيث ازدهرت قديماً تربية القزّ، ولا تزال الكثير من أشجار التوت موجودة من بقايا تلك المرحلة.

  • طبيعة خلابة في جبل لبنان
    طبيعة خلابة 

التوت التقليدي، ذو الثمرة البيضاء، غير الشامي الملوّن، هو المصدر الوحيد لدودة القز لتقتات عليه، وتثمر منه خيوط الحرير، ولا شجرة أخرى تستطيع ذلك. 

وتربية القزّ في لبنان تعود إلى 500 عام، بحسب حمادة، وربما 1400 عام على ما تذكر بعض كتب التاريخ، ولا تزال بقايا معامل الحرير قائمة في العديد من المناطق اللبنانية، منها كفرمتى حيث ظلَّ مصنع الحرير فيها يعمل حتى سنة 1975، وفي الشبانية، ومختلف المناطق اللبنانية، ساحلاً وجبلاً، وبلداتٍ، وقرى، ومدن، و"كنا نصدّر الحرير إلى فرنسا، وإيطاليا، وانكلترا، ودول أخرى”، يقول.

أما معمل بسوس في قضاء عاليه، فهو الموقع الوحيد الذي لا يزال يعمل، وتجري فيه تربية القز بصورة رمزية حفاظاً على تراث الأجداد الجميل، في عملية تامة.

العودة إلى الملاذ

"كل حرب لها أثر سلبي على المجتمع والانسان، والأخيرة (العدوان الإسرائيلي) كانت الأقسى على صحتنا، خصوصاً الجانب النفسي منها"، بحسب حمادة، مضيفاً أن "العودة إلى الطبيعة عبر المسارات كانت الملاذ الأفضل لمرحلة ما بعد الحرب، وهذا ما لمسناه وزملاؤنا في المسارات". 

آخر المسارات- درب الحرير -أضاء على عدد من المواقع السياحية، والجمالية والتاريخية في لبنان، وعَبَرَ 15 كيلومتراً في منطقة بعبدا، مارّاً بالشبانيّة، حيث دير مار افرام، وبلدة دير الحرف، فتبيات، وقبيّع، والقتالة، ودير مار انطونيوس التاريخي، ورويسة البلوط.

المسار افتتاح للمسارات الشتوية، وجرى تحت المطر، منذ الانقلاب الشتوي في 21 كانون الأول/ديسمبر الجاري، وهو مسار صنوبري، متنوّع وجميل، وفيه السنديان والملّول، وتكتسي الأرض بأوراقها الذابلة، بألوان صفراء وحمراء وبنفسجية، تضفي جمالاً أخّاذاً على الطبيعة خلافاً لما يتداوله كثيرون عن الخريف كرمز للذبول، والشيخوخة.

ينابيع وغابات صنوبر 

من المواقع التي عبرها المسار، بلدة دير الحرف التي تبعد عن بيروت زهاء 34 كلم، وترتفع نحو 1050 متراً عن سطح البحر.

كما عبر المسار في وادي لامارتين المنسوب للشاعر الفرنسي لامارتين الذي مرّ في لبنان، وأقام فيه فترة من الزمن. وفي الوادي غابات صنوبر متواصلة، ومنتزهات، ومطاحن قديمة.

كما عبر المسار بلدة "قتالة" التي تعلو 950 متراً عن سطح البحر، وفيها شلال، وغابات كثيفة وتشرف على وادي لامارتين. 

  • قصر
    قصر "لامارتين" المطل على الوادي الذي يحمل اسمه

وبلدة "الشبانية" المرابطة على هضبة خضراء تكسوها أشجار الصنوبر، تبعد عن العاصمة بيروت30 كلم وتعلو عن سطح البحر 600 متر، تحدّها حمانا غرباً، قبيع شمالاً، الخربية جنوباً، تتميز بتربتها الخصبة، ووفرة ينابيعها.

في الشبانية يمكن التوقف عند دير مار أفرام الأثري التاريخي، يعود لـ 315 سنة خلت، ويعود للسريان الكاثوليك، وتأسس في عام 1730 على يدي الرهبان الذين قدموا من مدينة حلب السورية أواخر القرن السابع عشر إثر الإضطهادات التي تعرضوا لها. 

  • بحيرات طبيعية في فالوغا (الصورة: قاسم عنان)
    بحيرات طبيعية في فالوغا (الصورة: قاسم عنان)

بلدة "رويسة البلوط" لا زالت تحتفظ بنسبة 85% من مساحتها بأشجار الصنوبر التي تنتشر حول منازلها لتظهر وكأنّها جزيرة خضراء مرصّعة ببيوت قرميديّة حمراء قديمة العهد يعود عمرها لنحو 200 سنة.

إضافة إلى زراعة البلوط والسنديان، تزرع رويسة البلّوط بالفاكهة والخضراوات الموسميّة، ، أمّا ارتفاعها عن سطح البحر فهو نحو 650 متر.

  • من البيوت القديمة في المسار
    من البيوت القديمة في المسار

معالم البلدة الأثريّة تكمن بوجود جسر عثمانيّ يفصلها عن رأس المتن، بالإضافة لمطحنة قديمة تعمل على المياه في وادي لامارتين، فضلاً عن البرج الرومانيّ وبعض الكهوف، وتتميّز بوجود الينابيع والعيون القديمة مثل عين التفّاحة، عين أبو عجرم، وعين الرهبان.

حمادة يختم بأن المسار انتهى مع لوحات من الطبيعة علقت في الذهن، جمعت بين أوراق الخريف المتناثرة، بألوان متنوعة، وأشجار ظلت ممتلئة، لم تتساقط أوراقها.

وتحلو مشاهدة غياب آخر خيوط الشمس، من أعالي الجبال في مشهدٍ يميّز المنطقة الجميلة، التي تشكّل طبيعتها ومساراتها ومرافقها السياحية مهجعاً للبنانيين والمصطافين العرب والأجانب على مدار العام.