غزة انتصرت في نيويورك

من أحياء الكوينز إلى مبنى البلدية… شابٌ مسلمٌ ثلاثيني يهزّ قلبَ نيويورك. زهران ممداني، الاشتراكي المناهض للرأسمالية والاستعمار، يحقق فوزاً غير مسبوق في عقر دار المؤسسة الأميركية، بعد حملة رفعت صوت الشباب والمهمشين والمهاجرين، وتحوّلت إلى موجة سياسية اكتسحت الجمهوريين والديمقراطيين معاً. فوزٌ يصفه بيرني ساندرز بـ"أخطر انقلاب سياسي حديث"، بعدما تحدّى ممداني اللوبي الصهيوني ووول ستريت… وانتصر. حلقة تتعمّق في دلالات هذا التحوّل: كيف أصبحت انتخابات نيويورك استفتاءً لأميركيين يريدون استعادة مدينتهم؟ وكيف أعادت غزّة رسم مزاج الناخبين؟ وهل يشكّل صعود ممداني بداية تغيير حقيقي أم مجرد ومضة في واقع أميركي معقّد؟ هنا تبدأ معركة "عمدة الغلابة" في مواجهة الأوليغارشية… فهل ينجح في تحويل وعوده إلى سياسة؟

نص الحلقة

 

بيار أبي صعب: مساء الخير. مَن كان يصدّق أن هذا الشاب الثلاثيني المسلم الآتي من أحياء الكوينز سيصبح عمدة نيويورك. اشتراكي معادٍ للرأسمالية والاستعمار يفوز في عقر دار الرأسمالية الاستعمارية. مَن كان يتوقع أن حملة زهران ممداني الهادفة في الأساس إلى إيصال صوتٍ مختلف، صوت الشباب والمهمّشين والمهاجرين ستتحوّل إلى موجةٍ عارمة تكتسح رموز "الاستبلشمنت" من جمهوريين وديموقراطيين. أخطر انقلابٍ عرفه التاريخ الأميركي الحديث، علّق السيناتور بيرني ساندرز "لقد تجرّأ ممداني على مقارعة اللوبي الصهيوني وتحدّى وول ستريت وفاز". هذا المهاجر الهندي الأوغندي لم يكتفِ بتحقيق إنجازٍ انتخابي فريد، بل أطلق نقاشاً يتجاوز حدود أميركا حول أزمة الديموقراطية الغربية وإعادة تحديد اليمين واليسار ومفهوم العدالة الاجتماعية وآفاق التغيير. كيف تحوّلت انتخابات نيويورك إلى استفتاءٍ لجيلٍ كامل يريد استعادة مدينته؟ إلى أي مدى غيّرت غزة أميركا والعالم؟ هل هي نسمة منعشة في جحيم الترامبية أم حلم ليلة خريف سرعان ما ستبدّده وعورة الواقع؟ كيف سينجح زهران ممداني في تحقيق وعوده الانتخابية والأخذ من الأغنياء لإنصاف الفقراء؟ المعركة الفعلية ستبدأ أول العام، فكيف سيقف عمدة الغلابة ليواجه الأوليغارشية الجبّارة؟ 

للإجابة عن هذا السؤال وسواه معنا في الاستوديو الكاتب والخبير في الشؤون السياسية الأستاذ صالح أبو عزة، ومن كاليفورنيا أستاذ العلوم السياسية والكاتب البروفيسور أسعد أبو خليل، أهلاً بضيفينا وأهلاً بكم أعزائي المشاهدين في هذه الحلقة الجديدة من "على محمل الجد". أستاذ صالح كيف تنظر إلى هذا الزلزال الذي ضرب الطبقة السياسية في الولايات المتحدة بصعود شاب من خارج الاستبلشمنت، كل ما فيه يجسّد نقيض العقيدة الترامبية بل ونقيض الأداء الرسمي لحزبه الديموقراطي. 

 

صالح أبو عزة: تحيّة لك أستاذ بيير والتحية للأستاذ أسعد ولكافة المشاهدين الكرام. لا شك أننا اعتدنا عبر تاريخ الولايات المتحدة عبر سياسات حزبية متمثّلة بالجمهوري والديموقراطي داخل الولايات المتحدة وخارجها، وتداعيات سياساتها الداخلية والخارجية على العالم وخاصةً منطقتنا العربية والإسلامية بأنها عنوان الإمبراطورية الاستعمارية التي تضع الصهيونية في مقدمة تحرّكاتها السياسية. هذه الفكرة الأساسية انطوت على سياساتٍ داخلية جعلت من إسرائيل أولاً حتى داخل الولايات المتحدة، وخارجها، فلذا وصْف زلزال، أن يصعد هذا الشاب ليكون عمدة نيويورك أهم مدينة سياسية واقتصادية، أهم مدينة يعيش فيها اليهود كديانة ويحصل على ثقة هؤلاء اليهود. أدق وصف يمكن أن يُطلق على ذلك هو ما وصفته بأنه زلزال. طريقة الديمقراطية الأميركية عليها كثير من الملاحظات لدى القانونيين، حينما يتمّ نقاش نظام الحزب الواحد، نظام الحزبين، نظام الأحزاب المتعددة، استطاع رأس المال واللوبيات الصهيونية الحاكمة استطاعت أن تسيطر على مَن يستطيع الصعود إلى رئاسة البلدية وصولاً إلى رئاسة الولايات المتحدة. لدينا بين 18 ألف إلى 20 ألف بلدية في الولايات المتحدة، تشهد هذه البلديات على امتدادها صراعاً أساسياً لتبقى اللهجة الاستعمارية هي اللهجة السائدة داخل الولايات المتحدة، الديمقراطيون والجمهوريون، فلذا خروج ممداني من رحم الديموقراطية.

 

بيار أبي صعب: لا يشبه أحداً منهم، حتى منافسه بالحزب الديموقراطي لا يشبهه بشيء. 

 

صالح أبو عزة: صحيح، استطاع ممداني أن يجعل أعداءه مشتركين ما بين الجمهوريين والديموقراطيين، جزء من الديموقراطيين وجزء من الجمهوريين، صبّ بقوةٍ من أجل خسارته في نيويورك. 

 

بيار أبي صعب: ترامب دعم الديموقراطي.

 

صالح أبو عزة: هي خسارة مدوية ارتداداتها لم تتوقف عند حدود نيويورك والولايات المتحدة وإنما تعدّتها وصولاً إلى فلسطين. فلذا حتى تفاعُل العالم العربي والإسلامي بنجاحه باعتقادي هو تفاعل جيد، والنقطة الأهم أن المسألة الطائفية لم تحكم الموقف منه بقدر موقفه من القضايا العادلة حتى في الداخل الأميركي. 

 

بيار أبي صعب: سنعود إلى المسألة الفلسطينية معك بعد قليل. دعنا ننتقل إلى كاليفورنيا، أستاذ أسعد أبو خليل أهلاً بك مجدداً. كثيرون اعتقدوا أن هذا اليوم لن يأتِ أبداً، هذا ما قاله زهران ممداني لجمهور المحتفلين في خطاب النصر. لو سُئلتَ قبل عام مثلاً هل كنت تتوقع مثل هذا الانقلاب في مدينة نيويورك، عمدة اشتراكي مسلم يريد تطبيق العدالة الاجتماعية في عاصمة الرأسمالية العالمية؟ ماذا كنتَ ستجيب؟

 

أسعد أبو خليل: قطعاً لا، لم يكن بالإمكان صعود ممداني من دون حدوث طوفان الأقصى. تغيّرت كل المعادلات والأمزجة حول العالم خصوصاً في الدول الغربية وخصوصاً بين اليهود. نتذكّر الخلفية الديموغرافية للذين صوّتوا لممداني، نتذكر أولاً أنه حاز على نسبة خمسة وسبعين بالمئة من التصويت الشبابي في المدينة أي بين 18 و29، مستقبل الحزب الديمقراطي هو مع ممداني وليس مع قادة الاستبلشمنت في الحزب الديمقراطي بمَن فيهم رئيس الأقلية في مجلس الشيوخ تشارلز شومر الذي هو زعيم الحزب الديمقراطي في الكونغرس. الأمر الآخر أنه استطاع أن يخرق الجالية اليهودية، ثلث اليهود في نيويورك صوّتوا لهذا الرجل بالرغم من كل حملات التخوين والتصوير الظالم بأنه معادٍ لليهود، والنسبة بين اليهود تزيد عن 30 بالمئة، لو احتسبنا الخلفية الشبابية للمقترعين، هذا نتاج التغيير الذي حدث بعد طوفان الأقصى. كل المدن الغربية الكبرى خلافاً لمدن العالم العربي والإسلامي هبّت هبةً واحدة، الشباب لم يعد يتحمّل رؤية ما يجري في غزة، واليوم اطلعتُ على استطلاعٍ جديد في الفايننشال تايمز عن توجّهات الحزب الديمقراطي، تخيّلوا أن نسبة التعاطف مع الفلسطينيين في غضون سنوات قليلة ارتفعت من نحو خمسة عشر بالمئة إلى ستين في المئة، يعني النظرة إلى إسرائيل أكثر سلبيةً من النظرة للفلسطينيين، هذا أمر غير مسبوق. أيضاً يجب أن نتذكّر أن عمدة نيويورك هو غير عمدة أي مدينة أخرى ليس في أميركا فقط بل في العالم، دائماً نحن نعرف أسماء عمدة نيويورك، عندما أتيتُ إلى أميركا كنتُ أعرف اسم عمدة واحد وهو إيد كوتش عمدة مدينة نيويورك لأنهم ينخرطون في السياسة الخارجية وينخرطون دوماً لصالح إسرائيل. مثلاً السيء الذكر إيد كوتش أتذكره في 1982 لأنه أتى للترفيه عن الجنود الإسرائيليين عندما كانوا يحرقون لبنان، تصوّر أنه منذ بدء إقامتي في أميركا في 1983 إلى الآن أصبح لدينا عمدة ليس فقط اشتراكي بل مناصر من دون أي تحفّظ للقضية الفلسطينية، هذا سيعيد الحسابات وهناك حالة زعر من قبل اللوبي لأنهم أنفقوا الملايين، نحو 27 مليون إلى 30 مليون أُنفقت لتشويه صورة هذا الشاب الذي لا يتورّع عن تقديم نفسه بأنه اشتراكي ومناصر القضية الفلسطينية، ويريد أن يلقي القبض على مجرم الحرب نتنياهو.

 

بيار أبي صعب: أستاذ أسعد هناك مَن يقول إن نيويورك لا تعبّر عن الولايات المتحدة بينما أنت تقول إن هذا مؤشّر لتغييرات عميقة تحصل في المجتمع الأميركي.

 

أسعد أبو خليل: بالتأكيد، إذا استطعتَ أن تأتي بممداني عمدةً لمدينة نيويورك فأنت تستطيع أن تأتي بجورج حبش عمدةً لمدينة سان فرانسيسكو أو لوس أنجلوس لأن نيويورك هي الأكثر صهيونيةً وتحفظاً بين كل المدن واللوبي الصهيوني يعوّل عليها كثيراً. نحن نعرف كل أسماء عمداء نيويورك عبر السنوات وكلهم كانوا مؤيدين لجرائم الحرب الإسرائيلية، ويأتيك هذا الرجل الذي بدأ شاباً بالتعاطف مع قضية فلسطين. أنا تعرفتُ على هذا الرجل في 2013 عندما دعيتُ من قبل نادي "طلاب من أجل العدالة في فلسطين" بجامعة بودوان التي كان يدرس فيها، وكانوا ينظّمون على مدى شهر كامل في آذار سلسلة من المحاضرات عما يسمّى شهر تنظيم ندوات من أجل تذكُّر الأبارتايد في إسرائيل، وكان من أبرز الناشطين في حينه.

 

بيار أبي صعب: تجدر الإشارة إلى أن والده محمود ممداني ووالدته ميرا نايير هي سينمائية هندية معروفة ، وبالتالي هذا له أثر. برز المرشح زهران ممداني بانحيازه الواضح والصريح للقضية الفلسطينية كما تفضّل الأستاذ أسعد وبإدانة الإبادة في غزة والتواطؤ الرسمي الأميركي، فهل سيبقى على الموقف الواضح نفسه بعد انتخابه عمدةً لنيويورك؟ نستمع إلى إجابة الأكاديمي والناشط الفلسطيني عصام اليماني في تورونتو.

 

عصام اليماني: هنالك من الوقائع والمعطيات التي تجعلني أعتقد بأن ممداني لن يتنازل في مواقفه التي اتّخذها من القضية الفلسطينية للأسباب الثلاثة التالية، أولاً ممداني متأثر، هو ابن البيئة الاجتماعية الضيّقة، والده ووالدته لديهم منذ القدم موقفاً مؤيداً للقضية الفلسطينية ومحاربة الاستعمار. الموضوع الثاني هو تاريخه كشاب في الجامعة ونشاطه حيث كانت القضية الفلسطينية محور هذه النشاطات. الموضوع الثالث أنه نجح بحكم تبنّيه لهذا الموضوع وتأييده للقضية الفلسطينية، لا أقول بأن جميع مَن انتخبوه مؤيدين للقضية الفلسطينية أو أنهم انتخبوه لهذا السبب، فالتنازل عن هذا الموقف سيكون صعباً إن لم يكن مستحيلاً بتقديري، لكن ما يمكن أن يحدث أن لهجته في خطابه السياسي وهو رئيس بلدية نيويورك ربّما يتراجع ولا يكون بنفس الكثافة التي كان عليها قبل الانتخابات باعتبار أنه سيركّز في المستقبل القريب على تنفيذ البرنامج الانتخابي الطموح الذي طرحه والمتعلق بقضايا العدالة الاجتماعية. بتقديري أن برنامجه كان طموحاً لدرجة أنه من غير الممكن تحقيقه في مدينة مثل نيويورك مركز المال والأعمال. ما يمكن أن يحدث فيما يتعلق بموقفه من القضية الفلسطينية هو أن يتراجع في حدّة خطابه أو تكرار خطابه فيما يتعلق بفلسطين وما يحدث فيها باعتبار أنها لن تكون الأولوية أثناء ولايته لبلدية نيويورك، في أفضل الأحوال ما يمكن أن يتراجع عنه هو انتقاله من موقف الدولة الواحدة إلى موقف حل الدولتين. 

 

بيار أبي صعب: أستاذ صالح أبو عزة حُكي كثيراً عن دور غزة المرآة التي أظهرت للشعب الأميركي إجرام الأنظمة المتعاقبة والإدارات المتعاقبة التي حكمت أميركا والمتواطئة في الإبادة خلال عامي إبادة في غزة، والأستاذ أسعد أبو خليل قال قبل قليل إنه لم يكن ممكناً انتخاب ممداني لولا طوفان الأقصى. ما رأيك؟ هل غزة من العوامل الأساسية التي حملته إلى بلدية نيويورك؟ 

 

صالح أبو عزة: دعني أنطلق من بوابة الحرب على غزة وصولاً إلى أهمية انتخابه ما بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة. الولايات المتحدة اتخذت موقفاً واضحاً بدعم إسرائيل بشكلٍ كامل في حرب الإبادة الجماعية على غزة، الديمقراطي والجمهوري بكلا الاتجاهين كان ذات المستوى من الدعم الشامل، الدعم السياسي والعسكري والمالي وغيره. لم تستطع إسرائيل تحقيق أهدافها في قطاع غزة، وفي ذات الوقت عانت إسرائيل عزلةً دولية حقيقية مرتبطة برأي الشعوب وخاصةً الشعوب الغربية والأميركية، لماذا ذهبت إسرائيل إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة؟ إحدى الأسباب الأساسية هي قناعة ترامب بأن إسرائيل إذا ما حققت إنجازات عسكرية أو أمنية محددة في هذه المنطقة أو تلك ولكنها ستخسر في ترجمة ما حصل إلى أهداف سياسية أو أن تجني أرباحاً سياسية، وفي ذات الوقت بدأت تخسر الشارع الغربي، وما يستمع إليه ترامب في الداخل الأميركي دفعه لأن يذهب باتجاه آخر. إسرائيل بدأت تخسر في أهم حصونها الاستعمارية داخل الولايات المتحدة، من هنا نعرف قيمة لماذا فاز زهران ممداني، لا يمكن فصل ما حصل في قطاع غزة عن فوزه، بمعنى أنه لو كنا أمام مرشحيْن بنفس البرنامج السياسي أو الاقتصادي المتعلق بالضرائب والإيجارات وغيره، وكان هذا الرجل موافقاً على الإبادة الجماعية في غزة، ولكن الآخر مؤيد للفلسطينيين ومعارض للإبادة الجماعية، ويعتبر أن معاداة الصهيونية ليست هي ذاتها معاداة السامية، فمَن سينتخب أهالي نيويورك؟ باعتقادي سينتخبون زهران ممداني وهذا ما حصل. النقطة الثانية أنه لا يمكن فصل المواقف السياسية التي يُطلقها أي مرشح أميركي عن تاريخه، فلذا لا يمكن تسليط الضوء حتى بارتباط ممداني بالقضية الفلسطينية في فترة الإبادة الجماعية الإسرائيلية الأميركية في قطاع غزة، بمعنى أنه حين كان طالباً مدرسياً أو جامعياً كان مؤيداً للقضية الفلسطينية ويكتب مقالات في سن الخامسة عشر والسادسة عشر، وبالتالي هذا امتداد، هو لديه محطات، هذه المحطة الأولى الانتماء للفلسطينيين ومظلوميتهم، المحطة الثانية مرتبطة بانتمائه لحملة المقاطعة ثم الوقوف بوجه الإبادة الجماعية. وكل ذلك مترابط عضوياً مع مواقفه في الداخل الأميركي في نيويورك مع الفقراء، مع العمال، مع العدالة الاجتماعية، نحن لا زلنا ضمن نفس الرؤية. المسألة الأهم أنه علينا ألا نفصل بين ما هو متعلق بمظلومية الشعب الفلسطيني وبين القضايا الأخرى المحقّة والعادلة، هي جزء من منظومة شاملة، لا يمكن أن تذهب باتجاه موقف جيّد من الفقراء، من المستضعفين دون نظرة إيجابية أيضاً بذات المستوى من القضية الفلسطينية. 

 

بيار أبي صعب: أستاذ أسعد تعرف الولايات المتحدة بأدق تفاصيلها وذلك منذ زمنٍ طويل، كيف بات من الممكن لمرشحٍ لا يدعم إسرائيل ولم ينل رضا اللوبي الصهيوني، بل أكثر من ذلك تحدّى هذا اللوبي جهاراً وبشكل ٍمباشر أن يفوز بانتخابات مهمة في مدينة تضمّ أكبر عددٍ من اليهود في العالم؟ أعرف أنك تناولتَ هذا الموضوع قبل قليل ولكن نكتشف لاحقاً أنه حصل على أكثر من 30 في المئة من أصوات اليهود، أخبرنا عن هذا التغيُّر.

 

أسعد أبو خليل: منذ أن أتيتُ إلى أميركا في 1983كان مزاج الرأي العام الأميركي مناصراً بالكامل لإسرائيل، ونسبة تأييد القضية الفلسطينية كانت تتراوح بين 10 و12 في المئة وأكثر من 65 أو 70 % لجهة إسرائيل، وكانت أكثر قواعد تأييد إسرائيل الأعمى في المدن الليبرالية الشاطئية الكبرى: لوس أنجلوس، واشنطن، نيويورك، بوسطن. منذ الثمانينيات بدأت القواعد الصلبة لللوبي الإسرائيلي تتغيّر فأصبحت القاعدة الأساسية هي في الحزب الجمهوري في الجنوب ومن قبل المعمدانيين. هذا الأمر هو جديد، بينما في الحزب الديموقراطي هناك حالة ابتعاد بطيئة كانت تجري منذ سنوات، لكنها تفجّرت بالكامل في العشر سنوات الماضية بسبب ظهور إسرائيل بصورتها الحقيقية المتوحّشة وأنها تتسبّب بالحروب، وهي التي تجرّ الولايات المتحدة إلى قلاقل وحروب في المنطقة. بعد طوفان الأقصى يبدو وكأنّ القطيعة قد حصلت بين الحزب الديمقراطي وإسرائيل. أقول لك إن أهم ما يجري في أميركا ليس في الحزب الديموقراطي لأن المعارضة الديمقراطية جبانة باستثناء هذا الرجل الشاب ممداني، لكن بشكلٍ عام القيادة في الحزب الديمقراطي جبانة لا تستطيع أن تعارض بقوة، لم يكن لترامب أن يحوز على هذه السلطات خارج الدستور لو لم تكن المعارضة في الحزب الديمقراطي ضعيفة لهذه الدرجة، لكن الحزب الديمقراطي في السنتين الماضيتين بات يرى أن هناك تناقض بين كل القيم الليبرالية الديمقراطية وبين مناصرة إسرائيل خصوصاً وأن نتنياهو جعل قضيّته ملتصقة بالحزب الجمهوري واليمين، وفي داخل الحزب الجمهوري في السنتين الماضيتين حتى في داخل الجهة المتطرّفة التي تسمّى أميركا أولاً هناك جهة تتنامى في القوة والنفوذ، تاكر كارلسون، كانداس أوينز وغيرهما، هؤلاء لديهم الملايين ومن أكثر الأصوات استماعاً على يوتيوب وعلى مواقع التواصل، وهؤلاء يجاهرون بشجاعٍة نفتقرها عند بيرني ساندرز والتقدميين في الحزب الديمقراطي في انتقاد إسرائيل ليس فقط فيما تفعل في غزة وإنما في جرّ أميركا ضد مصلحتها إلى عدد من الحروب بما فيها الحرب في إيران. لكن هناك تحديان كبيران أمام ممداني، التحدي الأول هو الاستمرار في عقر العاصمة اليهودية خارج إسرائيل، هناك كثافة 1,3 مليون يهودي في نيويورك وضواحيها أكبر من التجمع اليهودي في تل أبيب وفي القدس، أن يستمر في هذه المجاهرة ضد إسرائيل. والتحدي الثاني أن لديه برنامج شديد التقدمية، برنامج اشتراكي. 

 

بيار أبي صعب: أستاذ أسعد اسمح لي أن أقاطعك لأن لديّ سؤال كامل عن الموضوع سنعود إليه بالتفصيل حول تحديات المرحلة المقبلة بالنسبة إلى ممداني، لكن ما فهمته أنه يمكن اليوم لأيٍّ كان أن يمارس العمل السياسي في الولايات المتحدة دون رعاية الأيباك وهذه بحدّ ذاتها ثورة عظيمة في السياسة الأميركية. وزير ما يسمّى بالشتات في الكيان دعا يهود نيويورك للهجرة إلى إسرائيل بعد انتخاب ممداني. 

 

أسعد أبو خليل: صحيح ولكن حسب أين، لا نستطيع أن نمتدّ من ظاهرة ممداني إلى كل المدن الأخرى لأنها ظاهرة استثنائية، شخصيته استثنائية، أيضاً لديه من المهارة في شنّ حملته الانتخابية أكثر مما رأيت من المرشحين في عدد من المدن وفي مجلس النواب وفي مجلس الشيوخ، هو شاطر بدرجة فائقة. 

 

بيار أبي صعب: فاصل قصير ونعود.

أهلاً بكم مجدداً أعزائي المشاهدين في هذه الحلقة من "على محمل الجد"، أعيد الترحيب بضيفينا الأستاذ صالح أبو عزّة في بيروت، والأستاذ أسعد أبو خليل في كاليفورنيا. نصل الآن إلى الجزء الثاني من حلقتنا مع فقرة "على محمل النقد"، إلى أي مدى سيتمكّن زهران ممداني من تطبيق وعوده الانتخابية فيما يتعلّق بالعدالة الاجتماعية؟ هل يمكنه أن يواجه المنظومة السياسية والاقتصادية في عقر دار الرأسمالية؟ هنا وجهة نظر الكاتبة والناشطة الفلسطينية جود بركات من فلوريدا، نشاهد معاً. 

 

جود بركات: بدايةً زهران ممداني يُعدّ حالةً سياسية ملفتة في أميركا تحديداً لأنه بولاية نيويورك التي نعتبرها العاصمة المالية للبلد، وهو جاء بعد استياء الشعب من الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وهذا الأمر شكّل صحوةً عند الشعب وبداية تكتّلات جديدة ديمقراطية تقدّمية تسعى لإحداث تغيير تحديداً في ملف المهاجرين والأقليات والفئات ذات الدخل المحدود. لنكن موضوعيين بعيداًعن المثالية أو المبالغة، نبدأ بحملته الانتخابية التي أصرّ فيها أن التغيير يجب أن يأتي من أسفل الهرم وليس العكس، أي أنه ليس السياسيين هم الذين يقومون بالتغييرات ويطبّقونها على الشعب، هو يؤمن بأن التغيير يجب أن يأتي من الشعب نفسه حين ينتظم ويشكّل قوة معيّنة يستطيع من خلالها مواجهة السياسيين ويطالب بحقوقه. هو لا يدّعي أنه المخلّص أو أنه ثوري، هو يؤمن بإمكانية تحويل هذه القوة الشعبية إلى أمرٍ ملموس على الأرض. بالطبع رحلته لن تكون سهلة لأنه أولاً سوف يواجه الوحش الليبرالي الرأسمالي المهيمن على كل القطاعات، الشركات الكبيرة، الإعلام، المصالح المالية، وستكون المواجهة الأكبر من الحزب الديمقراطي نفسه، الجناح الوسطي والذي عادةً ما تكون التغييرات لتي يقوم بها سطحية. أعتقد أن الملف الأصعب والأكثر حساسية الذي سيواجهه هو ملف الشرطة والأمن، وأي خطوة للتغيير هنا يجب أن تكون محسوبة وتدريجية ومنظّمة لأن المنظومة الحاكمة ستحاربه بكل الطرق من تقليص تمويل الحكومة الفيدرالية لمدينة نيويورك إلى ضغط المؤسسات والإجراءات الداخلية للمدينة. بدون تنظيم شعبي حقيقي ودعم سياسي قوي هذه المبادرات تفشل عادةً قبل أن تبدأ. رغم ذلك برأيي أنه إذا استطاع ممداني أن يحافظ على الوعود التي وعد بها الشعب فهذا الأمر قد يسبّب عدوى أو يشكّل لتحوُّلٍ تدريجي في الولايات الثانية، سيأخذ وقتاً ولا نتوقع مفاجآت ولكن على الأقل سيكون بداية تغيير ربّما يمتدّ إلى ولاياتٍ أخرى ويبدأ نقاشٌ حقيقي عن قدرة الناس على تغيير النظام. 

 

بيار أبي صعب: أستاذ صالح ممداني هو واحدٌ من الناس، لم ينزل من عليائه، هو واحد منهم يحمل قضاياهم ويلتزم بها مثل السكن، الإيجار، النقل، رعاية الطفولة، حقوق العمال، حقوق المهاجرين، الوقوف بوجه عنف الشرطة ومحاولة نقل سياسة التحذير اجتماعياً لتفادي الخروج على القانون وغير ذلك من مواجهة الإسلاموفوبيا واللاسامية وإلى آخره. هذه الطريقة جديدة وليست هي الطريقة التي تصنع فيها أميركا السياسة، هل برأيك هذا يفتح كوّةً في أماكن أخرى في أميركا والعالم؟ هل هذه طريقة جديدة لممارسة السياسية في أميركا اليوم؟

 

صالح أبو عزة: فوز ممداني باعتقادي شكّل صدمةً، هذه الصدمة أحياناً تُربك الطرف المعادي في طريقة التعاطي معها، حتى أن الصهيونية المعادية له أربكت حساباتها بحيث كانت تتوقع أن يكون هذا العمدة حاسماً في آرائه السياسية وتوجهاته الداخلية الرأسمالية. الآن حتى تنتقل هذه الصدمة الإيجابية التي أحدثها في المجتمع الأميركي وعلى أقل تقدير ف في مدينته إلى عاملٍ مستدام بحاجة إلى مأسسة، نقْل هذه الفكرة إلى مؤسسة، المؤسسة بالمناسبة شبه موجودة، هو جزء من الديمقراطيين الاشتراكيين ولكن على الديمقراطيين الاشتراكيين أن يخرجوا من دائرة هذا الجبن إلى دائرة المبادرة، ومحاولة قطف ثمار التغيّرات الحقيقية والجذرية التي تحدث في بعض المناطق داخل الولايات المتحدة وتجميعها. 

 

بيار أبي صعب: لممارسة السياسة في أميركا يجب أن يكون لديك المال والرعاية، حملته قامت على تبرعاتٍ فردية.

 

صالح أبو عزة: رغم أن التبرعات فردية ولكنه استطاع أن يجمع مبالغ مالية جيدة أهّلته لذلك، بمعنى أن وجود المؤسسة بشكلٍ عام يجعل لديه ولأمثاله قدرةً أكبر على تحدي الأطراف الأخرى. النقطة الثانية باعتقادي هذا الذي سيعانيه مستقبلاً هو وجود لوبيات داعمة لأعدائه دون وجود لوبيات داعمة له.

 

بيار أبي صعب: سنعود إلى هذه النقطة عزيزي ولكن اسمح لي أن أنتقل إلى الأستاذ أسعد أبو خليل، مواجهة نيويورك لم تكن بين الديمقراطي والجمهوري بل بين الشعب والاستبلشمنت، لقد أعاد ممداني الناس إلى السياسة ووضع القضية الاجتماعية والطبقية في صميم الشأن السياسي، كاشفاً أن الحزب الديمقراطي لا يختلف كثيراً عن الحزب الجمهوري فهما يتشاركان في خدمة مصالح المنظومة الرأسمالية والاستعمارية. هل هي بداية خجولة؟ كنت تتحدث قبل قليل عن تكرار تجربة نيويورك في أماكن أخرى، هل هي بداية خجولة لفتح باب إصلاح الحزب الديمقراطي واستقطاب الغضب الشعبي بدلاً من تركه يتسرّب كي يغذّي صفوف الشعبوية اليمينية؟

 

أسعد أبو خليل: سنرى عمّا قريب، لكن الأمر الملفت أن قضية فلسطين صارت أساسية في الترشيح للحزب الديمقراطي حتى في الانتخابات المحلية وحتى في انتخابات مجلس النواب ومجلس الشيوخ. تخيّل أنه إذا أردتَ أن تترشّح في أميركا لأي منصب محلي أو على نطاق وطني يجب أن تعلن تأييدك للقضية الفلسطينية. تخيّل أنه في لبنان لا يوجد هذا المعيار بل يمكنك أن تحصد أصواتاً كثيرة وتكون معادياً للقضية الفلسطينية، هذه مفارقة. هناك تغيُّر كبير في مزاج الشباب الغربي في كل المدن الكبرى. أنا أقل تفاؤلاً من عصام اليماني في المستقبل لأن كل القوى المتنفّذة تريد هزيمة ممداني لأن نجاحه يشكّل خطراً على النظام برمّته. لنتذكر أنه ليس من السهل أن تغيّر هذا النظام الشرس من داخله خصوصاً في ظل إطلاق شعارات تعيد النظر في العقيدة الرأسمالية التي هي أساس بناء هذه الجمهورية. الحزبان الديمقراطي والجمهوري يريدان إفشاله، كذلك رئيس الجمهورية بقدّه وقديده، إسرائيل ستحاربه به بما لديها من قوى في اللوبي الإسرائيلي، وفي نفس الوقت القطاع الشبابي. هنا يجب المقارنة بينه وبين أوباما، نجاح أوباما كان لأنه أتى بقوى شبابية جديدة إلى النضال الاقتراعي، نفس الشيء حدث بمسألة ممداني. أنا كنتُ حتى اللحظة الأخيرة متوجساً أنه هل سيستطيع أن يعكس الحماس الشبابي الذي رأيناه في الحملة الانتخابية إلى التصويت وهذا ما حدث، بالإضافة إلى ذلك نتذكر أن 62% من المقترعين قالوا إن موضوع إسرائيل وفلسطين كان أساسياً لهم في الاقتراع، وبالرغم من ذلك صوّتوا لصالح ممداني ما يعني أن الذين يتعاطفون مع فلسطين باتت المسألة لديهم المعيار في انتخابات شديدة المحلية. نحن لا ننتخب عضو مجلس شيوخ سيصوّت على مساعدات عسكرية واقتصادية لإسرائيل، هذه انتخابات محلية، في الوقت نفسه مشروعه تقدّمي واشتراكي، يريد توسيع الخدمات الاجتماعية بصورةٍ لم نرها في أيٍّ من المدن الكبرى في أميركا. 

 

بيار أبي صعب: تجميد الإيجارات، النقل المجاني. 

 

أسعد أبو خليل: تماماً. في القضية الفلسطينية كما قيل إنه سيتحاشى الموضوع وفي الفترة الأخيرة كان يتحاشاه إلى حدٍّ ما ويقول وعن حق إنه سيركّز على المواضيع المحلية لكن كما قالت السيدة في فلوريدا إن هذه حملة استثنائية غير عادية، مثلاً خطاب الانتصار هو الذي لفتني، عادةً في أميركا عندما تخوض الحملة الانتخابية تكون متطرفاً داخل حزبك، ليبرالي ديمقراطي أو محافظ جمهوري، هو فعل هذا الشيء لكن خطاب الانتصار عادةً عندما تحاول أن تستقطب وسط المحافظين، هو عمل عكس ذلك، خطاب الانتصار كان أكثر تطرفاً من خطاباته في الحملة الانتخابية والكل ذُهل من ذلك وقيل لقد ظهر وجهه الحقيقي المتطرف، وهو لم يخفِ هذا الوجه المتطر لكن في الوقت الحاضر هو بحاجة للمساعدات من الحكومة الفيدرالية ومن المجلس الاشتراعي في نيويورك. 

 

بيار أبي صعب: سنتحدّث عن ذلك لاحقاً، أستاذ أبو عزّة فكرة أن هناك صراع داخل الحزب الديمقراطي، صراع أجيال، صراع طبقي، هل يمكن لظاهرة ممداني أن تعزّز أو تعطي الأستاذ أسعد عن بيرني ساندرز غير الشجاع كما يجب، وألكسندريا كورتيز، هل يمكننا أن نراهن على هذا النوع من التغيير أم أن التغيير يجب أن يكون خارج الأحزاب التقليدية برأيك؟

 

صالح أبو عزة: أولاً جزء من التغيير داخل الولايات المتحدة مرتبط بهذه الأحزاب سواء الديمقراطي أو الجمهوري، فلذا حتى مسألة التغيير بالنظرة إلى القضية الفلسطينية هنالك تغييرات ملحوظة حتى داخل الحزب الجمهوري بعد الإبادة الجماعية في غزة وإن كانت تحت عنوان التناقضات ما بين المصالح الأميركية والإسرائيلية من جهة وشعار أميركا أولاً. ربّما أضبط القدرة على التغيير داخل الحزب الديمقراطي والتيار اليساري فيه على قاعدة المبادئ التي يؤمن بها حول العدالة الاجتماعية وغيرها من القضايا.

 

بيار أبي صعب: هل يمكن ذلك في داخل الحزب برأيك أم سيكون هناك قطيعة وحزب ثالث في أميركا إذا كانت تتطوّر باتجاه آخر؟

 

صالح أبو عزة: هي مسألة التيارات، حسم التيارات داخل هذه الأحزاب، استطلاعات الرأي التي خرجت ميّزت ما بين ثلاثة طبقات من الأجيال الكبيرة التي ما زالت قريبة نوعاً ما من إسرائيل، والمتوسطة التي ما زالت متأرجحة بين هنا وهناك، والجيل الحديث الذي هو أكثر انتماءً للقضية الفلسطينية وإيماناً بعدالتها وكفراً بالباطل الإسرائيلي والإبادة الجماعية التي يمارسها وغيره. هذا الصراع الجيلي، الصراع الطبقي ما بين هذه الأجيال، حينما تترفّع هذه الأجيال إلى مستوياتٍ أكبر تكون هي عمدة المسار الاقتصادي، عمدة المسار السياسي، عمدة المسار الديني والاجتماعي، بكل تأكيد سيكون هنالك تغيّرات داخل الحزب، ولكن هذه التغيّرات حتى تنضج وحتى تكون مؤثّرة بحاجة إلى سنواتٍ طويلة، نحن لا نتحدّث عن سنة أو سنتين أو عشر سنوات حتى يظهر جيل يمزّق إرث جيل سابق لا ينتمي إليه. ظاهرة ساندرز حينما ظهرت كان الكثير منهم يشككون في مقدرته على صناعة ولو شيء بسيط داخل الحزب الديمقراطي، ولكن الآن هي أفضل مما كانت عليه في نشأتها، ورغم أنه يُتّهم بأن مواقفه فيها نوعٌ من التراجع أو الجبن أو غيره ولكن فوز ممداني ونجاح هذه التجربة في عدد من المناطق باعتقادي أنها ستشجّع تيار سيُمتنّ بشكلٍ أكبر مع وجود مثل هكذا شخصيات إذا ما كان هنالك حجم من التعاون وعدم تضارب المصالح بين جميع هذه الشخصيات بحيث تصنع نوعاً من المأسسة داخل الحزب الديمقراطي، وهذا باعتقادي سيساعد بشكلٍ كبير أيضاً حالة ما يحصل في الطرف المقابل من الذي بات ينظر داخل الحزب الجمهوري وداخل الأحزاب المسيحية التي باتت ترى أن اليهودي أهم من المسيحي، مصالح إسرائيل أهم من مصالح أميركا. هنالك تناقض في بعض المصالح، لمَن يجب أن يكون الحراك داخل هذا الحزب؟ هل هو لأميركا أم لإسرائيل؟ نذكر هنا ما يقوم به تاكر.

 

بيار أبي صعب: هو أكبر من صراع طائفي، هو صراع أيديولوجي، هناك مسيحيون صهاينة  أكثر من اليهود، الفكرة في العقيدة البيضاء والعقيدة الاستعمارية. في الولايات المتحدة الموضوع مرتبط بالأيديولوجيا أكثر ويجسّدها ترامب خير تجسيد، فكرة الرجل الأبيض، فكرة الأيديولوجيا، فكرة أن تفوّق إسرائيل هي جزء من تفوّق الغرب وبالتالي مصلحة الغرب. اليوم هناك محاولة افتراق، تراجُع وإعادة نظر أنه إذا كانت أميريكا أولاً ماذا نفعل نحن هناك بهذه المليارات. أستاذ أسعد أو خليل هذا الجزء الأخير له علاقة بالمصاعب والتحديات أمام ممداني، ماذا لو كانت تجربة زهران ممداني في النهاية لا تعدو كونها حلم ليلة صيف أو بالأحرى ليلة خريف كما يرى بعض المتشائمين؟ ألم تفعل القوى المهيمنة كل ما بوسعها كما تفضّلتَ قبل قليل لمحاصرته وتحطيم مشروعه؟ الإصلاحات الضريبية تحتاج موافقة الحاكم الذي هو ديمقراطي ولكنه لن يخاصم الأثرياء. ترامب لن يتوانى عن إرسال الحرس الوطني مستعيداً موّال مكافحة الهجرة وقد هدد وبدأ بقطع المساعدات الفيدرالية عن نيويورك، ما سيعطّل معظم الإصلاحات الاجتماعية بالنهاية ويخنق المدينة. 

 

أسعد أبو خليل: علينا أن نتحفّظ قليلاً، أنا لا أرى أن نذهب بعيداً في الاستنتاج بالنسبة للانعكاس القومي الوطني على هذه الانتخابات لأن لدينا نموذج أوروبا الغربية مثلاً، قاعدة الحزب الاشتراكي في فرنسا هي مؤيدة لفلسطين بشكلٍ قوي، وحزب العمال في بريطانيا يؤيد القضية الفلسطينية لكن القيادة نفسها مناصرة لإسرائيل بشكل متعصّب وتتبع أميركا بالكامل، وعندما برزت ظاهرة جيريمي كوربن حورب بطريقة وتراجع عن الكثير من مواقفه وكان جباناً جداً مثله مثل بيرني ساندرز. نحن نعرف أنه تستطيع أن تكون القاعدة في جانب والقيادة في جانب آخر، النظم الغربية ليست ديمقراطية بل هي ديكتاتورية خصوصاً في السياسة الخارجية، القيادة تفرض على القاعدة ما تريد حتى لو شاءت القاعدة عكس ذلك. ثانياً رأينا نماذج مختلفة أن يأتي يساري مثل ألكسندريا كورتيز وغيرها ينطلقون من القضية الفلسطينية ولكن النظام يكبّلهم ويضغط عليهم وخصوصاً إذا نمت طموحاتهم باتجاهات أكبر. كورتيز مثلاً تريد أن تنتقل من مجلس النواب لمجلس الشيوخ ولهذا السبب بات خطابها أكثر تحفّظاً بكثير من فلسطين، وقد خاب أملي بهذا الشأن. الأمر الثالث أنه إذا كانت المواضيع الأساسية هي الأمور المعيشية فإن المجلس الاشتراعي المحلي بالمجلس البلدي بالإضافة إلى الحكومة الفيدرالية يستطيعون أن يحاربوه، وعليه بهذا الصدد أن يتعاون، وهو قال فيما يتعلق بخدمة نيويورك أنه سيتعاون مع دونالد ترامب ومستعد للحديث معه بالرغم من العداء الظاهر بين الطرفين بهذا الشأن. الأمر الرابع أن إسرائيل لا تنام على ضيم، لقد تلقّت صفعة كبيرة بهذا الفوز والحرب الكبرى ضد ممداني بدأت للتو لأنه انتصر، هي لن تنكفئ إلى الوراء ووتركه يحكم. الأمر الخامس أن المعيار الذي سيحدّد نجاح ممداني وانتقاله إلى مرتبةٍ أعلى في الانتخابات، مثلاً أن يترشح إلى منصب محافظ نيويورك وهي المرتبة الثانية عندما تكون ناجحاً كعمدة في المدينة.،هذا الأمر سيتطلّب نجاحاً في القضايا المعيشية الاجتماعية التي كانت طموحة جداً وواعدة كثيراً. إلى أي حد يستطيع أن يحقّق كل هذه النبوءات وإذا لم يحققها وهذا أمر بديهي في النظام الرأسمالي خصوصاً في مدينة تعجّ بأصحاب المليارات الصهاينة الذين يريدون أن ينقضّوا بأنيابهم على هذا المرشح الشجاع. 

 

بيار أبي صعب: من أين يأتي بالمال، هو يحتاج إلى المساعدات الفيدرالية، يحتاج إلى موافقة الحاكم لرفع الضرائب.

 

أسعد أبو خليل: لكل هذه الأسباب سنرى أموراً لن تسرّنا أبداً، مثلاً هناك مهرجان سنوي اسمه "مهرجان إسرائيل" يحضره السياسيون حاملين العلم الإسرائيلي ويلوّحون به، وبعض اللبنانيين سيفعلون ذلك لو تسنّى الأمر لهم. هل سيشارك في هذا المهرجان؟ هو لم يرد على السؤال في هذا الصدد، ولكن أنا أقول سنرى بعض ما لا يسرّنا لأنه عمدة لمدينة فيها جالية يهودية كبيرة وفيها نفوذ صهيوني قوي، فلكل هذه الأسباب علينا أن نتحفّظ. 

 

بيار أبي صعب: لديّ سؤال هامشي، دائماً هناك قسوة حين تتحدّث عن بيرني ساندرز وكوربن، ألستَ قاسياً أكثر من اللزوم حين تتحدّث عن شخصياتٍ من هذا النوع؟

 

أسعد أبو خليل: يستحقون ذلك، كتبتُ مقالاً سيُنشر بالإنجليزية هذا الأسبوع عن بيرني ساندرز، هذا الرجل وقد واكبتُ عمله السياسي منذ أن أتيتُ إلى أميركا، كان أكثر شخص تقدمي واشتراكي في مجلس الشيوخ وقبلها في مجلس النواب، وفي اقتراعه وتصويته كان عدواً لنا دائماً ومناصراً لإسرائيل. حتى في هذه الحرب تأخر كثيراً في الدعوة إلى وقف النار، وكان دائماً يقول بأن ما فعلته حركة حماس هو عملٌ إرهابي وأن إسرائيل لها الحق في الدفاع عن نفسها، كان ضد إطلاق وصف الإبادة، قبل أسابيع فقط فطن أن هناك إبادة في غزة بعد أن قالت ذلك كل منظمات حقوق الإنسان الغربية بما فيها منظمة حقوق الإنسان في داخل إسرائيل. ثالثاً هو وافق في كل هذه السنوات على مد إسرائيل بكل ما تريده من أسلحة ومعونات اقتصادية. رابعاً في كل الحروب التي جرت بين إسرائيل وبين العرب والتي شنّتها إسرائيل ضدنا كان مناصراً لإسرائيل وحمّل اللوم للضحايا في2006 وفي حروب غزة. لذا يجب أن نكون غير أسخياء في اعتبارنا لبعض المرشحين التقدّميين كأصدقاء للقضية. 

 

بيار أبي صعب: أشكرك أستاذ أسعد. أستاذ صالح سؤال أخير، هل تنظر بعينٍ متفائلة إلى تجربة ممداني وهل تتوقّع لها النجاح وإلى أي حدٍّ؟ 

 

صالح أبو عزة: المعوقات بلا شك كبيرة والصعوبات أكثر وخاصةً أن من التيارين سيعادي هذه التجربة ونجاح هذه التجربة تماماً كما المقاومة، المقاومة وحصارها سبب أساسي هو عدم إنجاح النموذج الذي يعوّض عن النماذج السيئة الأخرى التي لم تحقّق أي نتيجة، ولكن رغم رغم ذلك يبقى التفاؤل بتحديث الأجيال أو صناعة الجيل لأسلوبٍ جديد داخل الولايات المتحدة سواءً داخل الحزبين أو من خارجهما.

 

بيار أبي صعب: هل يمكن أن يحقق شيئاً برأيك؟ هل أنت متفائل؟ 

 

صالح أبو عزة: ليس التفاؤل الكبير الذي يؤدّي إلى انقلاب، نحن لا نتحدّث عن انقلابٍ يمكن أن يحصل ولكن يمكن أن يعطي إضاءاتٍ جيّدة.

 

بيار أبي صعب: شكراً. كلمة الختام لعمدة نيويورك المنتخب زهرة ممداني من خطاب النصر "المستقبل بين أيدينا، أصدقائي لقد أسقطنا سلالةً سياسية، أفكر وأنا أقف أمامكم بكلمات جواهر لال نهرو، ثمّة لحظة في التاريخ لا تأتي إلا نادراً عندما نخرج من القديم إلى الجديد، عندما تنتهي حقبة وتنهض روح أمّةٍ عانت طويلاً من القمع وأخيراً وجدت الكلمات، لقد خرجنا الليلة من القديم إلى الجديد، فلنتنفّس من هواء المدينة التي وُلدت من جديد".

شكراً لضيفيّ الأستاذ صالح أبو عزة والأستاذ أسعد أبو خليل، شكراً على المتابعة وإلى الأسبوع المقبل.