الشيخ عبد اللطيف الهميّم - الباحث والمفكر الإسلامي العراقي
يُعرف بخطابه الديني الوسطي ودعوته إلى التعايش بين الطوائف ولعب دوراً بارزاً في إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب ضد "داعش". الباحث والمفكر الإسلامي العراقي الشيخ عبد اللطيف الهميم ضيف حلقة فودكاست الميادين.
نص الحلقة
<p> </p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: مشاهدينا أهلاً بكم إلى حلقة جديدة من فودكاست الميادين.<br />ضيف الحلقة اليوم هو الشيخ الدكتور عبد اللطيف الهميم، رجل دين وباحِث ومُفكّر إسلامي عِراقي، وُلِد في محافظة الأنبار غرب العراق.<br />كانت بدايته العلمية والدينية والثقافية على يد عُلماء وشيوخ الرمادي.<br />شَغِلَ منصب رئيس ديوان الوَقْف السنّي في العراق بين عامي 2015 و2020.<br />يُعْرَف الشيخ الهميم بخطابه الديني الوسطي ودعوته إلى التعايُش بين الطوائف.<br />حصل على الدكتوراه في الفُقْه الإسلامي، وله عدد من المؤلّفات في الفكر الإسلامي والسياسة، ولعب دورًا بارزًا في إعادة إعمار المساجد والمناطق المُتضرّرة من الحرب ضدّ تنظيم داعش.<br />واجه الشيخ الهميم تُهَمًا مختلفة خلال فترة الوَقْف السنّي، ونفى صحّة التّهم المنسوبة إليه.<br />نرحّب بك دكتور عبد اللطيف الهميم معنا في فودكاست الميادين.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أهلًا وسهلًا، حيّاك الله.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: أهلاً بك. هل نُناديك شيخ عبد اللطيف الهميم أمْ دكتور عبد اللطيف الهميم؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: كل التسميات مقبولة، منها عبد اللطيف.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: قَدْرُك عالٍ شيخ عبد اللطيف.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: حفظك الله.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: شيخ عبد اللطيف الهميم، بداياتك، هل تتذكّر شيئًا من الطفولة؟ كيف أصبحت رجل دين؟ على يد مَن تَتَلْمَذت؟ بمَن تأثّرت؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: الحقيقة، البدايات الأولى هي بدايات أي شخص عادي. البداية في المدارس الحكومية، وهي المدارس الإبتدائية في الحقيقة، وهذا في العصر المَلَكي. وكانت الحياة في ذلك التاريخ بسيطة وسهلة، ولا يوجد فيها كل هذه التعقيدات الموجودة اليوم. والحقيقة، وأنا في الإبتدائية، المرحوم عمّي الحاج محمود اللافي عرض عليّ أن أذهب إلى المدارس الدينية.</p>
<p>كنت رافِضًا لهذه الفكرة في البداية، لكني اضطرّرت إليها في المُحصّلة النهائية، لأنني كنت، وأنا صغير في ذلك التاريخ، أفكّر أن أذهب إلى المنحى العِلمي الأكاديمي. وكان في ذلك الوقت، الحقيقة، كثير من الشواغِل على الرغم من صِغَر سنّي، مثل الأمراض المُستعصية والمُزْمَنة، وكذلك موضوع القنبلة الذرّية والنووية، والصِراع الحاصل بين الشرق والغرب في ذلك الوقت، بين الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وبين أميركا وحلف الأطلسي. فكنت أرغب في أن أذهب إلى منحًى آخر غير المنحى التخصّصي في الجانب الديني والإسلامي.</p>
<p>إلا أنه، بمُجرّد أن وصلت إلى المدرسة الدينية، أخذت قرارًا على نفسي أن أتفوّق في هذا المضمار، والحقيقة القرار في وقته قرار طفولي ومُبْكِر جدًا، وهو ألّا أسمح لأحد أن يسبقني في هذا المضمار، والحقيقة عملت كل ما في وسعي في ذلك التاريخ.</p>
<p>الذي يحضرني في ذلك الوقت أننا، ونحن صغِار، كنا ندرس كُتبًا هي تُدرَّس منذ سقوط بغداد الأول سنة 656 للهجرة، وهي كُتب قديمة مُغْلَقة، عباراتها مُغْلَقة. وأذكر أنه في هذا الوقت قرأت كل هذه الكتب التي تُسمّى "عِلم الآلة" في ذلك التاريخ، واليوم أيضًا تُسمّى عِلم الآلة، وهي النحو، الصرف، المنطق، البلاغة، الفُقه. وكان الاهتمام الكبير هو في اللغة، الحقيقة، في العربية، يعني اللغة العربية وعلومها واشتقاقاتها. كان يتمّ التركيز في تلك المدارس على اللغة العربية، وكذلك على العلوم المُتّصلة باللغة العربية.</p>
<p>في ذلك الوقت، الحقيقة، كانت هذه الدراسات أدرسها وأقرأها =وأتفوّق فيها أيضًا، لكني، للأمانة، كنت مولَعًا بأن أذهب إلى دراسةٍ أخرى خارج الدراسات الصفّية. فاسْتَهْوَتني كثيرًا، في مطلع الأمر، الفلسفة للأمانة، فبدأت أقرأ الفلسفة لا على يد أستاذ، خصوصًا بعد مُضيّ ثلاث أو أربع سنوات في المدارس الدينية، بدأت أقرأ الفلسفة. قرأت أفلاطون، أرسطو، سقراط، الرواقيين، وكذلك ديموقريطس، درست كل الفلسفة القديمة تقريبًا، للأمانة، القديمة درستها.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: من أثّر بك أكثر من الفلاسفة؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: في ذلك التاريخ، الحقيقة، كانت الأمور مُختلطة عليّ. لم أكن حاسِمًا في ذلك التاريخ. تأثّرت، في مطلع الدراسات الفلسفية، بالإمام الغزالي. إلا أنني بعد ذلك رأيت أن إبن رشد واحد من الأساتذة الكِبار جدًا، والعمالقة، للأمانة تأثّرت بالفكر الحديث، بنظريات الجَدَل، لأني مؤمِن أن النظرية الجَدَلية هي الأكثر مُحاكاة للواقع.</p>
<p>علماء المسلمين اهتمّوا، الحقيقة، بمنطق أرسطو طاليس. ومنطق أرسطو لا يُقدِّم نهائيًا أية خبرة جديدة أو معرفة جديدة، لأن منطق أرسطو ينظر إلى الأشياء حال ثبوتها وسكونها، لا حال حركتها، في حين أن العالم مُتغيّر، ومنطق الصيرورة هو الذي يحكمه. وبالتالي، المنطق الجَدَلي كان أقرب إلى الواقع منه. ولذلك، الحقيقة، حقّق الغرب مُنْجَزًا لأنه لم يتبنّ منطقًا ساكِنًا ثابتًا غير مُتحرّك، مثل منطق أرسطو.</p>
<p>الإسلاميون اضطرّوا إلى الاعتماد على منطق أرسطو كثيرًا، كثيرًا، كثيرًا، لأن منطق أرسطو يُقدِّم ما يُسمّى "القياس البُرهاني"، والإسلاميون يعتقدون أنه من خلال القياس البُرهاني يمكن إثبات وجود الله سبحانه وتعالى. لكن القياس البُرهاني في حقيقته وجوهره لا يُقدِّم معرفة جديدة إطلاقًا، يعني: "هذا مربّع، وكل مُربّع مُتساوي الأضلاع، إذًا هذا مُتساوي الأضلاع". ما الذي أضافه هذا القياس؟ لم يُضِف شيئًا. لأنه ينظر إلى المُربّع كما هو، والمُربّع كما هو، مرُبّع مُتساوي الأضلاع، يعني هذه هي النتيجة، لا يُضيف أيّ شيء، في حين أن المنطق الجَدَلي، الذي اعتمده في البداية ديموقريطس، ثم الشكّاكين، ثم ديكارت، تطوّر فيه كثيرًا، ثم كان الفتح الكبير، الحقيقة، على يد هيغل، ومن بعده كارل ماركس.</p>
<p>كارل ماركس، على الرغم من ماديّته وطروحاته المُلْحِدة، إلا أنه على المستوى المنطقي الجَدَلي، قدَّم أيضًا دراسات عميقة وكبيرة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: أنت قرأت لماركس، شيخ عبد اللطيف؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: بلى. قرأت كل الكُتب المُتَرْجَمة، بالأخصّ "رأس المال" قرأته بعناية ودِقّة، قرأت "بؤس الفلسفة"، قرأت لينين، وقرأت للكل، حتى للفلاسفة المُعارضين لكارل ماركس</p>
<p>على العموم، تلك الفترة، الحقيقة، فترة كانت غنيّة جدًا، فترة الخمسينات والستينات، كانت فترة غنيّة جدًا، لأنها كانت تَحْتَدِم بصراعاتٍ فكرية، وتدافُع فكري كبير بين مجموعة من المشاريع: اليسار بكل تجلّياته، اليمين بكل تجلّياته، والإسلام السياسي بكل تجلّياته. كان صِراعًا كبيرًا في تلك المرحلة، والأحداث كانت كبيرة جدًا، والحسّ الوطني كان كبيرًا جدًا، يعني أمانةً، كان كل شيء رائعًا في تلك السنين.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: طيّب، شيخ، إسمح لي أن أسألك، لأنك درستَ في مدارس العهد المَلَكي، وبالتأكيد واكبتَ حُقبة الجمهورية إلى يومنا هذا. أيّهما أفضل بتقييمك: الجمهورية التي نعيش أيامها الآن، أم الملكية؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنظر، الحياة كانت بسيطة جدًا، وبالتالي في المُقارنات في العادة، حتى لا نُخطئ في المُقارنات، يجب أن نأخذ الظرف، والمجال، والبيئة التي نعيش فيها في تلك اللحظة.</p>
<p>في العصر المَلَكي، الحياة بسيطة. المدرسة كانت تهتمّ، تعتني عناية كبيرة بالطالب، الحقيقة، من الناحية التربوية والسلوكية، والأستاذ كان أستاذًا يُعدّ رمزًا، قُدْوة. المدرسة كانت أشبه ما يكون بمِحراب أكثر منه مدرسة، مثل المدرسة الموجودة اليوم. لكن هذا لا يعني أن المدرسة في العصر المَلَكي كانت أفضل بكثير من المدرسة اليوم، لأسبابٍ موضوعية.</p>
<p>الأسباب الموضوعية أن الحياة نفسها، الحياة بكل تجلّياتها، قد تغيّرت. كل شيء في الحياة قد تغيّر. أصبحت أكثر تعقيدًا، أصبحت الحياة مُركّبة ومُعقّدة، وليست سهلة وبسيطة كما كانت في العصر المَلَكي.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: عندك تقييم =مُعيّن؟ حتى وإنْ كان عاطفيًا؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: آه، التقييم العاطفي؟ لا، الحقيقة. المدرسة في العهد المَلَكي… عاطفيًا، أنا أنحاز إليها، عاطفيًا، عاطفيًا، ليس موضوعيًا، لأنه على المستوى الموضوعي، يجب أن نلحظ التغيّرات الكبيرة والهائلة التي حصلت على مستوى المجتمع، وكذلك على مستوى الأفراد، وتغيُّر السلوك أيضًا. لم تعد المنظومة، لا الفكرية ولا الأخلاقية، هي ذات المنظومة الفكرية والأخلاقية التي كانت سائِدة في العصر المَلَكي. </p>
<p>المنظومة تغيَّرت. وفي عِلم الاجتماع، الحِراك المجتمعي له ميكانيكيّات خاصة به. دائمًا، الحِراك المجتمعي يفرض قِيَمًا، يفرض قِيَمًا وسلوكيات جديدة، نحن لا نلاحظها، لكن مع مرور الوقت تُفْرض علينا. حتى التقدّم العلمي والتكنولوجي، هذا التقدّم الهائل، نحن نتصوّر أن هذا التقدّم هو مُجرّد تقدّم على مستوى الضوء والصورة وعلى مستوى الصوت، يعني نحن نعتقد أن الكهرباء عندما دخلت إلى المنزل، هي مُجرّد كهرباء. </p>
<p>لا، إطلاقًا. هذه ليست مُجرّد كهرباء. على مستوى عِلم الاجتماع، الكهرباء التي دخلت إلينا، دخلت معها منظومة قِيَم. أصبح الإنسان يخاف من الظُلمة، بينما في السابق لم يكن يخاف من الظُلمة. أصبح الإنسان اليوم، بالنسبة إليه، قُدْرته على الرؤية البعيدة أقل، لأنه تحيط به جدران وكهرباء وضوء. في السابق، كان مجال نظره الأفق كله، بكل امتداداته وطوله وبُعده.</p>
<p>فلذلك، الكهرباء عندما دخلت إلينا، لم تدخل هي مُجرّد كهرباء، وإنما دخلت معها مجموعة قِيَم.<br />حتى على مستوى القِيَم الفسيولوجية والبيولوجية، تغيّرت إلى حدٍّ ما.</p>
<p>ولذلك، أذكر قبل أربعين عامًا، أعتقد الكاتب "توفلر" كتب كتابًا من أروع الكُتب التي قرأتها: صدمة المستقبل. كان يوضح فيه أن هذا التطوّر التكنولوجي الهائل والكبير، ماذا سيُحْدِث على مستوى المستقبل. وأذكر أيضًا مسرحية إسمها الساعة الخامسة والعشرون، أعتقد لإحدى الشخصيات الفرنسية أو الإيطالية، كان يُسمّيها الساعة الخامسة والعشرون، كيف أن الإنسان في المستقبل سيتصرّف بطريقةٍ آلية وميكانيكية، لأن التكنولوجيا دخلت عليه.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: تقريبًا، اقتربنا من هذا الوقت.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أكيد اقتربنا من هذا الوقت. نحن اليوم نعيش في المرحلة النهائية من ثورة المعلومات، وأعتقد أن الجيل القادم، سيكون جيلًا مُذهلًا.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: إذاً أنت لديك رأي فلسفي في ما يتعلّق بتلك الفترة، لكن عاطفيًا، أنت لست مع عبد الكريم قاسم، أليس كذلك؟<br />حتى نغادر هذه النقطة: لستَ مع الحُقبة الجمهورية بكل ما تحمل؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنظر، ليست المسألة حبّاً أو كُرْهًا، الحقيقة. لا عبد الكريم قاسم، ولا عبد السلام عارف، ولا عبد الرحمن، ولا أحمد حسن البكر، ولا صدّام حسين... المسألة هي مشكلة الدولة العراقية.</p>
<p>الدولة العراقية تعيش مشكلة بنيوية منذ عام 1922، منذ تأسّست الدولة العراقية. مشكلة هذه الدولة هي "جَدَل الهوية". إلى اليوم، يعيش العراق "جَدَل الهوية". ما هي هوية العراق؟ يعني أنا أقول: "أنا عراقي"، ما هي هويّتي؟</p>
<p>المشكلة الثانية، بعد المَلَكية، على الأقل، كانت هناك رؤية. بعد 1958، لا توجد رؤية. اسألي أيّ شخص اليوم، قل له: "ما هي فلسفة الدولة في قيادة المجتمع؟"<br />أنا الآن، الجالس أمامك، عبد اللطيف الهميم، أسأل نفسي: ما هي فلسفة الدولة العراقية في قيادة المجتمع؟ والله لا أعرف.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: برأيك، ما هو السبب؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: جَدَل الهوية. لأنه بالأساس، الدولة القُطرية، ليس فقط في العراق — أخشى أن يزعلوا علينا — ما هو، نحن أيضًا نخاف أن يغضبوا علينا.</p>
<p>=الدولة القُطرية، عندما تأسّست، خرجت من رَحْم الاحتلال، سواء بريطاني أو فرنسي أو أميركي — أميركا لم تكن مُحتلّة بهذا الشكل —لكن خرجت من رَحْم الاحتلال.</p>
<p>وعندما خرجت من رَحْم الاحتلال، النظام الذي وُجِد فيها، هو نظام إدارة "سيستم"، وليس دولة بالمعنى الدقيق. المُحتلّ خلق في كل قُطر مشكلة، ومع هذه المشكلة خلق جَدَل الهوية، لأنه لم يُحدّد الهوية.</p>
<p>في معظم البلدان، حتى تلك البلدان المُتجانِسة دينيًا وقوميًا وطائفيًا... يعني دولة مثل ليبيا، مُتجانِسة قوميًا ودينيًا وطائفيًا. ليبيا سنّية على المستوى الطائفي، مسلمة سنّية، على المذهب الشافعي بنسبة أكثر من 90%، ويوجد قسم مالِكي، لكن لا توجد فيها مشكلة. مُتجانِسة قوميًا، عربيًا، دينيًا، طائفيًا. ومع ذلك، المُحتلّ الإيطالي صنع لليبيا غربًا وشرقًا وجنوبًا،<br />والصِراع اليوم الذي يدور، والذي دار في ليبيا لمدّة عشر سنوات من الموت، عشر سنوات من حروبٍ مسلّحة قاتِلة، قتلت الشعب الليبي، ودمّرت ثرواته… ما هي مشكلته؟ مشكلته: "غرب وشرق وجنوب". لا توجد مشكلة حقيقية.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: يعني إلى اليوم ما زلنا نعاني من تبعات الاستعمار.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: الدولة… يعني أحيانًا نُصرّح تصريحًا مؤذيًا قليلاً. أخي العزيز. الدولة القُطرية في معظم العالم الإسلامي — لا أريد أن أقول في كل العالم الإسلامي —الدولة القُطرية من طنجة إلى جاكرتا فشلت في إدارة ثلاثة ملفّات رئيسية تجعلها دولة.</p>
<p>الملف الأول: ملف التعدّد. إدارة التعدّدية لم تنجح فيها نهائيًا. في كل بلد توجد مشكلة في إدارة التعدّد، إدارة التعدّد والتنوّع. وأكاد أقول — لا أريد أن أُبالِغ — الدولة الملّية كانت أكثر إنصافًا في إدارة التعدّد من الدولة القُطرية. الدولة الملّية كانت أكثر إنصافًا وعدلًا وحِكمة في إدارة التعدّد والتنوّع من الدولة القُطرية.</p>
<p>النقطة الثانية: الدولة القُطرية لم تنجح في صياغة مشروع نهضوي حقيقي، لا للقُطر ولا للأمّة.<br />هذه النقطة الثانية.</p>
<p>النقطة الثالثة: الدولة القُطرية لم تنجح في إدارة الموارد المالية، ولم تنجح في صياغة مشروع اقتصادي حقيقي كبير.</p>
<p>ولديّ أمثلة عديدة، إذا أردت. بدأت النهضة في مصر مع اليابان في نفس التوقيتات. محمد علي، مشروع محمد علي، مصر أين وصلت واليابان أين وصلت. لم ننجح في الإدارة المالية إطلاقًا، في إدارة المال العام إطلاقًا. لم ننجح في صياغة مشروع اقتصادي حقيقي,</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: واضح.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: الدولة، عندما تفشل في ثلاث قضايا هي جزء أصيل من فلسفتها، إذًا هناك مشكلة في الدولة القُطرية. الدولة القُطرية فيها مشكلة كبيرة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: أعتذر على المُقاطعة.<br />نحن كنا نريد أن نتعرّف على حضرتك أكثر من الجانب الشخصي، لكنك جرّيتنا إلى القضية ودخلنا في موضوع الدولة.</p>
<p>بقيت لنا بعض الأسئلة لنغادر، وندخل في بعض القضايا العامة.</p>
<p>ما هي الطقوس التي يحرص عليها الشيخ عبد اللطيف الهميم بصورة يومية؟ وأنت شيخ، هل تعتبر نفسك شخصية مُثيرة للجَدَل؟ وإذا كنت كذلك، كيف تتعاطى مع النقد؟</p>
<p>هذه ثلاثة أسئلة في سؤال واحد.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنا سأجيبك من الآخر، لأن الأوّلية، الحقيقة، ما هي طقوسي في رمضان…<br />للأمانة، لا أريد التصريح بها، لأن هذه من "المخبوءات" التي أُريدها أمام الله سبحانه وتعالى، للأمانة يعني. فلا، لا أستطيع أن أعطيك.</p>
<p>لكني أنا في الحقيقة، في رمضان، عندما أدخل في… يعني ليس في رمضان فقط، في كل العبادات الموسمية… عندما =أدخل في النْسُك، أُغادر الحياة العامة بالكامل. لأن هذا النْسُك هو حقّ الله، وليس حقّي. وبالتالي، هذه من "المخضوع"، لا أُصرّح بها.</p>
<p>لكن السؤال الثاني: هل أنا مُثير للجَدَل؟ إذا لم أكن مُثيرًا للجَدَل، فلن أكون عبد اللطيف الهميم. إذا لم أكن على هذا الوصف، فلن أكون عبد اللطيف. بالتأكيد، الناس، في تقييم الآخرين، الشخص إمّا أن يكون "مُسْكوتًا عنه"، وهذا معناه أنه لا فعل له، أو أن يكون "مغضوبًا عليه بالمطلق"، وهذا معناه أنه سيّئ، أو أن يكون "مختلفًا عليه"، يعني: ناس تحبّه، وناس تكرهه؛ ناس تمدحه، وناس تُذمّه. هذا نسمّيه "الرجل السوّي". هذا في عِلم الاجتماع، هذا الذي لديه "حُسْن التوافق الاجتماعي"، الذي يختلف عليه الناس.</p>
<p>وبالتالي، بالتأكيد، أنا لو لم أكن على هذا الوصف، لما كنتُ عبد اللطيف.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لكنّك انتُقِدْت كثيرًا، ودائمًا ما تتعرّض إلى الانتقاد، بالتالي، كيف تتعاطى مع المُنتقدين؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: الحقيقة، أتعامل معهم بأريحيّة كبيرة، أنه من حقّ الآخرين، أنا لست شخصيّة مُغْلَقة أو معزولة، أنا شخصيّة عامة، وبالتالي الشخصيّة العامة، حتى في القانون — لأنني كتبتُ عن احترام الحياة الخاصة في الشريعة والقانون — حتى خصوصيّة الشخصيّة العامة تتقلّص بمقادير كبيرة على مستوى القانون، وكذلك على مستوى المجتمع.</p>
<p>فأنا شخصيّة عامة، وبالتالي أتعرّض لانتقادات، ويجب عليَّ أن أتحمَّل هذه الانتقادات، مع ملاحظة الآتي: أحد الشخصيات المُهمّة ذهب إلى محمد عبد الوهاب، أعتقد الموسيقار الكبير الذي تعرفه ونعرفه جميعًا، أعتقد عبد الحليم حافظ، وكان في بداياته، قال له: – "هناك نقد كبير عليَّ، والصحافة تتكلّم." قال له: – "هاتِ لي كل الصحف." جلب له الصحف، وإذا بعدد خمس أو ست صحف تتكلّم عليه.<br />قال له: "ضع هذه الصحف تحت قدميك." وضعها، وصعد. قال له: "أنت الآن أطول أمْ أقصر؟"، قال له: "أطول"، قال له: "خلاص، تعامَل مع الموضوع بهذا الشكل."</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: طيّب، شيخ، بنقطةٍ واحدةٍ قبل أن نغادر الملف الشخصي: الدكتور عبد اللطيف الهميم، هناك وصف ربما غريب، وربما صحيح أو خطأ، هو مصدر اكتسب احترام السلطة، يعني =لو تحدّثنا في العراق، قبل 2003 كنت مُقدّرًا من قِبَل السلطة، وبعد 2003 أيضًا كنت مُقدّرًا من قِبَل السلطة. لديك علاقات إقليمية شرقًا وغربًا ممتازة.</p>
<p>هل هذا الوصف صحيح؟ يعني أنت لديك علاقات طيّبة بالعرب، بالأنظمة العربية، كما لك علاقة طيّبة بإيران؟ ما سرّ هذا اللُغز؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: بالتأكيد، بالتأكيد، بالتأكيد لديّ علاقة طيّبة، لسببٍ موضوعي جدًا. أنا عملت في السياسة، منذ فترة مُبْكِرة، ومنذ الطفولة، قرأت وكتبتُ في الدولة أربعة كتب، وكتبت على هامش الدولة أكثر من كتابين أو ثلاثة، فقط في الدولة. وبالتالي، أنا "رجل دولة"، ورجل الدولة، عندما يتعامل مع الأحداث والوقائع، يتعامل بواقعية، خصوصًا وأنني أنتمي في السياسة إلى المدرسة الواقعية.</p>
<p>المدرسة الواقعية تتعامل مع دعامتين أساسيّتين: "العقلانية" و"الواقعية". العقلانية: ماذا تعني؟<br />تعني أن تحسب الكِلَف والأرباح والنتائج. والواقعية: أن تعرض المواضيع كما هي، لا كما تتمنّاها.</p>
<p>ولذلك، الحقيقة، بنيت علاقات قوية مع معظم القيادات في أكثر من مكانٍ وفي أكثر من جهة،<br />لأنني، عندما يُطْلَب مني رأي، هذا الرأي لن يكون رأيًا عاطفيًا بأية صيغة من الصِيَغ، وإنما سأعطيه بطريقة رجل الدولة الذي يحترم نفسه، يعني رجل الدولة الذي يحترم نفسه، والذي يقدّم الموضوع بطريقةٍ موضوعيةٍ كاملة، لا كما أتمنّى.</p>
<p>ولذلك، الحقّ، حقيقة، قسم من الإخوان قد يُصْدَمون أحيانًا من آرائي، وقسم آخر، لأنه يُدرك أن هذا الرأي هو الرأي الواقعي، يتبنّاه. وقسم... يعني المهم، هذا هو جلّ الموضوع.</p>
<p>كنت في السابق رقمًا، واليوم رقم، وسأبقى رقمًا إن شاء الله، إذا مدّ الله في عُمرنا.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: إن شاء الله، طيلة العُمر.</p>
<p>شيخ، كيف تصف التيّارات الإسلامية التي حكمت العراق بعد العام 2003؟ هنا لا أقصد فقط الشيعية، بل الشيعية والسنّية. تجربة الإسلام السياسي في الحُكم؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم:<br />حتى أكون مُنْصِفًا: تجربة الإسلام السياسي، ليس في العراق فقط، وإنما تجربة الإسلام السياسي في العالم الإسلامي، من طنجة إلى جاكرتا، مع الأسف الشديد، لم تكن تجربة ناجِحة.</p>
<p>هل اختارت أن تكون تجاربها غير ناجحة، أم أُريد لها أن تكون غير ناجحة؟ هذا بحثٌ آخر يحتاج إلى وقتٍ لدراسته. لكن التجربة، تجربة الإسلام السياسي، على مستوى الوطن العربي والعالم الإسلامي، تجربة فاشلة. قدَّمت نموذجًا سيّئًا لإدارة الدولة، هذا بالمُطلق. لأنها، الحقيقة، لم تستطع أن تقدّم رؤية، برنامجًا اقتصاديًا، برنامجًا سياسيًا، حلولًا للمشاكل التي يعانيها المجتمع،<br />سواء مشاكل الفقر أو البطالة، أو التعليم أو الصحّة... لم تستطع أن تقدّم نموذجًا لهذه الحلول، بدليل أن قسمًا منها، استلم السلطة وفشل، ولم يُنْتَخَب مرة أخرى في دول ديمقراطية تعرفها أنت وأنا، خصوصًا في بلدان المغرب العربي.</p>
<p>لكن هذا لا يعطي... هنا نقطة تحفظ، وهذه نقطة مهمّة جدًا، نقطة تحفظ. هناك، للحقيقة، قوى وجهات لها أغراض كبيرة، عندما تُهاجِم الإسلام السياسي وتقول إنه قدّم أسوأ نموذج، هي لا تقصد أن تقول إن الأحزاب الإسلامية قدّمت أسوأ نموذج فقط، بل أيضًا تقصد أن الإسلام نفسه هو أسوأ نموذج في قيادة الدولة. وهذا هو الخطر الكبير الذي يجب التنبّه إليه.</p>
<p>يجب أن نُفرّق بين "الأحزاب الإسلامية" و"الإسلام". الإسلام لم يفشل في قيادة الدولة ولا في قيادة المجتمع، عندما يُقْرأ قراءة حقيقية، وعندما يُقدّم برنامجًا ونموذجًا حقيقيًا لقيادة الدولة وفلسفة الدولة في قيادة المجتمع.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: عندنا أمثلة، شيخ؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: نعم، عندنا أمثلة عديدة، أخي العزيز. الإسلام قدّم نموذجَه بطريقةٍ =رائعة في أكثر من مرة على مستوى التاريخ. قدّم نموذجَه في الأندلس، قدّم نموذجَه في بعض مراحل الدولة العباسية، قدّم نموذجَه في بعض مراحل الدولة الأموية، قدّم نموذجًا على مستوى دولة الخلفاء، قدَّم نموذجًا رائعًا. وحتى الدولة المملوكية، التي ابتعدت كثيرًا عن الإسلام في مراحل، قدّمت نموذجًا أفضل من نموذج الدولة القُطرية.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لكن اليوم ليس لدينا مِثال حديث؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: ليس لدينا مِثال لسببٍ بسيط: لأن الأحزاب الإسلامية لم تستطع أن تقدّم برنامجًا حقيقيًا يتماشى ويتماهى مع مُتطلّبات الواقع وشروطه.</p>
<p>الواقع له شروط. له مُتطلّبات وشروط. وعندما لا تستجيب الأحزاب لمُتطلّبات الواقع وشروطه، تُخطئ كثيرًا. وهذه هي المشكلة الأساسية في الأحزاب الإسلامية.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: هل تُفرّق، عندما تتحدّث عن الأحزاب الإسلامية، شيخ، هل تُفرّق بين الشيعية والسنّية؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: إطلاقًا. كلهم فشلوا، شيعة وسنّة. حتى أولئك، ليس في العراق فقط، حتى أولئك الذين قادوا بعض البرامج السياسية في بعض الدول، فشلوا في تقديمها، بدليل أن قسمًا منهم حصل على 80% في أول انتخابات، وعندما أُعيدت الانتخابات، لم يستطيعوا الحصول على 10% أو 15%.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: هذه الأحزاب، لكن على صعيد الدول؟ </p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: حزب مثل المغرب، قاده الإسلاميون، لم يستطيعوا أن يقدّموا برنامجًا حقيقيًا لقيادة دولة، لم يستطيعوا، بدليل أنهم في الانتخابات القادمة لم يحقّقوا النتائج التي حقّقوها في الانتخابات الأولى.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لكن شيخ، هناك مِثال آخر يعطيك إيّاه البعض. هناك مَن يقول إن السعودية مثلًا، دولة إقليمية قوية في المنطقة، تتطلّع إلى المستقبل، وهي دولة إسلامية. وفي المقابل، إيران على صعيد دولة، ليس حزبًا.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنظر أخي العزيز، هذه الدول عاقلة وحكيمة ورشيدة. الدولتان اللتان ذكرتَهما، الرياض وطهران، عاقلتان وراشِدتان، لديهما قيادات عاقلة وراشدة.</p>
<p>لكن تقول لي: قيادات لها برنامج إسلامي بالمعنى الدقيق؟ أنا وأنت قد نختلف في هذا كثيرًا.</p>
<p>هناك فرق. هناك فرق. هناك فرق بين أن تكون لديك فلسفة إسلامية في قيادة المجتمع، وأن تكون لديك أخلاق إسلامية تقود المجتمع، وحكومة عاقلة وراشدة.</p>
<p>عندما تكون هناك أخلاق إسلامية وحكومة عاقلة وراشدة، ستؤدّي أداءً جيّدًا، أفضل من قسم كبير من الدول القُطرية، هذا مؤكّد، مئة بالمئة. لكن، هل هي، بالمعنى الدقيق، تملك فلسفة إسلامية في قيادة المجتمع؟ لا.</p>
<p>الموضوع، موضوع الإسلام السياسي، أو حتى الإسلام بمعناه كفلسفة، هو بنيوي. توجد فيه بُنى: بُنية اقتصادية، بُنية اجتماعية، بُنية سياسية، بُنية أخلاقية... وبالتالي كل هذه البُنى تمثّل الحراك المجتمعي الحقيقي داخل المجتمع. ليست فرضًا من فوق، ولا هي مفصولة عن المجتمع.</p>
<p>نحن اليوم، أخي العزيز، نعيش، أو ليس اليوم فقط، منذ فترة طويلة، نعيش فصلًا عِلمانيًا حقيقيًا داخلنا نحن كأفراد، يعني، نحن اليوم ننظر إلى شروط الصلاة ونواقِض الوضوء على أنها واجبة، وهي واجبة حقًا، ويجب علينا أن نفهمها. لكن اسأل أيّ فرد مسلم، بكل مستويات الوَعي، ما هي نواقض الحضارة؟ وما هي شروط النهضة؟ لن يعرفها. لأنه لا يملك جذورًا من التديّن في هذه الأمور، بينما معرفة نواقض الحضارة وشروط النهضة لا تقلّ وجوبًا شرعيًا، ولا تقلّ أهمية عن معرفة نواقض الوضوء وشروط الطهارة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: طيّب شيخ، نحن الآن نعيش تحوّلًا مُهمًّا في منطقتنا، وهي سوريا.</p>
<p>جماعة الحُكم الجديد التي وصلت، هي أيضًا تدّعي الإسلام السياسي.</p>
<p>كيف تنظر إلى مستقبل هذه الدولة، مع وصول النظام الجديد بهذه الأفكار؟ وأيضًا بشكل النظام؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: العزيز، أنا بخصوص سوريا، حتى أكون دقيقًا وواضحًا: سوريا، إلى الآن، لم تكتمل لديها التجربة. وبالتالي، يجب أن نترك لها المجال لكي تكتمل لديها التجربة، حتى يمكن تقييم هذه التجربة. بإنصاف وواقعية أتحدّث.</p>
<p>النقطة رقم إثنين: المشروع أكبر من سوريا، وأكبر من العراق، وأكبر من الأمّة — ربما بمقدار =الأمّة بالكامل. المشروع هو: فرض الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على المنطقة، والشرطي الجديد، هذا المِتراس المُتقدّم الذي صَنَعه الغرب — وهو الكيان الصهيوني — هذا المِتراس المُتقدّم يريد أن يفرض هيمنته على كل المنطقة، خصوصًا شرق البحر الأبيض المتوسّط إلى باكستان.</p>
<p>فلندع، فلندع، فلنُعطِ للنظام فرصة حقيقية وجدّية، ولا نكون عَوْنًا للشيطان عليهم. بالعكس، يجب أن نعطيه الفرصة الحقيقية، وأن نتعاون معه، بصَرْف النظر عن اختلافاتنا، مهما كانت اختلافاتنا كبيرة. لأنه، في المحصّلة النهائية، سوريا في عين العاصفة، في مواجهة إسرائيل، في عين العاصفة.</p>
<p>الكيان الصهيوني، مشكلته الحقيقية في شرق البحر الأبيض المتوسّط، هي مشكلة توراتية. لأن أميركا، أو مَن يقود أميركا، والكيان الصهيوني، يقرأون السياسة بطريقة تلمودية. والتلمود يُقرّر أن الضفة الغربية لهم — "يهوده والسامرة"، التلمود يقول إن نهر الأردن لهم، هم يقرأون نشيد الأنشاد على نهر الأردن. التلمود يقول، في نبوءاته: من النهر إلى البحر.<br />التلمود... التلمود مشكلة. مشكلة، مشكلة، مشكلة كبيرة جدًا.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني:<br />=طيّب، إسمح لي أن أسألك عن غزّة. أهالي قطاع غزّة يعانون من كل هذه المؤامرات لقتلهم وتهجيرهم من أرضهم... </p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم:<br />غزّة طولها قامة الكون. هذه ليست غزّة. هذه أنموذج للشرف، للبطولة، للكرامة، للكبرياء. نموذج للعفّة، للنجاة، نموذج للمقاومة الحقيقية. غزّة قدّمت عشرات الآلاف من أبنائها قرابين، على مذبح... ليس فقط على مذبح حريّتها واستقلالها، بل على مذبح كرامة الأمّة. هذه الأمّة التي أُهينت. والتي يريد نتنياهو أن يُمْعِن في إهانتها، من طنجة إلى جاكرتا، بهذا الشكل المُذلّ، المُهين. هذه =غزّة!</p>
<p>يكفي شيء واحد... يكفي أننا نرى آباء المُجاهدين، أمّهات المُجاهدين، ماذا يقولون؟ امرأة، أمامها أربعة من أبنائها شهداء، يسألها مراسل إحدى القنوات الفضائية: ماذا تقولين؟ تقول: الحمد لله. وتقول له باللهجة الدارجة: "خالوا، اللي بدو وطن يتحمّل". "خالوا... اللي بدو وطن يتحمّل". اختزلت كل التاريخ، كل تاريخ الصِراع، في عبارة واحدة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: أعتذر، أنا بدأت أقاطعك، لكن الوقت أيضًا بدأ يداهمنا.</p>
<p>شيخ عبد اللطيف، تتذكّر اليوم الذي أُعلن فيه عن استشهاد الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصر الله؟ أين كنت؟ كيف استقبلت الخبر؟ وكيف تنظر إلى هذه الشخصيّة؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنظر، والله، هناك شخصيات لا يجود بمثلها الزمن، إلا كل مئة عام، أو ألف عام. واحدة من هذه الشخصيات هو الشهيد حسن نصر الله.</p>
<p>أنا أتكلّم لك حتى تكون العبارة جامِعة مانِعة: هؤلاء، يا أخي، أبطال. هؤلاء قدّموا... هو، يحيى السنوار، إسماعيل هنية... هؤلاء قدّموا أرواحهم في سبيل قضية. في وقتٍ عزّ فيه مَن يُجْرَح من أجل قضية، عزّ فيه مَن يتكلّم من أجل قضية.</p>
<p>هؤلاء عشّاق مبادئ. هؤلاء ليسوا ممّن يعشقون البساط الأحمر، ولا من أولئك الذين يعشقون الخَمْر والنساء. لأن هذا المُلْك ضيّعه السُفهاء، عشّاق الخَمْر والنساء.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لكن، شيخ، الآن لو خُيّرت بأن تختار شخصية أو أيّ أحد في بالك، وتوجّه له رسالة — لمَن ستوجّه الرسالة؟ مَن ستختار؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم:<br />والله، سؤال مهمّ ومُحيّر. أنا سأوجّهها إلى هذا الرجل الطيّب، الذي يسير في الشوارع، في شوارع بغداد، في القاهرة، في الرباط، في طنجة، في الجزائر، في وهران، في طرابلس... إلى هذا الرجل الذي يعيش في جاكرتا، في كوالالمبور... هذا الرجل الذي يعيش في إسلام آباد، أو في طهران، هذا الرجل الذي يعيش في إسطنبول أو مالطا...</p>
<p>أوجّه إلى هذا الرجل: "هذا اليوم هو يومكم أنتم، في أن تصنعوا قَدَركم، وأن تصنعوا التاريخ. هذا اليوم هو يوم كل هذا الرجل الطيّب الذي يسير في الشوارع، هذا ليس يوم الطُغاة، بل هذا هو يوم الفُقراء."</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لكن، شيخ، أيضًا المصاعِب والتحدّيات في بلداننا كبيرة. نحن شعوب نعيش في بلدانٍ غنيّة في الغالب، لكن ليس لدينا مستقبل، لم نستثمر بخيراتنا، لم نرَ منها شيئًا، وحجم المؤامرة في هذه البلدان كبير، كما تقول حكومات بعض البلدان...</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: "الخير فيّ وفي أمّتي"، هذا حديث للنبي صلّى الله عليه وسلّم.<br />أنا أعتقد أنه سيخرج من رَحْم هذه الأمّة جيل جديد، قادر على أن يصنع للأمّة قَدَرها، جيل جديد قادر على أن يحرّرها من الأغلال التي كُبّلت بها، جيل جديد قادِر على أن يحقّق مُنْجَزًا حضاريًا على مستوى العالم. وهذا الجيل الجديد، سيكون بعد انفجار اجتماعي، وأعتقد أنه انفجار اجتماعي قريب، وليس بعيدًا.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: أنت الآن ذكّرتني، شيخ، ببيت شعر للراحل محمد مهدي الجواهري: سيخرج من صميم اليأس جيلٌ مُريدُ البأسِ، جبّارٌ عنيدُ.</p>
<p>تستمع للجواهري؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أكيد، نعم، أستمع له وأحبّه، الحقيقة لأنه شاعر مُبْدِع، وهذا… هذا خاتِمة الشعراء، خاتِمة شعراء العمود.<br />خاتِمة الشعراء. أقصد: القمّة، إي نعم… القمّة. القمّة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: لمَن تستمع أيضًا من الشعراء أو المُنشدين؟ مَن يستهوي أكثر، الشيخ عبد اللطيف؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أسمع الشعر كثيرًا. وأسمع لشعراء كُثُر، الحقيقة. ويعجبني الشعراء… الشعراء. تعرف، الشاعر… ليس كل قصائده هي بمستوى واحد، قسم من قصائده قصائد عملاقة، وقسم آخر لا… لكنه في الأعمّ الأغلب، أنا أستمع للشعراء… للشعراء العراقيين، شعراء سوريين، أستمع لأكثر من شاعر، الحقيقة. ويعجبني ويستهويني الشعر، لأن من الشعر… الشعر فيه حكمة كبيرة. حكمة كبيرة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: طيّب، طبيعة الشعر، شيخ… أخيرًا يعني: هل تستمع فقط إلى الأشعار الدينية؟ أم ربما تستهويك الأشعار الوطنية، أو أنواع أخرى؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: لا لا، أنا أستمع... أستمع لكل شيء. الغَزَل، والمديح، والحبّ، في كل شيء: الغَزَل، المديح، الحبّ، العشق، الهيام، العِرفان… وأستمع أيضًا للبطولة. يعني أستمع لكل الأشعار، والمديح النبوي أيضًا… يعني للأمانة، استماعي مُتنوّع، لست حريصًا على نوعٍ واحدٍ من الشعر.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: بقيت لديّ دقيقتان فقط، ولديّ أيضًا سؤال مهمّ، أتمنّى أن يُسعفنا الوقت.</p>
<p>مرحلة ديوان الوَقْف السنّي، وما تلاها من مشاكل للشيخ عبد اللطيف الهميم… كيف يمكن أن نعلّق عليها باختصار؟</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: الحقيقة، تجربة الوَقْف السنّي هي تجربة… بخيرها وشرّها،<br />مررتُ بها. وبالتالي أعدّها جزءًا من تجربتي الحياتية.</p>
<p>أنا أفخر، الحقيقة، بأني استطعت أن أحقّق كثيرًا من القضايا التي جئت من أجلها.</p>
<p>أولًا: الحملة الوطنية لمُناهضة =الغلوّ والتطرّف والإرهاب، أنا واحد من العوامِل المهمّة التي أنهت الطائفية في العراق، أنهت توطين الطائفية في العراق. المرحلة الأولى.</p>
<p>المرحلة الثانية: أنا الحقيقة ساهمت مساهمة كبيرة في موضوع النازحين، وغذّيت النازحين، ولا يوجد مخيّم في العراق إلا وذهبت إليه، ليس مرة ولا مرتين ولا ثلاث.</p>
<p>النقطة رقم ثلاثة: أنا أعدت توطين النازحين مرة أخرى، في الأنبار، وصلاح الدين، ونينوى، وحتى في ديالى.</p>
<p>النقطة رقم أربعة: أنا حقّقت، الحقيقة، المُصالحات الوطنية الكبيرة. التي في ديالى أكثر من عشر أو خمس عشرة مُصالحة كبرى، في بغداد، في الأنبار، في صلاح الدين... وأنا أعدّ نفسي — وهذا المهم — كل مرحلة لها ما لها، وعليها ما عليها.</p>
<p>لكن، الحمد لله، أنا لا أرى فقط الجانب المُشرق في أية مرحلة من المراحل، بل أنظر أيضًا إلى الجانب المُظلِم، وأعيد تقييمه في كل مرحلة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: طيّب، رسالة أخيرة منك، ومُخْتَصرة جدًا، إلى الشعب العراقي، ونحن مقبلون على انتخابات، والبلد أيضًا فيه الكثير من التحدّيات...</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: لا تضيّعوا بلدكم. بلدكم طوله قامة الكون، فلا تضيّعوه. لأن المؤامرة كبيرة.</p>
<p> </p>
<p>محمد زيني: شكرًا جزيلًا لك.<br />كنت معنا، الباحِث والمُفكّر الإسلامي، الشيخ الدكتور عبد اللطيف الهميم، في هذه الحلقة من فودكاست الميادين. شكرًا جزيلًا لك.</p>
<p> </p>
<p>عبد اللطيف الهميم: أنا سعيد جدًا. أنا سعيد جدًا بلقائك.<br />أشكرك، ومنّتك، الله يحفظك.</p>
<p>محمد زيني: شكرًا لك يا شيخ.<br />والشكر موصول لكم، مشاهدينا.<br />في أمان الله.</p>
<p> </p>