جولييت عواد: مدرسة الفن الوطني
تلملم الذكريات لتغزل منها ما يدفئ صقيع الأيام الآتية. من طينة نادرة، عجنت مهنتها… بدمعة ودّعت رفيق عمرها، وانطفأ النور... جولييت عواد: مدرسة الفن الوطني… هل سرقت الأيام ابتسامتها، أم لا شيء مستحيل؟
نص الحلقة
<p> </p>
<p> </p>
<p>تلملم الذكريات لتغزل منها ما يُدفّئ صقيع الأيام الآتية، من طينةٍ نادرة عجنت مهنتها، بدمعةٍ ودّعت رفيق عُمرها وانطفأ النور، جولييت عواد مدرسة الفن الوطني، هل سرقت الأيام ابتسامتها أم لا شيء مستحيل؟ </p>
<p>لانا مدوّر: مرحباً سيّدة جولييت.</p>
<p>جولييت عواد: أهلاً.</p>
<p>لانا مدوّر: هل تشعرين بالراحة؟</p>
<p>جولييت عواد: جداً. </p>
<p>لانا مدوّر: كم استغرق التصوير البارحة.</p>
<p>جولييت عواد: ترجّلت من الباص عند الخامسة والنصف صباحاً.</p>
<p>لانا مدوّر: أيّ أن التصوير يستغرق أقلّ من أربع وعشرين ساعة بقليل، هل لا زالت لديك الطاقة والنفس والحماس؟</p>
<p>جولييت عواد: جداً، أنا أكون سعيدة حينما أمثّل، هناك ثلاثة أمور تُسعدني: التمثيل، تأمُّل الطبيعة، والقراءة والاستماع إلى الموسيقى. رحم الله زوجي، الحديث معه كان يمنحني السعادة لأن جميل كان لديه عقل مميَّز جداً.</p>
<p>لانا مدوّر: دعينا نبدأ من جميل، كيف ودَّعته؟ كيف حالك الآن؟</p>
<p>جولييت عواد: أشعر أحياناً بأنني في حال ضياع، وأحياناً أشعر بأنني قوية، الأمر صعب. </p>
<p>لانا مدوّر: كم دام زواجكما؟ </p>
<p>جولييت عواد: 40 عاماً من الزواج وأربع سنوات خطوبة وأربع سنوات حب.</p>
<p>لانا مدوّر: أي أكثر من نصف عُمرك. </p>
<p>جولييت عواد: لذلك كان من الصعب عليَّ أن أتحدَّث عن الوداع.</p>
<p>لانا مدوّر: هل اعتدتِ على الوحدة؟ </p>
<p>جولييت عواد: ليس بعد.</p>
<p>لانا مدوّر: هل تكرِّسين كل وقتكِ للعمل؟ </p>
<p>جولييت عواد: كثيراً ولكن الأصعب في ذلك هي المواقف التي أتذكّره فيها وأتضايق خاصةً في الليل، الليل قاسٍ جداً من دون الشريك. الأمر الغريب الذي لا أستطيع تفسيره هو أنه عند وفاة الأب والأمّ تتأثّرين وتتضايقين وتحزنين لفترة طويلة جداً،هل هي العشرة مع الزوج؟ هذا ما لا أستطيع أن أفسِّره أو أفلسفه أم هل لأننا عملنا سوياً في المجال؟ </p>
<p>لانا مدوّر: كيف كانت علاقتكما؟ هل كنتما تتشاجران أم متّفقين معظم الوقت؟ كيف تصفين علاقتكما؟</p>
<p>جولييت عواد: الوفاق الدائم صعب وغير منطقي، كنا نختلف لكن جدالنا حول نقطة الخلاف كان لطيفاً ولم نكن ندّاً لبعضنا، كنا نكمل بعضنا حتى في نقاط الخلاف التي تحدث، كنا نقّاداً قُساةً لبعضنا، إذا أنجزنا عملاً نشاهده سوياً وننتقد بعضنا بقسوة. </p>
<p>لانا مدوّر: إذاً أنتِ تفتقدين اليوم للناقد الفني في حياتك؟ </p>
<p>جولييت عواد: جداً. </p>
<p>لانا مدوّر: هل هذا المسلسل الأول لكِ بعد رحيله؟</p>
<p>جولييت عواد: نعم.</p>
<p>لانا مدوّر: هل بات الأمر مختلفاً؟ هل تمثّلين بطريقة مختلفة؟ </p>
<p>جولييت عواد: لقد أهداني خاتماً وأصرّيتُ على وضعه في يدي لكي أشعر بوجوده معي.</p>
<p>لانا مدوّر: كي تبقى روحه معكِ. </p>
<p>جولييت عواد: هذه اللوحات على الحائط هي بريشة جميل، جميل لم يكن يرسم اللوحة من أجل الشكل والألوان، كل لوحة تحمل فكرة.</p>
<p>لانا مدوّر: كم هو مهم أن تعيشي مع رجلٍ يناصر المرأة وكيانها وحريتها؟ </p>
<p>جولييت عواد: الأمر مهم جداً، لو لم يكن كذلك لما كنتُ سأستمر وأبدع، وكما أغيب اليوم عن المنزل كنتُ أغيب سابقاً وبكثرة، لم يكن مُتطلّباً ولم يُشعرني بالتقصير، هذا الأمر مهم جداً. أحبّ هذا الركن جداً لأن فيه ثمرة جهودنا لكل عمل فني والتكريمات. </p>
<p>لانا مدوّر: أيّهم يعني لكِ؟ </p>
<p>جولييت عواد: كلهم ولكن "عائلات الأسرى وسفراء الحرية" تعني لي الكثير، </p>
<p>هنا عند شجرة الزيتون هذه أضع مفاتيح بيت جدّتي.</p>
<p>لانا مدوّر: هل يمكنا أن نرى المفتاح؟ </p>
<p>جولييت عواد: بالطبع.</p>
<p>لانا مدوّر: أين هو المنزل؟</p>
<p>جولييت عواد: في عين كرم. </p>
<p>لانا مدوّر: هل أخذتيه من جدّتكِ؟ </p>
<p>جولييت عواد: جدّتي كانت توزّع أغراضها ولكنها اختارتني لأخذ المفتاح، قالت لي إذا تحرَّرت فلسطين إن شاء الله فالبيت لكِ. </p>
<p>لانا مدوّر: هل لا زال البيت موجوداً؟ </p>
<p>جولييت عواد: نعم ولكنني لم أره لأنني لا أتقبّل فكرة أن يحدّد اليهودي دخولي إلى بلادي أو أن يرى جواز سفري. </p>
<p>لانا مدوّر: ألم تزورِ الأراضي المحتلة أبداً؟ </p>
<p>جولييت عواد: زرتها حين كنتُ طفلة، أتذكّر أشياء جميلة جداً.</p>
<p>لانا مدوّر: لماذا تهتمّين بالمُقتنيات القديمة والأغراض التي لها تاريخ؟ </p>
<p>جولييت عواد: هذه الأغراض للعائلة أولاً، ثانياً شهدت الكثير من الأحداث المُفرحة والمُحزنة، كيف تمّ شراؤها ومتى. هذه قبّعة جدّي لأبي الأرمني، أثناء التجهيز لمنزل الزوجية كان على العروس أن تأخذ معها قبّعة مُطرّزة يدوياً، أنا متأكّدة من أن عَرَق جدّي لا زال موجوداً فيها. </p>
<p>لانا مدوّر: لماذا هذا الإرث مُلتصق بشخصيتك وخياراتك الفنية ورؤيتك للحياة؟ نشعر معكِ بفلسطين وأرمينيا سوياً.</p>
<p>جولييت عواد: بالضبط، نصف الخارطة فلسطينية والنصف الآخر أرمينية، ربّما نتيجة ثقافتي وقراءاتي واطّلاعي ونتيجة التوغّل في القراءة، كم يقع الظلم على الشعب من قِبَل أناس لا أستطيع تسميتهم شعوباً بل هم كيانات مُصطنعة صاحبة أدوار. </p>
<p>لانا مدوّر: ولكن أنتِ كفرد لا يمكنكِ تغيير هذا الواقع، لماذا تلتزمين بخيارات فنية تحدّ من طموحك؟</p>
<p>جولييت عواد: بالعكس هي تقوّيني وتجعلني طموحة أكثر، ما من دولة كانت تحت الاحتلال لمئات السنين ومَن هم مثلي ومثلك ومثل فلان كافحوا حتى تحرَّرت، إذا استسلمنا مَن سيُحرّرها؟</p>
<p>لانا مدوّر: هذا الخط المقاوِم ألم يجعلكِ تتخلّين عن الكثير من أحلامك الفنية؟ </p>
<p>جولييت عواد: بالعكس أصبحتُ أقدِّم الكثير من المشاريع الفنية للتوعية. </p>
<p>لانا مدوّر: مَن يرى مواقف جولييت عواد منذ زمنٍ وحتى اليوم يلاحظ أنها ثابتة وهذا الثبات يستحيل في بعض الأحيان صحيح؟ </p>
<p>جولييت عواد: ولكنه غير مستحيل، مواقفي بدأت منذ أن كنتُ في الرابعة عشرة من عمري، خالي كان في منظمة التحرير الفلسطينية وكان له دور كبير في تنظيم الشبيبة والشابات وكان عليه أن يبدأ من العائلة، كنتُ رافضة في ذلك الحين لأمرٍ ما ووقفت وقلتُ لخالي لن أعمل معكم بسبب كذا وكذا.</p>
<p>لانا مدوّر: هل تتذكَّرين الأسباب؟</p>
<p>جولييت عواد: نعم ولكن لا يمكنني قولها. </p>
<p>لانا مدوّر: هل انخرطتِ في حزبٍ سياسي ما؟ </p>
<p>جولييت عواد: انضممتُ لفترة محدودة في حزب الحركة القومية واكتشفتُ أنني أستطيع العمل خارج الحزب وأكون أكثر حريةً وإنجازاً. </p>
<p>لانا مدوّر: أعطني كتاباً تحبّينه من هذه المكتبة.</p>
<p>جولييت عواد: أكثر ما أحبه هو هذا الركن.</p>
<p>لانا مدوّر: لماذا؟ </p>
<p>جولييت عواد: لأن فيه كل أساطيرنا.</p>
<p>لانا مدوّر: خفايا التوراة، إنجيل سومر، الميثولوجيا السورية، المعتقدات الآرامية، هل قرأتِ كل هذا؟ </p>
<p>جولييت عواد: نعم، هذا الذي نسمّيه الدين اليهودي مسروق من تراثنا. لديّ هنا قسم المسرح وهو مهم عندي لأنني مسرحية، لديّ الروايات وكتاب مهم جداً وهو آخر رواية لجميل "رماد الأحلام". أقوم بطقوس يومية، أضيء الشموع له. </p>
<p>لانا مدوّر: هل هذه مذكّراتك؟ </p>
<p>جولييت عواد: هذه أكتب فيها القصص. </p>
<p>لانا مدوّر: خطّك جميل.</p>
<p>جولييت عواد: أكتب هنا الأفكار.</p>
<p>لانا مدوّر: ما هي الفكرة الأخيرة التي كتبتها؟ </p>
<p>جولييت عواد: حين كنا نصوِّر هبَّت عواصف رملية، حين نتكلَّم يدخل الرمل في أفواهنا، ففكَّرتُ أن هذا الرمل يدخل إلى رئاتنا فلنفترض أنني عطستُ بعد تسعة شهور سيخرج مني إنسان صغير، مُخيّلتي واسعة. </p>
<p>لانا مدوّر: لديك سلحفاة؟ </p>
<p>جولييت عواد: نعم. </p>
<p>لانا مدوّر: سيّدة جولييت كيف تصفين حياتك؟ </p>
<p>جولييت عواد: من الناحية العملية حياتي ممتلئة تماماً، من ناحية أخرى الأمور التي كان جميل ينوي فعلها أريد أن أعمل عليها، كان يريد أن يكتب رواية ولكن للأسف لم ينجزها، أحاول أن أقوم بما في وسعي لتنفيذها. حالياً أعمل في مسرحيات الأطفال لأن معظمها من كتابة جميل، أريد أن أعيد إنتاجها مرة أخرى بأسلوب ومنظور إخراجي مختلف. قبل وفاته أوصاني ألا أترك جمعية "الفتى اليتيم الخيرية". </p>
<p>لانا مدوّر: هل كان مريضاً؟ </p>
<p>جولييت عواد: نعم منذ ستّ سنوات تقريباً، ولكن حاله كانت تتحسّن أحياناً وتسوء أحياناً أخرى، تعشّينا في المنزل وذهب لينام ثم ناداني فوجدته ليس على ما يرام ووجهه أصفر فطلبتُ الإسعاف وأخذته إلى المستشفى، كان هناك الكثير من الأطباء ومن ضمنهم صديقتي، بعد أن اطّلعتْ على الفحوصات قالت لي يجب أن تحضّري نفسكِ، حين كان في الإسعاف رفع يده، قلتُ له تقصد خمسة؟ قال نعم ولكنني لم أفهم المعنى، وعندما وصلنا إلى المستشفى قام بنفس الحركة، في اليوم الخامس قال الأطباء إن وضعه انتهى، سألوني إذا كان بالإمكان إزالة جهاز التنفّس الصناعي عنه فرفضتُ ذلك، كان يتألّم كثيراً، سألتُ الطبيب هل أنت متأكّد من أنه ليس هناك جدوى قال نعم، قلتُ له ما الحل لتخفيف آلامه قال لي لا حل إلا بالمورفين، توفّى في اليوم الخامس وحينها فهمتُ معنى رفع اليد. </p>
<p>لانا مدوّر: كيف عرف؟ </p>
<p>جولييت عواد: لا أعرف، في فترةٍ معيّنة تحدّث كثيراً عن الموت، هم يموتون ويرتاحون ونحن نعيش الألم. </p>
<p>لانا مدوّر: ما هو آخر أمر أخبرته إيّاه؟ </p>
<p>جولييت عواد: قلتُ له إني بخير. أكثر ما يقلقني ويخيفني أن أكبر وأمرض، أمنيتي أن أموت وأنا أقف على قدميّ، والأجمل لو أموت وأنا أصوِّر المشهد الأخير. </p>
<p>لانا مدوّر: تحدّثنا ذات مرة عن موضوع الأطفال وكنتِ جريئة حين قلتِ إنك نادمة على عدم إنجاب الأطفال، هل لا زلتِ تشعرين بذلك؟ </p>
<p>جولييت عواد: كلا، لو أنجبتُ لن أفكّر في مَن يعتني بي في كِبَري، دائماً كان لديّ سؤال حول كيف يتزوّج شخصان وينجبان كائناً حياً، هذا الأمر يحتاج إلى تفسير.</p>
<p>لانا مدوّر: هل هذه الأسئلة كبّلتكِ في موضوع الإنجاب؟ </p>
<p>جولييت عواد: نعم.</p>
<p>لانا مدوّر: هل حمّلتِ الموضوع أكثر مما يحتمل؟ </p>
<p>جولييت عواد: في البداية نعم، ولكن حين اتّخذتُ قرار عدم الإنجاب لم يكن لأنني لا أريد وإنما بسبب أحداث صبرا وشاتيلا، رأيتُ ما حصل، رأيتُ الأطفال التي تُقتَل، المشهد الذي أثّر بي كثيراً حين وضعوا مجموعة من الأطفال في الجرافة وتمّ رميهم في البحر، حينها اتّخذتُ قرار عدم الإنجاب لأنه لا يوجد مَن يحميهم.</p>
<p>لانا مدوّر: ألم تندمي؟</p>
<p>جولييت عواد: ندمتُ ليس بسبب أمومتي بل بسبب الانتفاضة الأولى، فكّرتُ لو أن كل أمّ خافت على أبنائها مَن سيحمي الوطن.</p>
<p>لانا مدوّر: مَن الذين تعتبرينهم أبناءكِ؟ </p>
<p>جولييت عواد: المقاومون، لديّ أبناء شهداء يومياً أزورهم وأترحَّم عليهم وأبكي.</p>
<p>لانا مدوّر: نحن أين الآن سيّدة جولييت؟ </p>
<p>جولييت عواد: نحن في منطقة السنديان التي تقع على جبل يطلّ على مخيّم البقعة، هذا المخيّم قبالتنا، أنا وجميل كنا نأتي كثيراً إلى هنا.</p>
<p>لانا مدوّر: وهنا عرضتِ مسرحيات أيضاً للأيتام.</p>
<p>جولييت عواد: نعم، أستاذ سامي هندية صاحب المكان بنى مسرحاً هنا يشبه المسرح الروماني، أخرجناهم من جوّ المخيّم إلى هذا المكان الجميل. </p>
<p>لانا مدوّر: ماذا تشعرين وأنتِ على المسرح سيّدة جولييت؟</p>
<p>جولييت عواد: أشعر بأنني ملكة، حين تكون المأساة أكبر من كل الكلمات فحرامٌ أن يكتب أحدٌ، أن يقرأ أحد، إنّ عليه أن يفعل شيئاً آخر، الشيء الآخر هو المقاومة.</p>
<p>لانا مدوّر: أنا جمهوركِ. سيّدة جولييت ماذا يعني لكِ هذا المكان الذي نحن فيه الآن؟ </p>
<p>جولييت عواد: نحن نمثّل الأعمال الريفية هنا، وكما ترين المنظر يكون جميلاً جداً خاصةً في المساء لأن أمامنا السدّ، كلما ازداد الفنان شهرة عليه أن يتقرَّب من جمهوره ويكون واحداً منهم.</p>
<p>لانا مدوّر: ما هو تقييمك للأعمال التي يتمّ تصويرها حالياً؟ </p>
<p>جولييت عواد: الأعمال التي أشارك فيها هي أعمال بدوية بمعظمها، مَن يدرس هذه الأعمال يجد أن خلف الشكل البدوي يُقال شيء مهم جداً. لا شيء مستحيل على تحرُّر فلسطين. </p>
<p>الحياة خيارات وفي تلك الخيارات إذا لم تنتصر للحق تذهب كل إنجازاتك سُدى، إذا كنتَ مؤمناً بقضيّتك فلا تَحِد عنها، لا تساوم، لا تنهزم فالتاريخ ينصر دائماً أصحاب الحق لأنّ لا شيء مستحيل. </p>