في الرواية... حروب إسرائيلية متعددة الأوجه

لولا الأفكار لما كان عالمنا متغيِّراً، ولما أصبح تطورنا الإنساني مستداماً. تخيَّلوا أن نعيش من دون الأفكار، أو أن تكون تلك الأفكار غير مكتوبة: كان من المستحيل أن تحقق البشرية تقدماً تتناقله الأجيال، وتبني عليه استمراريتها عبر الزمن. من هنا، يخرج برنامج "بين الكلمات"، ليقلّب صفحات كتب تتضمّن أفكاراً عن المجتمع والحياة؛ عنا نحن الناس؛ عن مخاوفنا، آلامنا، انتصاراتنا، هواجسنا، وكل ما يؤلف عالمنا البشري. رحلتنا في هذه الحلقة ستبدأ من جنوبي لبنان، حيث سنعيش مع أهل هذه الأرض، من خلال رواية "توب كاميرا" لفاديا بزي. نذهب بعدها إلى فلسطين، ونتوقف في القدس المحتلة، إلى جانب المكتبة العلمية فيها، لنفهم لماذا اعتقل الاحتلال أصحابها، وما الكتب التي تهدد وجود "إسرائيل". ونصل إلى قصة أم وابنتها، كتبت كل منهما كتاباً يختص بتجربتها الفريدة.

نص الحلقة

 

 

لانا مدور: 

رمضان كريم.
لولا الأفكار، لما كان عالمُنا مُتغيّرًا، وتطوّرنا الإنساني مُستدامًا.
تخيّلوا أن نعيش من دون الأفكار، وأن تكون تلك الأفكار أيضًا غير مكتوبة.
كان من المستحيل أن تبني البشرية تقدّمًا تتناقله الأجيال، وتبني عليه استمراريّتها عبر الزمن.

من هنا، يخرج برنامجُنا "بين الكلمات"، لنفتح كتبًا تحتضن أفكارًا عن المجتمع والحياة، عنّا نحن الناس، عن مخاوفنا، عن آلامنا، عن انتصاراتنا، عن هواجِسنا، وعن كل ما يؤلّف عالَمنا البشري.

رحلتُنا في هذه الحلقة ستبدأ من جنوب لبنان، حيث سنعيش مع أهل هذه الأرض من خلال رواية "توب كاميرا" لفاديا بزّي.

نذهب بعدها إلى فلسطين، ونتوقّف في القدس، بجانب المكتبة العلمية هناك، لنفهم لماذا الاحتلال اعتقل أصحابها، وما هي الكتب التي "تُهدّد" وجود إسرائيل.

ونصل إلى قصة أمّ وابنتها، كتبت كلٌّ منهما كتابًا، تحتضن في هذين الكتابين تجربتَهما الفريدة.

فأهلًا بكم إلى "بين الكلمات".

 

(فاصل)

 

لانا مدور: 
فاديا بزّي إبنة بنت جبيل في جنوب لبنان.

مَن يتابع قناة الجديد اللبنانية يعرفها من نشرات الأخبار، كمُعدّة لهذه النشرات.

أما الذي يفتح هذه الرواية، فيرى طفلة ولِدَت في تلك المنطقة الحدودية الجميلة مع فلسطين، وعاشت طفولتها وسط أبناء بنت جبيل، هذه المدينة التي احتضنت أولى بوادر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي.
وأنا أقرأ "توب كاميرا" لفاديا بزّي، وأنا إبنة الجنوب اللبناني، شعرتُ كأنني أعيد استكشاف أهلي وأرضي.
قلم فاديا بزّي السياسي اللاذِع، المليء بالمَرح، يعكس طَيْبة وطرافة وعناد أهل بلادنا.

=عن تلك الصحافية التي أعادت استكشاف طفولتها في زمن بداية المقاومة، مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، نتحدّث الآن في "بين الكلمات".

فأهلًا بكِ فاديا.

 

فاديا بزّي:

مساء الخير.

 

لانا مدور: 

مساء الخير.
أولًا، يجب أن أقول لكِ كم استمتعتُ بهذه الرواية وأنتِ تعرفين.

لكن، السؤال الأول: لمَن كتبتِ "توب كاميرا"؟

 

فاديا بزّي:

كتبتُ "توب كاميرا" أولًا لبنت جبيل، وأنا أحب جدًا أن يُقال عني "بنت بنت جبيل"، لا "إبنة" فقط.

 

لانا مدور:

=اتّفقنا من أول الحلقة؟ خلص، هذه من شروطك، وأنا أوافق.

 

فاديا بزّي:

فكتبتها لبنت جبيل أولًا، لأن مَن يقرأ "توب كاميرا" يرى أن نهايتها هي البداية. نهاية الرواية هي البداية. يعني، عندما انتهت حرب تموز 2006، وصعدتُ إلى بنت جبيل، لم أتعرّف عليها. لم أتعرّف على بنت جبيل أبدًا.

كانت كلّها مُدمَّرة، الحارات، المدرسة، الشوارع، الأزقّة التي كنت ألعب وأسير فيها... كلها تدمَّرت.
فوقتها، عندما رأيت هذا الوضع، عدتُ مباشرةً في ذاكِرتي إلى طفولتي، الطفولة التي عشتها في هذه الأماكن، والتي اختفت فجأة.

فخطرت لي الفكرة أنني يجب أن أدوِّن، أو أن أؤرِّخ فترة زمنية معيّنة كانت فيها بنت جبيل، والجنوب بشكلٍ عام، يعيشان العصر الذهبي للحياة الاجتماعية والسياسية.

 

لانا مدور: 

أية سنة تقريبًا؟

 

فاديا بزّي:

من عام 1968 تقريبًا حتى 1978، تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الأول. ومن بعده، تهجّرنا، وغادرنا بنت جبيل تحت الاحتلال. لكن عندما عدتُ بعد التحرير، كانت بعدها. عدتُ ورأيت بنت جبيل، التي احتفظتُ بها في ذاكِرتي منذ عام 1978 وحتى عام 2000.

 

لانا مدور: 
لم تزوريها أبدًا من 1978 حتى 2000؟

 

فاديا بزّي:

لا، الاحتلال، يعني، صعدتُ مرة واحدة وكان عُمري تسع سنوات. ذهبتُ لأقيم عند جدّتي، لأنه لم يكن هناك أحد يُقيم معها. فذهبتُ أنا وأختي وأقامت كلّ منّا عند جدَّة. ثم غادرنا، لأننا كنّا أطفالًا، وبدأ الإسرائيليون يُضيّقون علينا. فحتى عام 2000، لم نعد.

في عام 2000، عندما ذهبتُ، كانت الأماكن لا تزال، الناس الكبار في السن الذين أتذكَّرهم، لا زالوا هناك. لكن بعد ست سنوات من عام 2000، عندما حصل عدوان تموز 2006، وذهبتُ كصحافية لأُغطّي وأُعدّ فيلمًا وثائقيًا عن بنت جبيل، لم أتعرَّف عليها.

على طريق بيتنا، وبين مشاهِد الدمار، خطرت لي الفكرة أنني يجب أن أُحيي وأعيش بنت جبيل التي بقيت في ذاكِرتي، لا أن أدعها تموت. فخرجت معي فكرة "توب كاميرا"، لأهديها لكل هؤلاء الناس الذين كانوا يعيشون في تلك الفترة، في تلك المرحلة. منهم عائلتي. انطلقتُ من عائلتي الصغيرة لأحكي عن عائلتي الكبيرة، وهي بنت جبيل كلها، بكل ناسها. 

 

لانا مدور:

كل الشخصيات في الرواية حقيقية؟ 

 

فاديا بزي:

ثلاثة أرباع الشخصيات على الأقل.

 

لانا مدور:

=مَن أكثر شخصيّة كانت في بالك وأنت تكتبين؟

 

فاديا بزي:

أكثر شخصيّة كانت في بالي أثناء الكتابة كانت أبي، لأنه هو المُحفّز، وهو مَن أعطاني هذه القوّة، لأنه كان صورة عن النضال في تلك المرحلة. بالإضافة إلى أبي، كانت هناك جدّتاي من الطرفين. كانتا نموذجًا إنْ شئت للنضال، سواء في السياسة، لأنهما كانتا من مؤسِّسات الحزب الشيوعي في بنت جبيل، أو في نضال المرأة، كيف ناضلتا حينها، كيف كانتا تعملان جنبًا إلى جنب مع الرجل، كيف نزلتا في التظاهرات، وجلستا في السهرات، تبرمان الدخان لبعضهما، وتتناقشان، وتتبادلان الأحاديث والنُكات. كل هذه القصص هما من أخبراني بها. أحببتُ أن تبقى هذه التفاصيل الصغيرة التي كانت تطبع الحياة الاجتماعية في بنت جبيل، ألا تموت. لأنهما كانتا تُجسّدان الطِيْبة والعفوية والمرح.

 

لانا مدور:

الرواية، فعلًا، فيها الكثير من التاريخ، وربما نأتي عليها الآن، لكن أيضًا هناك طرائف. أخبرينا شيئًا من هذه الطرائف. الشخصيات حقيقية مثلاً؟

 

فاديا بزي:

الشخصيات حقيقية.

 

لانا مدور:

"سه جنان" مثلاً.

 

فاديا بزي:

"سَهْ جَنان"، هي شخصية معروفة في الضيعة. كانت دائمًا توصي على كفن، وتطلب من الحج غريب أن يشتريه لها، لكنه لا يجلبه. في النهاية، أعطاها الكفن. وقالت له: "أوصيتك على كفن، الأول كفّنت فيه زوجي، والثاني زرته.

في بنت جبيل، كانت العادة أن بعض الناس يحضّرون كفنهم مُسبقًا، ويرسلونه ليُبارك في المقامات، مثل في العراق، ثم يحتفظون به ليُكفَّنوا فيه لاحقًا.

 

لانا مدور:

فاديا، من الأفوكاتو؟

 

فاديا بزي:

"الأفوكاتو" هو اللقب الذي عُرِف به جدّي، ونحن اكتسبناه منه. في بنت جبيل، كما أخبرتك، الناس يعرفون بعضهم من الألقاب، وكل بيت له لقب. جدّي كان يُلقّب بـ"أفوكاتو" لأنه كان قويًّا في الكلام، ويقود التظاهرات. شبّهوه بالمحامي، رغم أنه لم يكن كذلك فعليًا. ومنذ ذلك الوقت أصبحنا "بيت أبو كاتو".

"الأفوكاتو" كانوا يطلقونها على المحامي، وأتصوّر أن جدّي اكتسب هذا اللقب من هنا، فكان قويًا في الخَطابة، وكان يقود التظاهرات. حمله والدي من بعده، ونحن نحمله اليوم.

 

لانا مدور:

ماذا حملت منهم؟

 

فاديا بزي:

حملت حبّ المقاومة، وحبّ الأرض، وحبّ الدفاع عن الحقّ، وعن المظلوم، والتمرّد من أجل الكرامة، والدفاع عن الوطن، عن الضيعة، عن كل القِيَم التي يُجسّدها هذا اللقب. أتصوّر أننا حملنا كل هذه المعاني.

 

لانا مدور: 

في الرواية، العديد من المحطّات التاريخية، والمعاني أيضًا.

على سبيل المِثال، حين زرع الانتداب الطائفية بين أهل بنت جبيل المُسلمة وجارتها عين إبل المسيحية، وهذا ما نراه =مُستمرّاً إلى اليوم، نحن مَن نزرع الطائفية في هذه المرحلة، مع الأسف. الكثير من أهل بين جبيل غادروها كما ذكرتِ، وذهبوا إلى فلسطين، وهناك اتّخذوا لأنفسهم أسماء مسيحية.

ما علاقة بنت جبيل بفلسطين؟ هناك شيء جميل جدّاً قلتهِ، وأرجو أن أقرأ المقطع:

"بنت جبيل حكاية شامة مُحنّاة مغروسة على خدّ الجليل. الجليل، فلسطين، تعمّدت بدمها، فصار آدم وحواء القرى يخضرّ الربيع على يديه، فيزهر زيتونه في عينيها".

كم هو جميل هذا التعبير عن بنت جبيل. 

 

فاديا بزي:

بنت جبيل، كما قلتُ في الرواية، عاشت حُسن الجوار مع فلسطين، وسوء الجوار مع الاحتلال. كأنها أُصيبت بلعنةٍ منذ أن زُرِعَت إسرائيل على خاصرتها، فلم تعش بنت جبيل يومًا طبيعيًا بعد ذلك. فقدت الكثير، وعانت الكثير بسبب هذا الاحتلال.

حين تحدّثتُ عن التداخُل والتمازُج، كنتُ أقصد أن الهواء الذي نتنفّسه هو ذاته، نحن وفلسطين. الأرض نفسها، التراب ذاته. لا شيء يفصلنا، حتى الطُرقات محفورة بالعِرق بين بنت جبيل وفلسطين.

كتبتُ عن هذه الأسماء لأنه، في وقتٍ من الأوقات، اضطرّوا إلى تغيير هويّاتهم. مثل جدّي "أبو جورج"، واسمه الحقيقي "أبو فؤاد"، الذي سافر مع إثنين من أصدقائه وفتحوا عملًا في حيفا. وقتها، لم يكن المجتمع الفلسطيني يتقبّل المُسلم الشيعي، كونه مجتمعًا سنّيًا، فاضطرّوا لأن يطلقوا على أنفسهم أسماء مسيحية: "أبو جورج"، "أبو اسكندر"، و"أبو إلياس". فتحوا مقهى هناك، واستمرّوا في عملهم حتى بعد عودة "أبو جورج" إلى بنت جبيل، بينما بقي رفاقه يعملون هناك.

لكن عندما وقعت نكبة عام 1948، وجاء الاحتلال الإسرائيلي، كان من بينهم خالي "الحج"، وهو أيضًا شخصية حقيقية، وكان يملك دكّانًا للأجبان والألبان والمواد الغذائية. أغلق الدكان، وأخذ المفتاح معه، وعاد إلى بنت جبيل على أمل أن يعود خلال يومين أو ثلاثة. لكنه لم يعد، ولم تأتِ تلك الأيام الثلاثة.

 

لانا مدور:

هذه الصورة التي نشرتها على إنستغرام كانت مؤثِرة جدًا. نعرضها على الكاميرا؟.

حسنًا، اقرأِي لنا ما كتبته.

 

فاديا بزي:

"زرت بنت جبيل بعد وقف إطلاق النار، بعد آخر عدوان على لبنان، وعلى الجنوب تحديدًا. لو كان لهذه الحجارة أن تتكلّم، لأخبرتنا عن هذا البيت المقاوِم منذ فجر المقاومة، ولأخبرتنا عن قوافل المقاومين الذين تركوا دَعَسات أقدامهم على غُبار أرضه، وعن القبو الذي لطالما تركت جدّتي بابه مواربًا كي يختبئ فيه المقاومون. هنا، فوق الرُكام، عدت تلك الطفلة، وبكيتُ دمعتين."

 

لانا مدور:

تخيّلي، فاديا، أن تُهدي أخاك دفتر تدوين. لديك إخوة بالتأكيد، فتخيّلي أنك تهدين أحدهم دفترًا خاصًا بالكتابة، ثم تجدين هذا الدفتر بعد استشهاده، وقد دوّن فيه الكثير من المشاعِر والأحلام والأفكار. هذا ما حصل فعليًا، هذا ما حدث مع الصحافي اللبناني حسين الأمين، الذي وجد دفتر شقيقه الشهيد بعد استشهاده.

حسين، تفضّل.

 

حسين الأمين:

مرحبًا.

 

فاديا بزي: أهلًا حسين.

 

لانا مدور: 

مساء الخير، وأهلًا بك في "بين الكلمات"، أنت ودفتر ميسم. 

 

حسين الأمين:

صحيح، هذا هو الدفتر، وجدناه بعد استشهاد أخي الصغير ميسم، الذي استشهد مؤخّرًا. كنت قد اشتريت له هذا الدفتر بصراحة، لأنه كان يحب أن يكتب ويُدوّن ملاحظات. كنت أشتري له دفتر مذكّرات تقريبًا كل سنة، وفي مرة قال لي إنه يريد دفترًا عليه صورة الشهيد جهاد عماد مغنية. كان لا يزال صغيرًا حينها، شابًا في أول شبابه، وربما تأثّر كثيرًا بشخصية الشهيد جهاد، الذي استُشهد أيضًا وهو شاب. فذهبت واشتريت له هذا الدفتر، وأعطيته إيّاه، وكان ذلك منذ سنوات، ربما أكثر من خمس سنوات. ثم نسيت الموضوع.

الذي حصل هو أنه بعد استشهاده في هذه الحرب، وبعد عودتنا إلى بيت الضيعة، وجدت هذا الدفتر بين مجموعة من كتبه. كان يقرأ كثيرًا في الفترة الأخيرة، وكان يحب أن يقرأ ويكتب. شعرت، وأنا أقرأه، أنه ربما لم يكن يعبّر كثيرًا بالكلام، لكنه عبّر كثيرًا في هذا الدفتر.

 

لانا مدور:

أعدت اكتشاف شقيقك؟

 

حسين الأمين:

نعم، مسائل ومواضيع لم أكن أعلم أنه مُهتمّ بها. 

 

لانا مدور:

مثل ماذا مثلًا؟

 

حسين الأمين:

كان يكتب عن فلسطين كثيرًا، كتب في ورقة قديمة.

 

لانا مدور: 

هذا خطّ ميسم؟ 

 

حسين الأمين:

نعم، ويمكن رؤية تطوّر خطه في الدفتر، وتطوّر لغته أيضًا.

 

لانا مدور:

كان صغيرًا.

 

حسين الأمين:

نعم، هنا كان لا يزال صغيرًا جدًا. في الصفحة الأولى كتب: "في كل يوم اعتداء على فلسطين، إنها البلاد الحبيبة، إنها القدس الحبيبة..." ثم رسم شعارًا: "رايحين شهداء بالملايين". 

 

لانا مدور:

هذه كانت الصفحة الأولى من الدفتر.

 

حسين الأمين:

هذه أول صفحة، ثم بدأت أقرأ أكثر في الدفتر، ووجدته يكتب مثلًا عن عام 2020، عن الوضع الاقتصادي، وعن وباء كورونا. كتب أيضًا عن ثورة 17 تشرين، وعن الحِراك الذي حصل حينها. 

 

لانا مدور:

ميسم هل هناك شيء فاجأك وأنت تعيد اكتشاف أخيك الصغير. هل هناك فكرة فاجأتك؟ 

 

حسين الأمين:

أنا أعرف أنه كان ناضجًا، وأن أفكاره أكبر من عُمره، لكن لم =أكن أتوقّع أن يكتب عن الشأن العام. هذا الدفتر كان أشبه بمرآة داخلية له. ولو أنه كَبِر أكثر قليلًا، لربما أصبح يعمل في الإعلام، لا أدري. لكن هذا كان دفتره الخاص، وتجدين فيه كل شيء. ولم يكن عُمره سوى 13 عامًا تقريبًا.

 

لانا مدور:

ما أكثر شيء أثّر فيك ممّا قرأت؟

 

حسين الأمين:

تأثّرت كثيرًا بوصاياه الخاصة، التي كتبها لنا — أنا، وأخوتي، وأمّي، وأبي. في آخر صفحة من الدفتر كتب وصيّته. 

 

لانا مدور:

كتب وصيّته؟

 

حسين الأمين:

نعم، كتب وصيّته بيده.

 

لانا مدور:

هل وضع تاريخًا لها؟

 

حسين الأمين:

لا، لم يكتب تاريخًا مُحدّدًا، لكن هناك صفحة مؤرَّخة في عام 2021، وهناك إضافات عليها لاحقًا. مثلًا، كتب في آخر ما كتبه عن موضوع إذا كان عليه ديون لأحد، في مقهى أو في مطعم أو ما شابه، فقد كان يشعر بالمسؤولية.

 

لانا مدور:

حبيبي، كم عُمره؟

 

حسين الأمين: 

رغم أن عُمره لم يكن يتجاوز 18 عامًا. لم يكن يملك الوقت الكافي، لكنه كتب عن أشياء كثيرة. يكتب طبعًا عن المقاومة كثيرًا. وهناك أمر لافِت. نحن — أنا، وجدّي، وجدّه لميسم — لدينا في العائلة تاريخ مع الشهادة، استشهد عام 1948. 

كانت فاديا تتحدّث عن الاجتياح الأول في 1978، نحن أيضًا لدينا مرحلة قبلها، وهي عام 1948. فجدّي، جدّ أبي، استُشْهِد في حولا في تلك السنة، قُتِل على يد الإسرائيليين، وحتى لم يُدْفَن، ولا نعرف أين جثته.

فميسم، في الحقيقة، هو حفيد إبنه. 

 

فاديا بزي:

الشهيد الأول. 

 

حسين الأمين:

نعم، حفيد إبن الشهيد الأول، وهو أيضًا استُشْهِد. وجدّي حين استُشْهِد، كان عُمره 30 سنة، كان شابًا. واليوم ميسم استُشْهِد أيضًا، وهو لا يزال شابًا.

إذا أردنا أن نختصر المشهد، يمكن القول إن هناك صراعًا كاملًا نراه في عائلة واحدة، وكل عائلة فيها نماذج تشبه هذه القصة.

 

فاديا بزي:

صحيح.

 

لانا مدور:
تعرف، هذا أمر مهمّ جدًا، حسين. وما قلته الآن يقودني إلى سؤالٍ لكِ، فاديا. نحن نتحدّث هنا عن قصّة مُشتركة تجمع بينكما — الجنوب، والنضال، والانتماء.

 

حسين الأمين:

وقضاء واحد.

 

لانا مدور:

أنتم من أين؟

 

حسين الأمين:

نحن من بلدة شقرا.

 

لانا مدور:

على الحدود. هناك استمرارية في النضال، رغم كل الفترات الصعبة في التاريخ، ورغم الانكسارات والتراجُع. لكن ظلّت هذه الشُعلة مستمرّة مع الوقت. 

 

فاديا بزي:

يجب أن تبقى. يجب أن تستمر طالما أن المُسبّب ما زال موجودًا، لم ينتهِ بعد.

ربما الآن نرتاح قليلًا، تمرّ سنوات من الهدوء، ثم يحدث شيء جديد، ويكون أولادنا قد أصبحوا بعُمر يسمح لهم بأن يكونوا مقاومين، أن يقاتلوا، أن يحملوا السلاح. نحن أجيال منذ عام 1948، كما قال حسين، ليس من 1978، لكن أنا في روايتي اخترت هذه المرحلة لأنني أعيها، أنا أردت أن أكتب أنا ماذا كنت أشعر، وماذا أذكر من تلك المرحلة.

منذ عام 1948 وحتى اليوم، كان لدينا شهداء من بنت جبيل، مثل جدّ حسين، الذي لا يزال مصيره مجهولًا. هؤلاء حملوا السلاح. جيراننا أيضًا في عيناتا كان لهم نصيب، مثل الشهيد علي أيوب، الذي استُشْهد عام 1972، أي قبل الاجتياح الإسرائيلي في 1978. كانوا يقولون عنه "بارود سيمينوف"، لأنه كان يطلق الرصاصة، ويُعيد تلقيم البندقية يدويًا. 

بالفعل، طالما أن هذا الاحتلال يغتصب فلسطين، ويتمركز على حدودنا، ويُشكّل خطرًا علينا =ويُهدّدنا، فمن الطبيعي أن نتوقّع، في كل مرحلة، أن تنشب حرب جديدة، وينهض جيل جديد من المقاومين. 

 

حسين الأمين:

قد تختلف الأحزاب، لكن الانتماء يبقى: هذا إبن الجنوب، ويريد أن يقاتل.

 

لانا مدور:
حسين، هل كنت تعرف أن ميسم كان مُقاومًا؟

 

حسين الأمين:
في الواقع، كنت أعلم أنه يعيش في هذا الجو العام، بطبيعة الحال. لكنّه كان لا يزال صغيرًا، في بدايات مُراهقته، لم يكن يتحمّل مسؤوليات كبيرة بعد. كان مثل أصدقائه في هذا العُمر، في الخطوة الأولى نحو النُضج. وعندما اندلعت الحرب، جاءت بسرعة.

 

لانا مدور:

كيف تصف استشهاده؟

 

حسين الأمين:

في اليوم الأول من الحرب، كنتُ في بيروت. تحدّثت معه عبر الهاتف، وقلت له: "هل تنوي المُغادرة؟" فأجاب: "لا، لن أغادر. أنا في الجنوب، وأصدقائي كلّهم هنا، لن أتركهم أو أترك الضيعة". حاولت إقناعه، قلت له إن علينا إخراج والدتنا، وجدّتنا، وعمّتي من البلدة. كنت أتحجَّج بالعائلة كي يقبل، لأنه كان لا يزال صغيرًا. لكنه لم يكن يرضى.

أخيرًا، وافق تحت الضغط، وقال لي: "سأنقلهم أنا، أوصلهم إليك، ثم أعود". ظننت حينها أنه حين يرى القصف والطيران، سيخاف ويبقى. وبالفعل أوصلهم، وبعد ثلاثة أو أربعة أيام، قال لي: "لا أستطيع البقاء هنا، يجب أن أرجع إلى الضيعة". وعاد فعلًا، واستُشْهد يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر، أي بعد نحو أسبوعين من عودته.

 

لانا مدور:

حسين، ماذا تقول له اليوم؟ هل هناك عبارة أو جملة مُميّزة تركها؟ أو شيء تحب أن تقوله له؟

 

حسين الأمين:

بما أننا نتحدّث عن الكلمات، عن =الكتابة، فأنا أولًا أشكره لأنه ترك هذه الكتابات. رغم صَغَر سنّه، ورغم أننا لم نعش كثيرًا معًا بسبب فرق العُمر، ورغم أنني كنت في مكان وهو في =مكان، إلا أنه ترك أثرًا. هذا الأثر هو كلماته: بعض من وصاياه، بعض من أفكاره، وكلها مُشرّفة. أي شخص يقرأ ما كتب، يشعر بالفخر. في الواقع، بعض الناس اطّلعوا على ما كتبه حين انتشرت بعض الصفحات على وسائل التواصُل، فصار البعض يوقفني ويسألني: "أأنت شقيق الشهيد الذي كتب كذا؟ كيف كتب هذا وهو ما زال صغيرًا؟" هذه الأمور أصبحت مصدر فخر لنا جميعًا - لي شخصيًا، ولعائلتي.

أودّ أن أشكره على التضحية التي قدّمها. هذه التضحية ليست غريبة عن هذه الضيعة وهذه المنطقة، كما تحدّثنا سابقًا. وأعتقد أن طالما هناك احتلال، فستبقى المقاومة. واليوم، لدينا احتلال مُتجدّد. لذلك، أشكره وأقول له: كما سلكت هذا الطريق، ستسير أجيال بعدك على الطريق نفسه. وإنْ شاء الله، تكون النتيجة دائمًا هي النصر.

 

لانا مدور:

فاديا، أنت ماذا تودّين أن تقولي في الختام؟ كتابة التاريخ أمر مهم للغاية. توثيق التجربة الشخصية هو جزء من كتابة تاريخ الشعب، والأرض، والناس.

ماذا تقولين لهذا الشعب، ولهذه الأرض؟

 

فاديا بزي:

الأرض لا يعرف قيمتها إلا أصحابها. ولهذا السبب، ربما ميسم، وهو أصغر إخوته، كان الأكثر وعيًا. الوعي يتكوّن مع النشأة، مع العائلة، ومع المحيط. الشباب في هذه المنطقة لا تُتاح لهم الفُرَص نفسها التي تُتاح لغيرهم كي يحلموا كما يحلم شباب أعمارهم في أماكن أخرى. لذلك، يذهب حلمهم في اتجاه آخر.

 

لانا مدور:

ما حلمك الآن، في الختام؟

 

فاديا بزي:

حلمي بسيط: أن نعيش يومين بسلام. أن نصعد إلى أرضنا، إلى بيوتنا، من دون أن نشعر في كل لحظة بأننا مُهدَّدون. لا نريد أن نعيش كل مرة التجربة نفسها، ولا أن نمرّ في المراحل نفسها. في النهاية، إسرائيل إلى زوال. =إنْ لم يكن عاجلًا، فآجلًا. ولا يصحّ إلا الصحيح.

 

لانا مدور:

أريد أن أختم بجملةٍ من عندك: "يا جماعة، تذكّروا دائمًا أن ما تفعله إسرائيل على الحدود هو امتداد لما فعله العثماني سابقًا حين جوّعنا، وما فعله الفرنسي حين قسّمنا، وما يفعله اليهودي اليوم حين يريد احتلالنا". 

 

فاديا بزي:

هذه هي القاعدة والخلاصة.

 

لانا مدور:
شكرًا لكِ فاديا بزي. شكرًا لك حسين الأمين. شكرًا لكما على انضمامكما إلينا.

 

(فاصل)

 

لانا مدور:

كان محمود منى وأحمد منى ليكونا أصحاب مكتبة عادية بسيطة يحبّان الكتب، لولا الاحتلال الإسرائيلي. تحوّلا بين ليلة وضحاها إلى مصدر تهديد لوجود إسرائيل. لماذا؟ لأنهما ببساطةٍ يعرضان في مكتبتهما العلمية في القدس كتبًا تقول إسرائيل إنها تحرِّض على العنف وتعرّض أمنها بالتالي للخطر.

الاحتلال دَهَمَ المكتبة وصادر كتبًا فيها، العَلم الفلسطيني، كتب تلوين حتى للأطفال، وغيرها من المواد "التحريضية". وهذه ستكون مناسبة لنتحدّث عن لماذا الاحتلال يخاف من القلم، يخاف من الكتاب، يخاف من أن يكتب الفلسطيني قصّته.

لذا سنستقبل معنا الكاتب وليد الهودلي، وهو كاتب طبعًا وأسير مُحرّر من رام الله، وأيضًا كانت لديه تجربة كبيرة مع الاحتلال، مع التحقيق في المُعتقل، كتبها في روايته "ستائر العتمة". مساء الخير وأهلًا بك أستاذ وليد، وربما سنبدأ من هذا =الحَدَث لنتوسّع معك أكثر عن كيف يفهم المُحتلّ أن يذهب الفلسطيني لكي يكتب، ولكي يؤرّخ، ولكي يعبّر عن حقيقة الواقع.

ولكن في البداية، كيف تُعلّق على ما حدث للمكتبة العلمية وأصحابها؟

 

وليد الهودلي:

حيّاكم الله، مساء النور. بدايةً، هذه سياسة إسرائيلية مُمَنْهَجة، تلاحِق الرواية الفلسطينية بكل أشكالها. =مُداهمة المكتبة ومُصادرة كتب تُعلي راية الثقافة الفلسطينية وتُعزّز وتؤكّد الهوية الثقافية الفلسطينية، هذا دَأْب الاحتلال منذ نشأ الاحتلال، وهو يطارد الرواية الفلسطينية.

الرواية الفلسطينية رواية مُحقّة، ذات جذور عميقة، وذات أثر كبير في نفوس الفلسطينيين، وهي التي تُصيغ الحياة الفلسطينية. نفي الآخر، وهو احتلال إحلالي، احتلال إقصائي، احتلال يريد كل شيء، يريد أن يُزيّف كل شيء، يريد أن يُقيم سرديّة خاصة به تنفي سرديّة الرواية الفلسطينية.

لذلك، من هذا الباب هو يطارد الرواية الفلسطينية. يستشعر أن روايته في خطرٍ شديد، لأن الكلمة الفلسطينية والرواية الفلسطينية تَدْحَض روايته، وبالتالي هو يريد أن يُعزّز روايته بنفي الرواية الفلسطينية، وبمحو حقوق الكتاب والمكتبات والكتب وكل أشكال التعبير الثقافي عن الشخصية الفلسطينية وعن الوجود الفلسطيني في فلسطين.

 

لانا مدور:

طبعًا مثل ما قلت إنّ هذه السياسة قديمة وليست جديدة. لكن الآن، هل تشعر أن هذه السياسة زادت؟ يعني بعد 7 أكتوبر، زادت وأصبحت أكثر شَراسة؟

 

وليد الهودلي:

هي تضاعَفت كثيرًا، وهم تنبّهوا إلى أن السرديّة الفلسطينية، الكلمة الفلسطينية، تعلو وتقوى، ولها كُتَّابها ولها روَّادها، وأثّرت على إنتاج ثقافة ثورية، أثّرت على إنتاج الذات الثورية الفلسطينية، التي تستطيع أن تشتبك مع المُحتلّ بصورة قوية، بصورة ندّية، أن تكون اليد العُليا للفلسطيني.

وتفاجأوا في العبور العظيم في السابع من أكتوبر، أن العقل الفلسطيني عقل يتفوّق على العقل الإسرائيلي والغربي، ويستطيع أن يحقّق حال انتصار، ويستطيع أن يخترق كل الحصون الأمنية، والحصون التي تدرَّعت بالتكنولوجيا وبمعرفته. وإذا =بالعقل الفلسطيني يتفوّق على كل هذا ويستطيع أن يُسخِّر هذه المعلومات وهذه المعرفة في تحقيق حال انتصار، واختراق لكل هذه الحصون، وبالتالي استشعروا أن هناك خطرًا. ما الذي بنى هذه الشخصية الفلسطينية التي تعتدّ بنفسها وتنطلق من روح الانتصار وتستطيع أن تحقّق هذا الفعل العظيم؟ 

إذًا، هناك ثقافة تغيَّرت. هناك اهتمام في صناعة الإنسان، صناعة الإرادة الفلسطينية الحرّة التي تستطيع أن تحقّق أهدافها، وتستطيع أن تُثبت روايتها وثقافتها ذات الجذور العميقة، وتنطلق منها لتحقيق أهدافها.

وبالتالي هنا، بعد 7 أكتوبر، استشعروا أنهم في حال تراجع كبير، في حال هزيمة نكراء من قِبَل الثقافة الفلسطينية، من قِبَل العقل الفلسطيني. فتنبّهوا إلى أن هناك كثيرًا من الثقافة قد تغيَّرت، وهناك كثير من الأدب والإنتاج الفني، ووسائل التواصُل الاجتماعي، هناك تفوّق فلسطيني كبير. فشنّوا حربًا ضروسًا على الكلمة، وأذهلوا الناس بقوانين رادِعة، وباعتقالاتٍ كثيرة خوَّفت وأرعبت الإنسان من التعبير، من البَوْح، البَوْح بما في صدره.

 

لانا مدور: 

أستاذ وليد، نتحدّث عن تجربتك، =تتحدّث عن ترهيب، عن خوف، عن محاولة لثَنْي الفلسطيني عن أن يكتب روايته. أنت كتبت رواية "ستائر العَتْمة" التي فضحتَ فيها أساليب التعذيب وطُرُق التحقيق في السجون. لماذا لم يُثنِك هذا الترهيب والخوف عن اللجوء إلى القلم والكتابة؟

 

وليد الهودلي:

هو الهجوم والعدوان كان مُريعًا جدًا. إذا أردت أن أتحدَّث عن تجربتي، ليس فقط رواية ستائر العتمة، كيف كنا نكتب في السجن، وكيف كنا نُهرِّب ما نكتب بطُرُقٍ عجيبة جدًا. أنا كتبت روايات مثلًا، غير "ستائر العتمة" التي تتحدّث عن الزنازين، كتبت رواية "مدفن الأحياء"، تتحدّث عن الإهمال الطبّي المُبَرْمَج الذي يقود الأسير المريض إلى الموت. =كتبت عن الدوريات العرب الذين كانوا أسرى داخل السجون الإسرائيلية. كتبت عن مجموعة من حزب الله، كانت في سجن عسقلان، رواية "الشُعاع القادم من الجنوب"، كتبناها سرّاً، واستطعنا أن نُهرِّبها معهم بعد أن قضوا في السجن 13 عامًا وخرجوا، والرواية كانت مُهرّبَة معهم وتمكّنوا من طباعتها في بيروت.

هذا كان صِراعًا شديدًا جدًا، ومُطاردة ومُلاحَقة ساخِنة على كل كلمة تُكْتَب في داخل السجون. كنا نعاني من الكتابة، من التفتيش، من وجود الورقة، وجود القلم، كيف نكبس، يعني وضع الورقة على شكل كبسولة الدواء، وتسييح البلاستيك عليها، ثم ابتلاعها، ثم إخراجها من السجن بهذه الطريقة المشهورة، صارت في السجون، التي هي تحويل الورق إلى كبسولات.

هذا شيء يعني فعلاً، هو صِراع إرادات. التحدّي يولِّد هذا الإبداع، ويولّد هذا النجاح. استطاع الأسير الفلسطيني أن يُخْرِج الكلمة الحرّة من عُمق الظلام، من خلف ستائر العَتْمة، ويُحرّرها إلى الخارج، ويُسْهم في المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي والإنساني العالمي.

 

لانا مدور:

الكلام الذي تقوله فعلاً مهم جدًا جدًا، صراحة، خاصة أنك تعكس الإرادة الكبيرة لدى الأسير الفلسطيني. أريد أن أسألك في الختام: لماذا الأسير يلجأ إلى الرواية، وليس إلى التاريخ أو كتابة الأحداث كما هي؟ لماذا أنت لجأت إلى الرواية؟ هذا أولًا. وأريد أن أفهم منك أهمية أن يكتب الأسير ما الذي يحدث معه، أن يوضِح هذه الحقيقة. لأنه نعلم أن الحرب مع إسرائيل هي حرب رواية، وهي حرب كلمة، وهي حرب هذا التحريف الذي دأبت عليه منذ 1948.

 

وليد الهودلي: 

الأسرى كتبوا في كل صنوف الكتابة. كتبوا الرواية، والشعر، والمسرح، وحتى أدب الأطفال كتبوا فيه، والدراسات، والدراسات التوثيقية، عملوا مراكز أبحاث في داخل السجون. ونجحوا. ومجموع ذلك يُشكّل الرواية الفلسطينية على هذه الأرض، يُشكّل الروح الفلسطينية، الثقافة الفلسطينية.

أما لماذا لجأتُ إلى الرواية؟ لأن الرواية تستطيع أن تنقل المشهد بكل ما فيه من أحاسيس ومشاعَِر، وتُصوّر المشهد بكل أبعاده التي تجعل القارئ كأنه يدخل في الحَدَث نفسه، كأنه يدخل إلى التجربة ويُشارك الكاتب، القارئ يُشارك الكاتب، بما تحمل هذه الرواية من مشاعر، وبما تحمل من أجواء، ومن لغة جميلة مُشوّقة.

هذه الرواية هي صُنْف من أصناف الكتابة التي كانت في داخل السجون وخارج السجون أيضًا، لكنها ليست كل شيء. الشعر أيضًا شَحَنات من المشاعر الهامّة جدًا، التي تجعل الشاعر يبوح بما في صدره من أشياء جميلة وراقية وتنتمي.

 

لانا مدور: 

أستاذ وليد، الكتابة حرّرتك وأنت في السجن؟

 

وليد الهودلي:

بكل تأكيد. أنا وجدتُ نفسي، ووجدت أني أستطيع أن أُدوِّن. من خلال الكتابة، الكتابة كانت قارَب نجاة، وكانت بمثابة الجناح الذي أُحلّق به عاليًا، رغم أنْف السجّان، ورغم جُدران السجن العاتية.

 

لانا مدور:

شكرًا لك الكاتب والأسير المُحرّر وليد الهودلي، كنت معنا من رام الله.

 

وليد الهودلي: 

شكرًا لكم.

 

(فاصل)

 

لانا مدور:

ما رأيكم في أن تكون الأمّ وابنتها ناشرتين؟ ليس هذا فحسب، بل إن الإبنة لا تزال في الرابعة عشرة من عُمرها فقط، ولن أُفصح عن عُمر الأمّ، لكنها تُعدّ من الشخصيات المؤثّرة في عالم الطهو. تنضمّ إلينا الآن فاتنة ضاهر وابنتها تاليا، فأهلًا بكما. سنتحدّث اليوم عن كتاب فاتنة بعنوان "Fatna Recipes" المُتخصّص في الطهو ويضمّ أكثر من أربعين وصفة، إلى جانب كتاب "Betrayed by Love" الذي ألّفته تاليا كركي، إبنة فاتنة، وأهدته إلى والدتها.   

فاتنة، أتيتِ إلينا اليوم ومعكِ، أشمّ رائحة.

 

فاتنة ضاهر: 

أمور لذيذة. هذه الوجبة: كبّة بطاطا على الطريقة الجنوبية.

 

لانا مدور:

أستطيع أن أشمّ رائحة الكمّون والبصل والمُكوّنات الشهيّة. 

 

فاتنة ضاهر:

ولا تكتمل هذه الأطباق إلا بالخضروات الطازِجة. 

 

لانا مدور:

يبدو أنكِ لا تشاركين في مقابلة من دون أن تحملي معكِ شيئًا لذيذًا.

 

فاتنة ضاهر: 

الآن من أجواء الجنوب، لا بدّ من أن يكون هناك ما يُعبِّر عن هوية المنطقة.

 

لانا مدور:

فاتنة، أنت لست "شيف"؟

 

فاتنة ضاهر: 

لا، أنا لستُ "شيف"، لكنني درست بعض الدورات المُكثّفة، ما يُعْرَف بـ"ماستر كلاس"، ولكنني لستُ طاهية مُحْتَرِفة.

 

لانا مدور:

كيف بدأتِ رحلتك في عالم الطهو على إنستغرام؟ أنتِ معروفة جدًا على هذه المنصّة، =والنساء يتابعن وصفاتك بشغف. كيف بدأ هذا المسار؟

 

فاتنة ضاهر: 

في البداية، بدأت بنشر وصفات وأتواصل مع الشركات ليرسلوا لي مُنتجات مقابل أن أروّج لها. كنت أشتري الجبن مثلًا، أذكرهم في المنشور، وأشير إليهم، وأقترح أن أتعاون معهم. كان ذلك في عام 2014، أي منذ حوالى 11 سنة.

بدأ التفاعُل يكبر مع ظهور الفيديوهات القصيرة. لاحقًا، بدأت بالتعاون مع مجلة تُعنى بالمرأة العربية، كانوا يُنتجون لي فيديوهات قصيرة مدّتها دقيقة واحدة. وكنت أشاركها على صفحتي. في ذلك الوقت لم تكن الفيديوهات القصيرة شائعة كما هي اليوم. ثم ظهرت في برامج تلفزيونية أطبخ فيها مباشرة على الهواء، رغم أنني لم أكن حينها واثقة من نفسي تمامًا، بل كنت أقدّم الوصفات على طريقتي البسيطة. ثم قررت =إصدار كتاب خلال فترة جائحة كورونا.

 

لانا مدور:

نعم، فسّري لنا عن الكتاب. أولاً هو جميل جدًا، هو كتاب طهو غنّي بالصوَر، وقد أضفت فيه صوَرًا عائلية أيضًا. وهذا أمر جميل فعلًا، الصوَر مُشهّية جدًا، وتضيف الكثير إلى الوصفات.

هذه وصفاتك أنت؟

 

فاتنة ضاهر:

نعم، الوصفات كلها من تعديلي الشخصي. بعضها تعلّمته من طُهاة مُحترفين، مثل وصفة الكباب التي تعلّمتها من شيف تركي خلال دورة تدريبية. في كل وصفة، أرفقت ملاحظات شخصية أو قصة، كتبت التاريخ والسياق الذي تعلّمت فيه تلك الوصفة. 

 

لانا مدور:

الكتاب ليس فقط طَهْوًا، بل هو أشبه بسَرْدٍ قصصي.

 

فاتنة ضاهر:

خليط بين المأكولات والذكريات. مثلًا: مزجت "كريم باتيسيير" مع العُثْمليّة، وأعددت وصفة مفروكة بالقشطة بشكل تارت. أو حضّرت "براونيز" بالأفوكادو، أو مهلبيّة بطريقةٍ مُبْتَكَرة. الكتاب يعكس نكهتي الشخصية، هو خليط من أطباقٍ من مختلف البلدان، كما أن الوصفات تُشبهني أنا.

 

لانا مدور:

سنعود إلى الكتاب، لكن أريد أن أعرف كيف اكتشفت أنّ تاليا موهوبة في الكتابة.

 

فاتنة ضاهر:

تاليا عُمرها الآن 16 عامًا. حين بدأت تاليا الكِتابة كانت في الثالثة عشرة من عُمرها تقريبًا.

 

لانا مدور:

آه لماذا كنت أظنّ أنها لا تزال في الرابعة عشرة؟ أعتذر منك تاليا.

 

فاتنة ضاهر:

بدأت تكتب، لكن أنا لم آخذ الموضوع بجدّية في البداية. كانت تقول لي إنها وصلت إلى الصفحة 100 أو 200، لكنني لم أتصوّر حقّاً أن يتحوّل ذلك إلى كتابٍ حقيقي.

 

لانا مدور:

لحظة، دعينا ننتقل إلى تاليا لتتحدّث هي عن تجربتها. يبدو أن والدتكِ لم تُصدّق في البداية أنكِ تكتبين كتابًا؟

 

تاليا كركي:

صحيح، كانت تقول لي إنني فقط أكتب لمُجرّد الكتابة. لم تكن تُصدّق أنني فعلاً سأُنْجِز كتابًا.

 

لانا مدور:

لكن أنت كيف قرّرت أن نؤلّفي كتابًا؟ بدأت بالكتابة بعُمر الرابعة عشرة، أليس كذلك؟

 

تاليا كركي:

بدأت أكتب ببطءٍ منذ أن كنت في الثالثة عشرة، ولم أكتب كل شيء دفعةً واحدةً، إذ كنت أتوقّف وأعود لاحقًا، بحسب المزاج.

 

لانا مدور:

وهل كانت فكرة الرواية واضحة لديكِ من البداية؟

 

تاليا كركي:

لا، تطوّرت الفكرة تدريجاً. كنت أتعلّم من تجاربي اليومية، وشعرت أن كل يوم أعيشه هو فصل من فصول الحياة. 

 

لانا مدور:

تتعلّمين من الحياة. ماذا تتعلّم فتاة في الرابعة عشرة من عُمرها من الحياة؟

 

تاليا كركي:

ما تمرّين به، ماذا يحصل معك في المدرسة وهكذا، وبدأت أعكس هذه المشاهِد على الورق. مثلاً، شخصيّة الأمّ في الرواية فيها شيء من والدتي، وبعض الشخصيات مُسْتوحاة من صديقاتي، أو من معلّماتي.

 

لانا مدور:

لم تكوني مصدّقة أنها تكتب كتابًا، لكن عندما انتهى الكتاب، كيف نشرته لها؟

 

فاتنة ضاهر:

صديقتنا سارة عاصي ساعدتني كثيرًا. هي خبيرة تغذية، لكنها =قارئة نَهِمَة، وعادة ما تُهديني كتبًا. فكنت أريد شخصًا يفهم، حتى يُقرّر إذا كان هذا الكتاب صالحًا للنشر أم لا. بصراحةٍ عندما قرأته، لو كان بإمكاني أن أسمِعك التسجيل الصوتي، كانت تبني. لم تصدّق أن فتاة في الخامسة عشرة من عمرها كتبت هذا العمل. 

حتى أنا، بكيت أثناء قراءة بعض الفصول. الرواية ليست مُجرّد قصّة حب، بل تحكي عن فتاةٍ تسافر وتعمل وتنجح، وتُحاكي أهمية دور العائلة والأصدقاء في دعمها.

 

لانا مدور:

هناك شيء جميل في بداية الكتاب. تقول تاليا إنّ هذا الكتاب مُهْدى إلى والدتي. أنتِ كيف أثّرتِ على حياة تاليا؟

 

فاتنة ضاهر:

بالتأكيد. هي ترى كم أتعب، تراني أركض بين العمل والتصوير والكتب والدورات، وهي تُدرك أن النجاح لا يأتي صدفة، بل يحتاج إلى جهدٍ مستمرٍ وتعلّم دائم. لهذا بدأت تاليا تتأثّر، وتسألني: "لماذا ألّفتِ كتابًا؟"، ثم بدأت تشعر أنني أستمرّ في التطوّر، دائمًا أواكب الجديد. بالتأكيد، الآن هي تقول عني إنني ما زلت بحاجةٍ إلى الكثير، وهناك أشياء كثيرة لا أعرفها في التكنولوجيا، لكنها تلاحظ أنني لا أبقى في مكاني، بل دائمًا أتعلّم شيئًا جديدًا، أدرس شيئًا جديدًا، أقرأ كتبًا. شعرت أنّ هذا الأمر أخذ منّي كثيرًا.

 

لانا مدور:

كيف تُلْهمك الوالدة؟

 

تاليا كركي:

أشعر أنها تبذل قُصارى جهدها، وهذا شيء مؤثّر.

وهي أيضًا، في الرواية، نسيت أن أذكر، كانت تتحدّث عن كيف واجهت المجتمع، كيف ذهبت إلى العمل، كيف تعبت. فكان ذلك دعمًا من الأمّ، كيف تعبت وجربّت أن تقدّم أفضل ما لديها دائمًا، وأنا رأيت ذلك. منذ البدايات، كانت تقوم بأشياء، أولًا كانت تصنع "كب كيك"، وكنت دائمًا أراها وأحبّ ما كانت تصنعه.

 

لانا مدور:

ما أكثر ما تحبّينه في تطوّرها المهني؟ هل تحبّين أكلاتها أمْ لا؟

 

تاليا كركي: 

نعم، بالتأكيد، أحبّ أكلاتها كثيرًا.

 

فاتنة ضاهر:

اتّفقنا أنا وأنتِ ماذا نقول خلف الكواليس.

 

تاليا كركي:

لا أحبّ الطّبْخ، لكن أحبّ الأكل.

 

فاتنة ضاهر:

تاليا تحبّ "المغمور" كثيرًا.

 

لانا مدور:

وما أكثر شيء تحسّين أنكِ تعلّمته منها؟

 

تاليا كركي:

أن أحاول دائمًا أن أقدّم الأفضل. الناس الآن بدأوا يرون كم تتعب، لكن سابقًا لم يكونوا يرون هذا الشيء. وأنا أحبّ أن الناس بدأت تلاحظ ذلك.

 

لانا مدور:

اختاري لنا جُملة أو مقطعًا تحبّين قراءته لنا بعد قليل.

فاتنة، لماذا أصدرتِ كتابًا؟ أنتِ موجودة على وسائل التواصُل ومعروفة، فما الذي دفعك إلى إصدار كتاب؟

 

فاتنة ضاهر:

شعرت أنني أُصنّف فقط كمُدوّنة طعام، أو ما يُعرَف بـ"فود بلوجرز". الفود بلوجرز يذهبون إلى مطاعم لتذوق الأكل، أو يجرّبون وصفة منتشرة على تيك توك أو إنستغرام. لكنني كنت أحاول أن أُظهر أنني لست فود بلوجرز، بل إنني شخص يطبخ، يعرف النكهات، يتعلّم، يسافر ليتذوّق ويتعرّف على أشياء جديدة وثقافات مختلفة. يمكن أن يكون المرء طاهيًا حتى لو لم يكن دارسًا بشكل أكاديمي. كما أنه ليس ضروريًا أن تدرسي التمثيل لتصبحي ممثلة.

=هذا كان الجزء الأساسي: أردت أن أُظهر أننا نستطيع أن نفعل ذلك. حتى لو كنت أطبخ في المنزل، لكن طالما أنكِ تتعلّمين وتكتشفين أشياء جديدة، يمكنك أن تكوني تمامًا مثل الشيف المُحْتَرِف. 

 

لانا مدور:

تشعرين أنّ الكتاب أعطى صورة أكثر جدّية عنك؟

 

فاتنة ضاهر:

الفُرَص حين تأتي، أحيانًا تساعد الإنسان. في البداية، عندما بدأت الظهور، كنت أطلّ مباشرة عبر البثّ، وكان الأمر صعبًا جدًا عليّ. أحيانًا كانوا يتّصلون ويقولون: "نعتذر، مَن هي هذه الشيف التي لا تتحدّث؟"، كنت لا أستطيع التحدُّث. كنت أخجل، والمُذيعات كن يساعدنني ويملأن الفراغ. مررت بمواقف طريفة جدًا، كنت أطبخ الطبخة وأغادر. ثم لاحقًا شعرت أنني لا أريد أن أحصر نفسي في هذا المجال فقط، بل أريد أن أعمل مع علامات تجارية عالمية.

وبالفعل، عملت مع شركات لم تكن قد تعاملت مع أية مؤثّرة من قبل، بل فقط مع طُهاة مُحترفين. لم يكن لديهم تعاون مع أي "إنفلونسر".

 

لانا مدور:

إذاً الكتاب ساعدك على الدخول إلى مجالات أكثر؟

 

فاتنة ضاهر:

كثيرًا، ساعدني جدًا على الانفتاح على مجالات جديدة.

 

لانا مدور: 

هل اخترتِ لنا مقطعًا؟

 

تاليا كركي:

كنت أستيقظ كلّ يوم وأفكّر في أنني أريد إصلاح حياتي، ولكن هذه المرة استيقظت على فكرة بدء حياة جديدة.

 

لانا مدور:

جميل. هل ترغبين بالحصول على حياة جديدة؟ أم أنكِ سعيدة الآن؟

 

تاليا كركي:

أنا سعيدة في حياتي، لكني شعرت أن الشخصية في الرواية كانت تقول: "أريد حياة جديدة"...

 

لانا مدور:

فاتنة وتاليا، شكرًا جزيلًا لكما. 

 

فاتنة ضاهر:

استمتعنا جدًا. 

 

لانا مدور:

ما شاء الله عليكما، لم أتمكّن من التعبير عن مدى روعة العلاقة بين الأمّ وابنتها.

 

فاتنة ضاهر:

شكراً لكِ، عيونك الحلوة.

 

لانا مدور:

ونقول لكما: رمضان كريم، وشكرًا على الأكلات الطيّبة.

ومع هذه القصة الجميلة بين أمّ وابنتها، نصل مشاهدينا إلى خِتام حلقة "بين الكلمات" الأولى خلال هذا الشهر الفضيل. شكرًا جزيلاً لمتابعتكم، وإلى اللقاء.