نتنياهو.. صعود مجرم
من بدايات يمينية قومية متشددة، إلى أطول رئاسة حكوميّة في "تاريخ إسرائيل".. كيف صاغ نتنياهو عقليّته الدكتاتورية؟ استفراد بالسلطة عبر تعديلات قضائية، ملفات فساد، تظاهرات وأزمات متصاعدة.. استيطان وتطهير عرقي وأجندات توسعية، وتوظيف للإبادة لخدمة مصالحه الشخصية.. ورغم المظلّة الغربية، يلاحقه لقب "مجرم حرب" وتطارده المحاكم الدولية.. فكيف وصل إلى مرحلة العزلة الاستراتيجية؟
نص الحلقة
مايا رزق: حفيد ناثان ميليكوفسكي من أوائل دُعاة الصهيونية الدينية، ونجل بنسيون المُساعد الشخصي لزئيف جابوتنسكي، شقيق يوني، زوج سارة، ومُجرم حرب.
مايا رزق: بنيامين نتنياهو، حقيقة أنه ولِدَ في يافا المُحتلّة عام 49، قد لا تكون بأهميّة أن والده البولندي الأصل أنشأه على العقيدة اليهودية المُتشدّدة وكُرْه العرب والمسلمين. وما تقدّم قد لا يكون بأهمية هيام نتنياهو بزئيف جابوتنسكي.
مايا رزق: وهذا تحديدًا ما يؤمِن به نتنياهو وما يُقاتل من أجله. في =أقلّ تقدير، هذا ما يقوله هو بالعبرية أو بالإنكليزية، اللغة التي يُتقنها كما يُتقن تركيبة المجتمع الأمريكي، والأهمّ تركيبة السياسة الأمريكية. كيف لا وهو الذي تَرَعْرَع ودرس في الجامعات الأمريكية، وتحوّل إلى معشوق الإعلام التقليدي هناك وخبيره الوحيد لشؤون الشرق الأوسط.
مايا رزق: لعقودٍ اتّخذ نتنياهو من المنابِر الأمريكية منابِر يُعبّر من خلالها عن رؤيته الصهيونية لإسرائيل الكبرى، وللعرب كإرهابيين. وهو أول مَن ساق هذه التّهمة بالمسلمين العرب في الإعلام وأروقة القرار الغربية، مُستغّلًا موضوع مَقْتَل شقيقه يونثان في ما يُعْرَف بعملية عينتيبي.
عاد نتنياهو إلى إسرائيل، أَمْرَك السياسة في تل أبيب، وبدأ بتسلّق المراكز بسرعةٍ مُريبة. برز في الثمانينات سفيرًا لإسرائيل في الأمم المتحدة، بينما كان يعمل على الهيمنة على حزب الليكود اليميني ليتولّى رئاسة الحكومة للمرة الأولى عام 96.
مايا رزق: وهكذا أصبح نتنياهو أطول مَن شَغِل المنصب في إسرائيل، وإلى جانبه مُضيفة الطيران السابقة وشريكته في الحُكم سارة نتنياهو.
نتنياهو الذي يحمل بوصلة ثُلاثية الأبعاد، قوامُها القومية الدينية المُتشدّدة، والرؤية التوسّعية الصهيونية، والروح العسكرية القتالية أو الإجرامية باعتراف أرقى المحاكم الدولية، بات رمزًا للسياسة الفاسِدة والمُتَعَجْرِفة والخالية من الضوابِط الأخلاقية.
هي سياسة ترعى حرب إبادة في غزّة لم يشهد التاريخ الحديث مثلها، بقيادة نتنياهو ودعم أمريكا التي يقول هو عنها: «أمريكا شيء يمكن تحريكه بسهولةٍ نحو الوجهة التي نريد، لن تقف في وجهنا».
وهذا جانب فقط من وجه نتنياهو، ولكن كي تعرف أكثر، عليك أن تذهب أعمق.
مايا رزق: في هذه الحلقة من "اذهب أعمق"، تحت عنوان "نتنياهو: صعود مُجْرِم"، معنا من عكا عضو القائمة المُشتركة عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمُساواة، السيّدة عايدة توما. على أن ينضمّ إلينا بعد قليل الأكاديمي والمؤرِّخ الأمريكي باري تراكنبرغ.
=أهلًا ومرحبًا بكِ، سيّدة عايدة. أسألك بداية: مَن هو نتنياهو؟ وأيّ دور لكلٍ من جدّه في ما يخصّ النزعة الدينية، ووالده في ما يخصّ النزعة التوسّعية، وشقيقه في ما يخصّ النزعة العسكرية؟
عايدة توما: مساء الخير، شكرًا لك على الاستضافة. الحقيقة إننا نحاول أن نُحلّل شخصية إنسان، كما عرفته. هو اليوم مجرم حرب، يقود حرب إبادة عصريّة أمام أعين العالم كله، وينجح إلى حدٍّ ما لأنه في الفترة الأخيرة هناك تراجُع جدّي في قُدرته على الإقناع بأن ما يقوم به ليس حرب إبادة، وإنما ما يقوم به هو عمليات عسكرية. يعرف تمامًا ما يريد الحصول عليه.
نتنياهو أحد السياسيين الذين، حتى ونحن كذلك كَرِهنا سياسته وما يقوم به، لا بدّ من أن نقول بأنه من أبرز السياسيين في هذا العصر، كونه أولًا وقبل كل شيء ينجح في خلق تحالفات غريبة تكاد تكون غير مفهومة. من حيث تحالفه مع اليمين في العالم، فهو يميني أيديولوجيًّا وفكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا. ولكن حتى اليمين الذي يُعْرَف بجذوره المُعادية لليهود، ينجح هو أيضًا في التحالف معه.
لأنه لدى نتنياهو: الحاجة تُبرِّر الوسيلة، الهدف يُبرِّر الوسيلة. هو مُستعدّ لتجاوز كل الأخلاقيات المُمكنة لأن عينه على الهدف. والهدف لديه، كما قلت، مُتأثّر جدًّا بالتربية التي تربّاها في المنزل، من حيث الشخصيات أو بالأساس الأب، الذي هو بروفيسور له كُتُب، ومعروف عنه كل نظرياته السياسية الصهيونية جدًّا، ولكن أيضًا ذات جذور توراتية.
ولا يعترف – وقالها أكثر من مقابلة – الوالد لا يعترف بوجود الشعب الفلسطيني. هو لا يعترف بوجود الشعب الفلسطيني، هو يعترف فقط بحقّ ما يُسمّيه حقّ الشعب اليهودي على الأرض الكاملة، ما يُسمّيها أرض إسرائيل الكبرى.
وأنا أعتقد أن نتنياهو أعلن ذلك أم لم يُعْلِن، هذا في قراراته الإيمان الواضح لديه والأيديولوجية التي يحملها. نتنياهو ليس بعيدًا عن اليمين التوراتي، لأنه دعونا نتذكّر أنه ليس من فترةٍ طويلةٍ، سنة 2018، بمُبادرة حكومة نتنياهو، بمُبادرة نتنياهو، قاد سنّ قانون أساس في دولة إسرائيل سُمّي بقانون القومية اليهودية، والذي يبدأ بالمقولة الواضحة: «إن أرض إسرائيل الكبرى هي للشعب اليهودي وفقط للشعب اليهودي».
وطبعًا كلنا نعلم جيّدًا أنه عندما يقولون أرض إسرائيل الكبرى، حسب التربية التي تربّاها نتنياهو والتي يؤمِن بها، هي ليست فقط فلسطين التاريخية، وإنما تتجاوز حدودها حتى تصل إلى سوريا وإلى الأردن وإلى مناطق أخرى.
مايا رزق: سيّدة عايدة، انطلاقًا من هذه الخلفية، كيف نُفسّر صعود نتنياهو بهذه السرعة في عالم السياسة؟ كيف نُفسّر قبوله داخل المجتمع الاستيطاني على مرّ العقود السابقة؟
عايدة توما: نتنياهو لم يكن لينجح بهذا الشكل بالبقاء. وهو =فنّان في صِراع البقاء. بالنسبة له أن يبقى السياسي المُسيطر على الوضع هو أمر يشغل باله ليل نهار، ليس فقط للهروب من المُحاكمات التي تُدار ضدّه، إنما أيضًا لأنه يريد تحقيق الأهداف السياسية التي وضعها.
ولكن كل ذلك ممكن لأنه أيضًا حدث تغيير جذري وعميق داخل المجتمع الإسرائيلي. شَهِدنا تصاعُدًا وعلوًّا أكثر فأكثر من شأن اليمين اليهودي داخل إسرائيل، خاصة من بعد سنة 90 وصاعِدًا. ولاحظي بأن هذه هي السنوات التي بدأ يبرز دور نتنياهو في قيادة هذا اليمين. قد تكون العملية هناك تغذية راجعة: هو يُقوّي اليمين، واليمين يُقوّيه.
ولكن حدثت تغييرات عميقة، من ضمنها أولًا: استقدام مليون روسي أو مما كان يُسمّى الاتحاد السوفياتي سابقًا إلى إسرائيل على أنها هجرة يهود إلى إسرائيل. وهؤلاء لديهم مَيْل خاص نحو اليمين ونفور مما يُسمّى يسار، وهؤلاء تمّ تجييشهم وتجنيدهم بشكلٍ مباشر في معارك اليمين، وجزء منهم جُعِلوا مُستوطنين في الضفة، مما قوَّى أيضًا هذا التوجُّه، لأنه حتى ذلك الوقت معظم المستوطنات كانت مستوطنات أقامها ما يُسمّى المابام، وبعد ذلك حزب العمل وما إلى ذلك.
بالإضافة إلى ذلك، حدث تغيير آخر أضاف قوّة جديدة لليمين وقوّة لنتنياهو، وهو دخول اليهود الشرقيين إلى أرْوِقة الحُكم في إسرائيل. مع صعود الليكود، أدخل مجموعات واسعة من اليهود الشرقيين إلى أرْوِقة الحُكم، وهؤلاء بطبيعتهم أيضًا =تمّت تربيتهم كجيلٍ ثانٍ في إسرائيل على كُره العرب أيضًا، بالتالي هؤلاء...
مايا رزق: هذه جزئية مُهمّة جدًّا، سأتحدّث عنها وسنتحدّث عن صعود اليمين في عهد نتنياهو. لكن لفتني في إطار البحث عن نتنياهو ما قاله الرئيس السابق في إسرائيل رؤوفين ريفلين عندما اتّهم نتنياهو بتمزيق المجتمع الإسرائيلي. إلى أيّ مدى استغل نتنياهو هذا الانقسام في المجتمع الاستيطاني داخل الكيان المُحتلّ؟
عايدة توما: نتنياهو يُغذّي هذا الانقسام ويجعل الشَرْخ أكثر عُمقًا وأكثر حِدَة. أولًا لأنه يريد أن يُرضي المُتديّنين الحريديم الأرثوذكس، ممّن هم أصلًا لا يخدمون في الجيش ولا يعرفون أنفسهم كصهاينة، ولكنهم مُهّمون لنتنياهو من أجل البقاء، من أجل إقامة الحكومة واستمرار عملها وأية ائتلافات مستقبلية.
هناك اليوم في إسرائيل شَرْخ كبير بين أولئك الذين يخدمون في الجيش ويتحوّلون إلى جنودٍ ويحاربون اليوم ويمارسون حرب الإبادة في غزّة، ومن هم يرفضون الخدمة في الجيش.
نتنياهو اهتمّ طوال الوقت أولًا بأن يغذّي هذا الشَرْخ أكثر فأكثر، لأنه عمليًّا يدعم الحريديم ويمدّهم بالميزانيات ويتجاهل الفئات الأخرى ويُهملها. بالتالي يحدث هناك نوع من البغضاء ونوع من النزاع بين هاتين المجموعتين.
بالإضافة إلى الشَرْخ القائم بين ما يُسمّى اليهود الشرقيين واليهود الأشكناز – اليهود الأشكناز الذين قَدِموا من أوروبا والذين أسّسوا الدولة في بداياتها. بالنسبة لهم، هم يرون بأنهم أصبحوا على الهامش، وإن هذه الدولة التي حلِموا بتقديمها للعالم على أنها دولة ديمقراطية تسير باتجاه الديكتاتورية بخُطى واسعة.
ويحملون ليس فقط نتنياهو، وإنما كل مَن يدعمه، بما في ذلك الشرقيين، في هذه الأمور. هناك العديد من المفاصل التي يختلف عليها المجتمع الإسرائيلي، بدأت تظهر أكثر للعيان، ونتنياهو يغذّيها.
=إذا كان أيضًا من حربه على المؤسّسات القائمة في الدولة – إذا كانت المحكمة العليا والجهاز القضائي، وإذا كان الموظّفون الكبار مثل المدّعية العامة وما إلى ذلك – هؤلاء بالنسبة لنتنياهو بدأ يُحرِّض الجمهور عليهم، وطبعًا جمهور اليمين.
مايا رزق: بما أنك تتحدّثين عن المؤسّسات في الداخل المُحتلّ، مشاهِدينا الكرام، تعديلات قانونية وتشريعية، تقييد للسلطات، وإضعاف للمؤسّسات، هو مسار صعود الطاغية، بما سمح لنتنياهو بالتحكّم، مشاهدينا، بمفاصل الكيان. فكيف يُطوّع النظام لصالح بقائه السياسي؟
مشروع ما يُعْرَف بخطّة الإصلاح القضائي دفعت به حكومة نتنياهو عام 2023. من أبرز بنوده: إلغاء ذريعة المعقوليّة التي تسمح للمحكمة العُليا بإبطال قرارات حكوميّة إذا رأت أنها غير معقولة، ذلك يُقيّد قُدرة القضاء على مُراقبة السلطة التنفيذية.
بند آخر: التحكُّم بلجنة تعيين القضاة. فضلاً عن محاولات لإضعاف استقلالية المُستشار القضائي للحكومة والمدّعي العام اللذين يشرفان على قضايا الفساد المفروضة على نتنياهو، والدَفْع باتجاه قوانين تحدّ من الزامية استشارات المُستشار القضائي للحكومة، بحيث تصبح توصياته غير مُلْزِمة. وهذا ما أشارت إليه ضيفتنا قبل قليل من عكا، ولو كان ذلك باعتراف.
أضف إلى ذلك تعديلات قانونية لتثبيت أغلبيّته البرلمانية عبر خدمة حلفائه من أحزاب اليمين الديني، منها مثلاً قانون يسمح لزعيم شاس أرييه درعي، المُدان بالفساد الضريبي، بالعودة للحكومة – هذا قبل أن تُبْطله المحكمة العليا – فضلاً عن تسهيلات في القوانين الخاصة بتمويل المدارس الدينية.
بالتوازي أيضًا، مشاهدينا، عزَّز نتنياهو نفوذ السلطة التنفيذية على حساب الكنيست من خلال تمرير قوانين بآلية القانون الأساسي التي يصعب تعديلها مستقبلاً، وتسريع إجراءات تشريعية لتقييد دور المعارضة، ما يمنح الحكومة اليد العليا باعتمادها على الأغلبيّة العددية.
في الذرائع الأمنية، وظّف قوانين الطوارئ وصلاحيات الجيش والأجهزة الأمنية في الداخل تحت شعار حماية الأمن القومي، ما يُمكّنه من تبرير أيّ تضييق على الحريات أو قرارات استثنائية.
كما شجّع تشريعات تؤثّر في تمويل الإعلام العام، وفتح المجال أمام رجال أعمال مُقرّبين للسيطرة على منصّات إعلامية ليخلق بيئة تخدم شخصه وائتلافه ومصالحه.
ينضمّ إلينا الأكاديمي والمؤرِّخ الأمريكي البروفيسور باري تراكنبرغ. أهلًا ومرحبًا بك معنا، بروفسور، في الميادين.
انطلاقًا من هذا العرض، إلى أيّ مدى يمكن أن نقول بأننا أمام طاغية أو ديكتاتور يحصر كل السلطات بيده، من بينها أيضًا الوسائل الإعلامية؟ وما سرّ حفاوة أمريكا، عرّابة الديمقراطية، في مثل هكذا شخصية؟
باري تراكنبرغ: شكرًا على هذه الفرصة، وشكرًا على الدعوة للمُشاركة في هذه المناقشة. أعتقد أن نتنياهو هو جزء لا يتجزّأ من موجة – إذا ما صحّ القول – موجة من قادة ديكتاتوريين في مختلف أنحاء العالم. ونحن نتحدّث أيضًا عن الولايات المتحدة الأمريكية.
نتنياهو يلعب اليوم كل أوراق القوّة التي كان قد يلعبها أيّ قائد مماثل، أيّ قائد ديكتاتوري، في سياقٍ اجتماعي وسياسي مُماثل، في سبيل الهيمنة على الأوساط الاجتماعية والسياسية. وأعتقد أن هذا الأمر ينطبق على ما يقوم به في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا.
وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية قد دعمت نتنياهو بشكلٍ غير مسبوق وغير مشروط أيضًا بسبب الجهود التي بذلتها المجموعات الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية على مدى العقود الماضية.
هذه المجموعات قامت ببذل جهود كبيرة – إنْ كان في ما يتعلّق في الماضي بإنشاء دولة إسرائيل، أي قبل العام 1948 – وهذه الجهود استمرّت حتى اللحظة. كما تعلمون، عبر وسائل الإعلام، عبر منظّمات المجتمع المدني والمنظّمات الدولية، تمّ تصوير إسرائيل بصورة الدولة الديمقراطية، أو الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط.
وهذه الصورة أصبحت منتشرة، في حين أن النظام الإسرائيلي لم يكن على هذا المستوى. لقد تمّ تصويره بصورة الدولة الديمقراطية في محيط من الدول الفاسِدة، وبالتالي تمّ – إذا صحّ التعبير – إخفاء صوَر جريمة النكبة التي بدأت في العام 1948 وليس فقط في العام 1948.
وكما تعلمون، في تلك الفترة كان الحزب الجمهوري أكثر قُربًا من إسرائيل من الحزب الديمقراطي. وبالتالي أيضًا، عندما صعد نتنياهو إلى السلطة، بدأ أيضًا بكَسْب دعم اليمين إلى جانب اليسار، وحَظِيَ بدعم رونالد ريغان، ومن ثم بدعم جورج بوش الأب. وبالتالي ذلك الأمر سمح لإسرائيل بتعزيز موقعها في الشرق الأوسط، وأيضًا تعزيز اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بهذا الموقع.
نتنياهو اليوم، الذي تعلّم مما تلقّاه من تعليمات في الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ اليوم بالتأثير على سياسات دونالد ترامب وغيره من القادة. أعتقد أن عددًا كبيرًا من السياسات المُعْتَمَدة في إسرائيل تُعْتَمَد اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية من قِبَل الإدارة الأمريكية، ولا سيما في ما يتعلّق بالسياسات العسكرية أو ربما المظاهر العسكرية في واشنطن العاصمة.
مايا رزق: سأتحدّث عن هذا الموضوع بالتفصيل. ولكن قبل أن نتحدّث عن علاقة نتنياهو بالولايات المتحدة الأمريكية – عِلماً أن البعض يقول عنه أنه صناعة أمريكية، لأنه ليس فقط تَرَعْرَع هناك، بل فَهِمَ جيدًا الفكر والسياسة الأمريكية، لدرجة أن السفير الأمريكي السابق لدى إسرائيل مارتن إنديك يقول بأن نتنياهو يفهم السياسة الأمريكية أكثر من الإسرائيلية – ولكن قبل ذلك، أريد أن أذهب معكم في عُمق التاريخ.
بروفيسور، يقول المؤرِّخ آفي شلايم: «نتنياهو يُجسِّد صهيونية جابوتنسكي التصحيحية». ماذا يكشف ذلك عن أيديولوجيا نتنياهو؟
باري تراكنبرغ: أعتقد أن هذا صحيح بشكلٍ عام. جابوتنسكي هو الشخص الذي قام – ربما – بالحديث عن إعادة النظر بالصهيونية. بالتالي، في فتراتٍ تاريخيةٍ كان هناك حديث عن إنشاء دولة ديمقراطية اشتراكية – إذا ما صحّ القول – أو ربما أكثر قُربًا من الاشتراكية في إسرائيل.
ولكن جابوتنسكي لم يكن مُتأثرًا بهذه الآراء أو بهذه الأفكار. لم يكن يعتمد لغة ديمقراطية، إنما كان أكثر تشدّدًا، وكان واضحًا جدًّا في حديثه عن الصهيونية وعن حدودها، وأيضًا عن ضرورة اعتماد – ربما – العُنف أو ربما الضغوطات والقسوة في تطبيق هذه السياسات الصهيونية وهذه الأهداف الصهيونية.
وبالتالي، نتنياهو قد تشرَّب هذه المفاهيم وهذه الأفكار منذ طفولته. ونحن نرى الآن تداعيات هذه المفاهيم التي =تشرَّبها نتنياهو. بالتالي، نشأ نتنياهو أيضًا في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعلّم أيضًا السياسات والاستراتيجيات – استراتيجيات التلاعُب المُعْتَمَدة على المستوى السياسي هنا في الولايات المتحدة الأمريكية – مما سمح له بالنجاح في مساعيه المُتعدّدة.
هو يحاول استغلال الفُرَص، أو ربما هو يخلق الفُرَص أيضًا. هو يقوم بخلق التحالفات، هو يقوم بإنشاء صداقات وشراكات في سبيل خدمة مصالحه وأهدافه. وبالتالي، هذا جزء لا يتجزّأ من الأيديولوجية التي اكتسبها في طفولته، وأيضًا خلال نشأته في الولايات المتحدة الأمريكية.
مايا رزق: هذه الحلقة من "اذهب أعمق" مستمرّة، ولكن بعد هذا الفاصل ابقوا معنا.
مايا رزق: من جديد، أهلًا ومرحبًا بكم إلى "اذهب أعمق".
من ديفيد بن غوريون إلى بنيامين نتنياهو، عقود من المجازر هَنْدَسها رؤساء حكومة إسرائيليون أو أشرفوا عليها:
كفر قاسم في الـ29 من تشرين الأول (أكتوبر) عام 1956، الساعة الخامسة مساءً: 49 شهيدًا بينهم 23 طفلًا برصاص شرطة الحدود. حَظْر تجوّل مُفاجئ فرضه الاحتلال، فنفّذ جريمته بحقّ العائدين من أعمالهم. ديفيد بن غوريون كان حينها رئيسًا للحكومة.
أيلول (سبتمبر) عام 1982، خلال تولّي مناحيم بيغن رئاسة الحكومة: مجزرة في مخيم صبرا وشاتيلا في لبنان، نفّذتها مجموعات محلية بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت. لجنة كاهان المُكلّفة بالتحقيق حمّلت القيادة الإسرائيلية مسؤولية غير مباشرة، ووزير الأمن أرييل شارون مسؤوليّة شخصية لدخوله المُنفّذين إلى المخيّمات.
قانا جنوبي لبنان: مجزرتان مُتتاليتان. أولاهما خلال حكومة شمعون بيريز في نيسان (أبريل) عام 1996: 106 شهداء في قصفٍ مدفعي إسرائيلي على مجمّع تابع لبعثة الأمم المتحدة. المجزرة الثانية في تموز (يوليو) 2006، خلال حكومة إيهود أولمرت: 28 شهيدًا بينهم 16 طفلًا في ضربة جوية إسرائيلية على مبنى سكني.
فيما العدوان على غزّة في عهد أولمرت أدّى إلى استشهاد أكثر من 1400 فلسطيني.
أضف إلى ذلك 17 شهيدًا فلسطينيًّا برصاص الاحتلال في باحات الأقصى عام 1990، خلال ولاية إسحاق شامير.
وفي عام 2000، 13 شهيدًا من أهالي الداخل المُحتلّ خلال احتجاجات رافقت ما عُرِف بهبَّة القدس والأقصى، وكان إيهود باراك وقتها رئيسًا للحكومة.
وصولًا إلى نتنياهو، صاحب الولايات المُتعدّدة وأطولها، وصاحب المجازر الأكثر دموية: 2151 شهيدًا في العدوان على غزّة عام 2014، وحصيلة زادت عن 62000 في العدوان المستمر على غزّة منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
فيما القضايا والقرارات الصادرة عن المحاكم الدولية، وبينها أوامر باعتقال نتنياهو، تفتقر إلى أدواتٍ تنفيذية، بينما الغطاء الغربي والفيتو الأمريكي تحديدًا يمنحان رئيس الحكومة الإسرائيلية فرصة لتفريغ القرارات الدولية من مضمونها.
أستاذة عايدة، أعود معك. تقول "يديعوت أحرونوت" مؤخّرًا في عنوان لها: «إنهم في إسرائيل مُدمنون على الحرب». أية حالة هي هذه؟ أيّ مستوى من الإجرام وصلت إليه إسرائيل، تحديدًا بوجود شخصية مثل نتنياهو؟
عايدة توما: أولًا، يتمّ الحديث في هذه الأيام أكثر فأكثر. بدأوا يستوعبون بأن هذه الحرب لم تكن لتتمّ فقط بقرار من نتنياهو، وإنما أيضًا بالصمت والتشجيع الذي لاقاه داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي وافق وشارك بأن تستمر هذه المجزرة – حرب الإبادة – منذ قُرابة العامين حتى الآن.
لأنه حتى لو راقبنا ما يجري في الإعلام الإسرائيلي، الإعلام الإسرائيلي تحوّل تمامًا إلى بوقٍ ناطقٍ بلسان الجيش ولسان الحكومة أكثر من أيّ وقت مضى، خاصة عندما يتعلّق الأمر بحرب الإبادة في غزّة.
في أمورٍ أخرى قد يخرجون عن النصّ، قد ينتقدوا، ولكن عندما يكون الأمر مُتعلقًا بغزّة، هناك إخفاء للحقائق وتشويه للحقائق.
هناك تقرير كبير خرجت به صحيفة إلكترونية إسرائيلية وهي يسارية، بالتعاون مع "الغارديان"، أثبت أن 82% من الشهداء في غزّة هم مدنيون، من بينهم نحن نعرف آلاف الأطفال.
لكن المجتمع الإسرائيلي ليس فقط أنه صمت وأشاح بوجهه، هو لا يريد أن يعرف. وهو يناقش – حتى عندما كل العالم يتحدّث عن سياسة التجويع والقتل البطيء التي تُمارَس في غزّة – المجتمع الإسرائيلي يناقش مسؤولية مَن. حتى إذا اعترف أن هناك جوعًا في غزّة، هو يحمّل المسؤولية على الغزّيين وعلى حماس وعلى التجار وما إلى ذلك.
لذلك، عمليًّا، للأسف، نحن نقول بأنه رغم وجود بعض الأصوات اليوم التي تعترف بأن هذه الحرب يجب أن تتوقّف، وأن هناك جرائم تُرْتَكَب، ولكنها أقلّية. الجو العام في إسرائيل هو الجو الذي أتاح ومهّد لمثل هذه الحرب أن تستمر – حرب الإبادة.
مايا رزق: وهذا يدفعنا ربما للتساؤل: كم نتنياهو في الأراضي المُحتلّة؟
أذهب إليك، بروفسور باري. نتنياهو المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، وهو مُتّهم بارتكاب جرائم حرب. كيف يفلت من العِقاب؟ وأيّ دور للولايات المتحدة الأمريكية في هذا الأمر، عِلماً بأنها مثلاً فرضت عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي؟
باري تراكنبرغ: أعتقد أنه منذ بداية النظام القضائي العالمي الذي أُنشئ بُعَيْد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ظنّ البعض أن هذا النظام العالمي سوف يعمل على حماية حقوق الجميع، ويعمل أيضًا على تعزيز المساواة.
ولكن هذا الأمر لم يحصل ولم يتحقّق. ويبدو أن الغرب، وأن دول الغرب، والغرب الجماعي – إذا ما صحّ القول – اجتمعت إلى جانب إسرائيل ودعمت إسرائيل.
واليوم، بعد قُرابة 700 يوم من الحرب، وبعد اعتراف وسائل الإعلام الغربية بالمجاعة المفروضة في غزّة، يبدو أن النظام القضائي العالمي والدول الغربية غير قادرة اليوم على تحقيق أهدافها.
وأن هذا النظام، هذه المؤسّسات التي أُنشِئت بُعَيْد الحرب العالمية الثانية، تبدو غير قادرة على تحقيق أهدافها، وتبدو في حال فشل – إذا ما صحّ القول – غير قادرة على تحقيق أهداف حقوق الإنسان أو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبالتالي يبدو أن هذه الأهداف لا تخدم مصالح الدول الغربية، ويبدو أيضًا أن دفع إسرائيل إلى تغيير سياساتها لا يخدم مصالح هذه الدول. بالتالي، هم يريدون أيضًا الإفلات من العِقاب – أي دول الغرب الجماعي.
مايا رزق: بالعودة إلى علاقة نتنياهو بأمريكا، معك بروفسور. دائمًا كنا نتحدّث قبل قليل عن أن البعض يقول بأن نتنياهو هو صناعة أمريكية. الإنجيليون في أمريكا – المسيحيون الإنجيليون – يقولون، وخصوصًا اتحاد المسيحيين الإسرائيليين، يصفون نتنياهو بأنه "حامي إسرائيل حتى تتحقّق النبوءة". كما كان دعمهم حاسمًا لبقاء نتنياهو في السلطة طيلة هذه الفترة. برأيك؟
باري تراكنبرغ: أعتقد أن العلاقة أكثر تعقيدًا. لست أعتقد أن إسرائيل ربما تمتلك علاقة من طرفٍ واحد، أو أن الفائدة أو أن المصلحة تخدم طرفًا واحدًا. أعتقد أن هذه العلاقة عميقة، وهي تخدم كلا الطرفين.
وبالتالي، أن هذا الدعم غير المشروط الذي توفّره الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل يسمح لعددٍ من القادة أو المسؤولين بالحفاظ على مسؤوليّاتهم ومناصبهم.
وأعتقد أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتاج لإسرائيل. وهذا الأمر مُثْبَت على المستوى التاريخي والسياسي. إسرائيل قامت بالأعمال القَذِرَة التي لم تتمكّن الولايات المتحدة الأمريكية من القيام بها في المنطقة.
وبالتالي، في الوقت عينه، إسرائيل بحاجةٍ للغطاء الذي توفّره الولايات المتحدة الأمريكية على المستوى الدولي. هي بحاجةٍ أيضًا للدعم المالي والنقدي والعسكري الأمريكي. إذاً، هي بحاجةٍ لهذا الدعم، هي بحاجةٍ لهذا الغَطاء.
مايا رزق: سيّدة عايدة، صحيفة "The Marker" الاقتصادية الإسرائيلية تشير إلى دراسة عن تفشٍّ غير مسبوق للفساد في حكومة بنيامين نتنياهو.
إذا نحن نتحدّث عن مجرم، عن ديكتاتور، وفاسِد أيضًا، وبارِع في الإفلات من القضاء.
كيف يفعلها في الداخل الإسرائيلي في ما يخصّ – حتى الآن – الإفلات من المحاكم الإسرائيلية؟
عايدة توما: فقط قبل أن أجيب على السؤال، أودّ الإشارة – بالنسبة لما قاله الدكتور باري – بأنه عمليًّا يجب أن نتذكّر الخطاب الذي ألقاه نتنياهو في خِضمّ الحرب في الكونغرس الأمريكي، عندما قال بشكلٍ واضحٍ للأمريكيين: «نحن جنودنا، أبناؤنا، يشنّون الحرب عنكم في منطقة الشرق الأوسط».
وهذا هو الدور الحقيقي الذي تلعبه إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط: موطئ قدم للولايات المتحدة، والشرطي الذي يحافظ على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.
بالنسبة للإفلات من العِقاب، أولًا، مهمّ أن نقول أن هناك عددًا غير مسبوق – ليس فقط نتنياهو الذي تُجرى تحقيقات بشأنه بالنسبة للفساد – هناك أيضًا وزراء آخرون، ووزيران يتمّ الآن التحقيق معهما حول قضايا فساد واستغلال أموال جمهور ورشاوى وما إلى ذلك.
كما أن الناس الذين يتعرّضون للتحقيق الآن والمُلاحقة القضائية في حكومة نتنياهو لم يكن له مثيل في السابق في أيٍّ من الحكومات السابقة.
أنا أذكر أن رابين قدّم مرة استقالته كرئيس حكومة لأنهم اكتشفوا أن زوجته – أيام ما كان ممنوع أن يكون لها حساب بنكي في دولةٍ أجنبية – فيه مئة دولار. وعلى ضوء ذلك، قدّم استقالته رابين وقتها لأن الجمهور لم يتقبّل الفكرة.
الآن، يتمّ التحقيق مع نتنياهو ومع موظّفين داخل مكتبه على قضايا أهمّ من ذلك بكثير.
نتنياهو يُماطِل في عملية المحكمة بادّعاء أن الدولة في حرب، وبالتالي هو لا يستطيع أن يُفرّغ كل أيامه للظهور أمام المحكمة.
الأمر سيكون من ناحية أخرى – أنتِ لفتِّ وعدّدتِ كيف تتمّ السيطرة على الأجهزة داخل الدولة – هو سيطر على الجهاز القضائي إلى حدٍّ كبير، حتى ولو لم يقم بتعيين جميع القضاة.
=ولكن المُلاحقة التي يتعرّض لها القضاة، والتعيينات التي تتمّ حديثًا – وهي بناءً على الولاء لسياسات نتنياهو – تجعل كل قاضٍ، التسامُح الذي كان في إدارة محكمته، وكل مرة يُقدّم طلبًا لتأجيل المحكمة، القضاة يتجاوبون معه.
أنا أعتقد أن جزءًا منه أيضًا ينبع من خوف هؤلاء القضاة من التغييرات الحاصلة وسيطرة الحكومة على الجهاز القضائي.
هو يستعمل كل الأدوات أيضًا لهدفه الشخصي: للهرب من المحاكمة، ومحاولة إطالة الأمر كي يتسنّى له.
ويتمّ الحديث الآن عن أن أجزاء من الجمهور بدأت ترى أن الخلاص من الوضعيّة الحالية هو في أن يُقدّم رئيس إسرائيل – رئيس دولة إسرائيل – العفو لنتنياهو، بحيث يكون الشرط أن يعزل نفسه عن الحياة السياسية.
بمعنى: هو يستغلّ كل الإمكانيات، يؤجّل ويُماطل في المحاكم، ويُسوّف، يُخيف القضاة من ناحية أخرى، ويُسلّط على رقابهم أيضًا عداوة الجمهور، وأيضًا السلطة الإدارية من تعيينٍ ومن تشهير وما إلى ذلك.
وبالإضافة، يتمّ الضغط باتجاه أن تكون هناك صفقة، يحاولون من خلالها إما ألا يُسْجَن، أو أن يقوم رئيس الدولة بمنحه العفو تحت شعار "إنقاذ الدولة" في هذه المرحلة.
لذلك، هو يناوِر ويلعب بكل الخيوط معًا في محاولة للخلاص الفردي، ومن ناحيةٍ أخرى لإطالة فترة حُكمه، ووضع حقائق على الأرض، حتى عندما – إذا – في حال للخلاص، استقالة من عمله أو تنحّى عن السياسة، يكون قد وضع عثرات لا يمكن تجاوزها في ما يتعلّق بالحل السياسي مع القضية الفلسطينية.
مايا رزق: بروفسور باري، انطلاقًا مما تفضّلت به سيّدة عايدة، كل هذه الحقائق، وبرغم ذلك، نتنياهو مازال مُرحَّبًا به في الولايات المتحدة الأمريكية. ليس الآن فقط، نحن نتحدّث عن عقودٍ من العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية ونتنياهو تحديدًا.
الرؤساء في البيت الأبيض ونتنياهو بالتحديد: من كلينتون إلى ترامب، بطبيعة الحال اختلفت المواقف، كان يُسْتَقْبل ببرودة حينًا، وبحفاوة أحيانًا كثيرة أخرى.
أخبرنا أكثر عن هذه العلاقة، ومع أيّ رئيس كانت العلاقة أقرب أكثر؟
باري تراكنبرغ: إن العلاقة التي تجمع نتنياهو بالبيت الأبيض هي علاقة غريبة وغير تقليدية.
إن إدارة كلينتون كانت قريبة جدًّا من رابين، وكانوا قريبين جدًّا من التوصّل لاتفاق وصفقة. وبالتالي، هذا الأمر فشل بسبب رفض كلا الطرفين – أي الإسرائيليين والأمريكيين – الاعتراف بحقوق الفلسطينيين فيما يتعلّق بإنشاء الدولة الفلسطينية.
وبالتالي أيضًا، قضية اتفاقات أوسلو كانت بالغة الأهمية. بناء هذا (الدولي) لنظام الفصل العنصري الذي تَنامى وأصبح أكثر صلابة اليوم أيضًا شكّل مشكلة. نحن نرى اليوم جدارًا يُبنى يحيط بالضفة الغربية.
وبالتالي، هذه العلاقة تأثّرت بالكثير من المحطّات، كما قلنا، وكانت علاقة معقّدة وتواجه الكثير من الصعوبات، لاسيما تحت ولاية نتنياهو.
ولكن اضطرّ كل الرؤساء الأمريكيين – كل الرؤساء الذين تعاقبوا على البيت الأبيض – على ربما تعزيز هذا التعاون أو تعزيز هذا الولاء لإسرائيل.
أوباما مثلاً كان يمتلك علاقة متوتّرة جدًّا مع نتنياهو، لاسيما في ما يتعلّق بالصفقة التي توصّل إليها أوباما مع إيران. نتنياهو كان مُعارضًا لعددٍ من البنود، ولكن تمكّن أوباما من التغاضي عن هذا التعارُض، أو ربما تمرير هذه الصفقة بالرغم من هذه المعارضة.
ولكن بالرغم من كل هذه التوتّرات أو العقبات التي واجهت كلا الطرفين، يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد سياسة عينها في ما يتعلّق بإسرائيل بشكلٍ شامل: هي تريد حماية إسرائيل والدفاع عن مصالحها.
وبالتالي، اليوم ما نراه مع دونالد ترامب هو أمر مُثير للاهتمام. وبالتالي، على عكس ما حصل مع الرؤساء الأمريكيين السابقين، يبدو أن الرئيس ترامب لا يمتلك أية أيديولوجية خاصة، ويحاول أن يستغلّ منصبه.
وأعتقد أن المسؤولين الذين يُحيطون به أيضًا يحاولون استغلال هذه المناصب، ويحاولون استغلال هذه السلطة وهذا النفوذ في سبيل الاستفادة من هذه المُقدّرات الأمريكية.
وإذا ما استمرّت إسرائيل بخدمة مصالح ترامب، أعتقد أنه سوف يستمر بدعمها بشكلٍ غير مشروط.
مايا رزق: إذاً، هذه ربما تكون العلاقة بين نتنياهو وبين عدد من الرؤساء في أمريكا: الكثير من التجاذُبات.
ولكن ماذا، أستاذة عايدة، عن علاقة نتنياهو بعددٍ من القادة العرب، خصوصًا بعد موجات التطبيع المُتتالية؟ كثير منها ربما يبقى تحت الطاولة ومخفي؟
عايدة توما: هذه أيضًا واحدة من الأمور البارزة في عمل نتنياهو. نتنياهو بالنسبة له عملية التطبيع مع العالم العربي قضية هامة جدًّا، له لأنها أولًا تشكّل طريقًا التفافيًّا على القضية الفلسطينية.
هو يريد أن يَدْحَض المقولة بأن القضية المركزية داخل الشرق الأوسط هي القضية الفلسطينية، وأنه لا يمكن الحصول على وضع سلام واستتباب للأمن من دون أن تُحلّ قضية الشعب الفلسطيني، وأن يحصل على حقوقه كاملة، بما في ذلك حقّه بتقرير مصيره.
هو يريد أن يَدْحَض هذا عن طريق بناء علاقات مع العالم العربي تشكّل له التفافًا وتجاوزًا للقضية الفلسطينية، لأن هدفه المركزي هو قتل أية إمكانية لحلّ القضية الفلسطينية.
حتى التفكير بحلّ الدولتين بالنسبة له مرفوض وغير وارد، بالحسام ورأينا قرارات الحكومة في حرب الإبادة.
ولكن أيضًا فيما يجري في الضفة الغربية، هو من ناحية يحاول أن يُطبّع العلاقات مع العالم العربي – وسوف آتي على ذلك – ولكن أيضًا يرتكب الجرائم في الضفة الغربية.
والآن أقرّوا خطة للبناء في منطقة E1 التي تقطع أوصال الضفة، وقال سموتريتش بأنها تقضي على إمكانية إقامة الدولة الفلسطينية.
بالمقابل، للأسف، نرى أن هناك مَن هو مُستعدّ – في الوقت الذي تتمّ فيه حرب إبادة – مُستعدّ أن يناقش فكرة التطبيع في العالم العربي.
وبعض الأنظمة العربية – في الوقت الذي يجب أن يكون فيه العالم ينبذ حكومة نتنياهو – وبعض الأنظمة العربية تريد أن تحتضن حكومة نتنياهو.
هناك أمر غير قابل للتفسير ولا للفَهْم في هذه المعادلة. عملية محاولة الحديث عن أن بعض الدول لا تريد أن تُطبّع سوى بعد قيام الدولة الفلسطينية. نحن نعلم بأن هناك اجتماعات وهناك لقاءات وهناك مفاوضات تتم.
وهناك من أيضًا، في اليوم الذي دخل فيه إلى الحُكم في سوريا، قال النظام أنه لا يرى في إسرائيل عدوًّا – إسرائيل التي تحتلّ الجولان، وإسرائيل التي ترفض التخلّي عن الجولان، وتريد ضمّ الجولان، وتصول وتجول وتضرب حتى في داخل دمشق – وهي ليست عدوّة.
إذًا، عمليًّا، مايا، بالنسبة لنتنياهو، هذا عمل وحُلم هو يريده.
ولكن المشكلة ليست في نتنياهو بأنه يريد ذلك. برأيي، المشكلة الأساسية في أنظمة عربية مازالت مُستعدّة – تحت أنف أهالي غزّة ومقتل أطفال غزّة – مازالت مُستعدّة للنقاش حول متى يتمّ التطبيع، وكيف يتمّ التطبيع.
مايا رزق: للأسف، في ختام هذه الحلقة، أذهب معك، بروفسور باري، إلى عنوان في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية التي عنوَنت: «نتنياهو، المسكون بجنونه الحربي وهَوَسه بالبقاء في السلطة، سيحترق في النهاية».
هكذا كتبت ألكسندرا هنا، مُتسبّبًا في أضرار بشرية وسياسية لا تُحصى، من دون أن يتمكّن أحد من وقفه.
إذًا، هكذا تتوقّع هذه الكاتبة في الصحيفة الفرنسية نهاية نتنياهو.
بروفيسور باري، أنت كمؤرِّخ، ماذا يمكن ربما أن تتعمّق في التاريخ وتأتي لنا بنهاية لشخصية مثل نتنياهو؟ ربما كان هناك مثيل لها في التاريخ، كيف انتهت؟
باري تراكنبرغ: من الصعب جدًّا أن نتوقّع نهاية الأمور، أو ربما مآل الأمور، أو ربما أيضًا نهاية القادة، لاسيما من وجهة نظر تاريخية.
ولكن يمكنني القول إنه عندما نرى سقوط هذا النوع من الأنظمة، هذه الأنظمة تسقط بسبب المعارضة الداخلية، لاسيما ما إذا أصبحت هذه المعارضة صلبة، وأيضًا إذا ما عزّزت هذه المعارضة بصمود الفلسطينيين الذين يرفضون الموت.
بكل بساطة، هم يرفضون الموت، يرفضون المجاعة المفروضة، يرفضون هذه الإبادة باللحم الحيّ، ويواجهونها باللحم الحيّ أيضًا.
إذا ما دخلنا إلى الساحة الإسرائيلية، نرى بعض المعارضة التي تتوسّع، ونرى =بعض التظاهرات الحاصلة أيضًا، أو التي يتمّ تنظيمها أيضًا.
على الساحة الدولية، نرى انتقادات واسعة، ومعارضة واسعة، وتنديداً واسعاً يطال هذه الإبادة الحاصلة. نحن نرى انتشارًا لهذه المعلومات وهذه النبرة عبر وسائل الإعلام. وأعتقد أن هذه العوامل التي سوف تقلب الطاولة على نظام نتنياهو.
لست أعلم متى سوف يسقط هذا النظام، ولست أعتقد ما هي التداعيات التي سوف يتركها هذا السقوط. ولكن أعتقد أن هذا السقوط أمر محتوم. لست أعلم متى سوف يحصل، ولكنه أمر لا يمكن تفاديه. وهو يتأثَر بما يحصل على الساحة الإنسانية، وأيضًا بعوامل داخلية، إن كان في الداخل الفلسطيني أو أيضًا في الداخل الإسرائيلي.
يجب على كل من المعارضة الفلسطينية والإسرائيلية أن يتعاونا في سبيل إنهاء هذا العنف، وأيضًا إنهاء هذه الإبادة الحاصلة.
مايا رزق: سيّدة عايدة، هناك مَن =يقول بأن أفول نتنياهو ربما يكون مُشابهًا لما حصل مع هتلر. أية خيارات لوقفه؟ وأية نهاية برأيك؟
عايدة توما: قبل كل شيء، أدعم =ما قاله السيّد باري. حتى الآن، لا توجد معارضة جدّية داخل إسرائيل. وهذه المعارضة التي تسمّي نفسها معارضة هي شيء هشّ وهزيل، ولا يملك حتى القوّة للقيام بشكل جدّي بعزل نتنياهو.
نتنياهو يجب أن يدفع ثمن الجرائم التي يرتكبها الآن. =وحتى لو تمّ عزله عن الحُكم في إسرائيل من خلال انتخابات أو من خلال اصطفافات داخلية، يجب أن تتمّ محاسبته في العالم =على ما ارتكبه من جرائم ومن حرب إبادة، هو ومَن معه.
لأنه في النهاية، هو يشنّ حرب إبادة على الشعب الفلسطيني، ولكنه أيضًا يشنّ حرب إبادة على القانون الدولي والقِيَم الإنسانية العالمية.
ويجب للعالم أن يستعيد هذه القِيَم ويستعيد قيمتها، وإلا غرقنا في عالم تحكمه القوّة العسكرية وانعدام الأخلاقيات.
مايا رزق: شكرًا جزيلًا لك، أستاذة عايدة توما، عضو القائمة المشتركة عن الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، كنت معنا من عكا.
الشكر أيضًا موصول لك، الأكاديمي والمؤرّخ الأمريكي باري تراكنبرغ، كنت معنا من كارولاينا الشمالية.
وإلى هنا نكون قد وصلنا إلى خِتام هذه الحلقة من "اذهب أعمق".