امرأة تتحدى المجتمع.. المصير هو قرار شخصي وليس قدراً
هل تعرفون امرأة تحدت المجتمع لتنتزع علمها بالقوة؟ هذه قصة رواية حنين الصايغ، "ميثاق النساء"، التي تلقى انتشارا ونجاحا واسعين، بحيث تتماهى معها النساء من مختلف الأعمار. وهل سبق لكم أن دخلتم رحلة وعيٍ وتغيير، واكتشفتم أن المصير هو قرار شخصي، وليس قدرا يأتي من السماء، هذا ما سنفهم أبعاده مع هادي صفا، الكاتب لـ"مصيرك قرارك". أما بشأن تمادي الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على لبنان وإجرامه في حق المكتبات ودور النشر، فنتحدث إلى محمد هادي، مدير "دار الرافدين"، عن تعرض الدار للتدمير في ضاحية بيروت الجنوبية.
نص الحلقة
لانا مدور: رمضان كريم. هل تعرفون امرأة تحدّت المجتمع لتنتزع علمها بالقوّة؟
هذه قصّة رواية "ميثاق النساء" للكاتبة حنين الصايغ، التي تلاقي انتشارًا ونجاحًا واسعين، حيث تتماهى معها النساء من مختلف الأعمار.
وهل سبق لكم أن خضتم رحلة وعيٍ وتغييرٍ، واكتشفتم أن المصير هو قرارٌ شخصيّ، لا قَدَرٌ يأتي من السماء؟ هذا ما سنفهم أبعاده مع هادي صفا، كاتب كتاب "قرارك مصيرك".
أما عن تمادي الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على لبنان، وإجرامه في حقّ المكتبات ودور النشر، فقد تعرّضت دار الرافدين للتدمير خلال الحرب العدوانية الأخيرة.
إذًا، مواضيعنا الليلة مُنوّعة وتستحقّ متابعتكم، مشاهدينا في بين الكلمات، فأهلًا بكم.
المحور الأول
لانا مدور: قرأتُ "ميثاق النساء" لحنين الصايغ في مرحلة تغييرٍ شخصيّ، فكانت تلك الرواية دافعًا للتمسّك والعناد في البحث عن استحقاقي كامرأةٍ وإنسان.
وإذا كانت بعض المجتمعات ترى أن استحقاق النساء لا يتعدّى دخولهنّ منزل الزوج أو إنجاب الأطفال، فإن هذه الرواية تكشف رأيًا مُخالفًا تمامًا، إذ نعيش مع بطلتها أمل رحلة تصميمٍ على الخروج من عباءة العائلة والتقاليد الدينية إلى دائرة تحقيق الذات عبر العِلم ومتابعة الدراسة الجامعية.
حنين الصايغ، أهلًا بك.
حنين الصايغ: أهلًا فيك.
لانا مدور: هل تعلمين كم تؤثّرين الآن في كثيرٍ من النساء من خلال هذه الرواية؟
حنين الصايغ: للحقيقة، صرت أعرف بسبب الرسائل التي تصلني والأشخاص الذين ألتقيهم وأتحدّث معهم. كل يوم تقريبًا تصلني رسائل بمثابة هدايا وعطايا من قارئات يقلن لي كم لامست الرواية مشاعرهنّ، وجعلتهنّ يشعرن أنهنّ مسموعات وأن مُعاناتهنّ يشعر بها أحد.
لانا مدور: لماذا هذه الرواية حقيقية لهذه الدرجة برأيك ككاتبة؟
حنين الصايغ: أنا ككاتبة شعرت أن الروايات اليوم، لا أريد التعميم، لكنها بالمُجْمَل تبتعد عن حقيقة حياتنا، عن مُعاناتنا، وعن قضايا مُلحّة يجب تناولها. أحببت أن أكتب شيئًا عن النساء، ولا أنفي عن نفسي تهمة "النَسَوية"، أي كتابة روايةٍ معنيةٍ بهموم المرأة ومشاكلها وبديهيات حقوقها التي تندرج تحت حقوق الإنسان.
لانا مدور: ما تعريف =النَسَوية بالنسبة لك؟
حنين الصايغ: النَسَوية صارت مُصطلحًا مشحونًا. كل مَن يرفضها يشحنها بمفاهيم سلبية، فيقول إنها "تحرّر" ويعتبرها شيئًا يُناقِض قِيَمنا كمجتمعٍ شرقي. لكن النَسَوية ببساطةٍ هي مساواة المرأة في حقوق الإنسان، أن تكون مثل الرجل، ببساطة: الحقّ في التعليم، الحقّ في تحديد المصير، الحقّ في الاختيار. هذه أمور بديهية، لم نخترعها نحن.
لانا مدور: هل قمتِ بثورةٍ في ميثاق النساء؟
حنين الصايغ: القارئات هنّ مَن تُحدّدن ذلك. لا أدري إن كنتُ فعلاً "قمتُ بثورة"، لكني وأنا أكتب الرواية شعرت بثورةٍ داخلية. دخلتُ أماكن مُظلِمة في داخلي، غُرَفًا مُظلّمة في النفس. في فصلٍ من الرواية أتناول فكرة "المُتربّص داخل الغُرَف المُظلِمة"، وهو الصوت الذي يلاحِق المرأة: صوت الممنوع، صوت الترهيب، صوت الشعور بالذنب، باعتبار أنّ المرأة تُحمَّل مسؤولية سمعة العائلة ومشاعر أهلها وكل مَن حولها. هذا الشعور بالمسؤولية تجاه الآخرين يتسرّب إليها ويؤثّر على حياتها وخياراتها، من دون أن تشعر.
لانا مدور: لكن هذا التسرّب لم يصلكِ أنتِ أثناء الكتابة؟ فقد وضعتِ رجال الدين الدروز والنظام الذكوري كلّه في المواجهة، وأنتِ امرأة وحدك.
حنين الصايغ: المجتمع الذي كتبت عنه مُغْلق، لكنّي أتلقّى رسائل كثيرة من نساءٍ في الريف المصري والخليج والعراق والأردن... أي من مجتمعاتٍ مُحافظةٍ كثيرة. لذا فهذه الرواية لا تخصّ المرأة الدرزية فقط، بل المرأة العربية عمومًا.
صودِف أن بطلة الرواية "أمل" تعيش في قريةٍ درزية، لأن هذا المجتمع أعرفه جيّدًا وأستطيع الكتابة عنه بتمكّن، لكنها رواية لكل النساء.
لم أضع نفسي في مواجهة المجتمع المُغْلَق بقَدْر ما أردت أن أقول إن هذا المجتمع يحوّل الجمود الفكري إلى فضيلة ويقاوم التغيير، لأن أيّ نقاش فيه يُحاط بالممنوع.
ومن القضايا التي طرحتها في ميثاق النساء قضية تعليم البنات في المجتمعات المُغْلقة بمختلف خلفيّاتها.
هل تضايَق منّي البعض؟ بالتأكيد. هل هناك مَن شعر أني أتدخّل في أمورٍ "لا ينبغي" أن تُقال؟ طبعًا.
لانا مدور: أنتِ لديك الشجاعة؟
حنين الصايغ: اكتشفت في ما بعد أنني كنت شجاعة فعلًا وأنا أكتب. الرواية ببساطةٍ تبدأ بفتاةٍ صغيرةٍ يمنعها التزام أهلها الديني من التعلّم، فتخرج خِلْسة لتسجيل نفسها في الجامعة الأميركية، وهي لا تعرف حتى أين تقع جغرافيًا. نحن نتحدّث عن تمكين المرأة، وهل من تمكينٍ أجمل وأهمّ من التعليم؟
لانا مدور: تقولين إن "أمل" تتقاطع معكِ في كثيرٍ من الأمور، طبعًا انطلاقًا من البيئة التي انطلقت منها. لكن سؤالي: هل حرّرت حنين؟
حنين الصايغ: إلى حدٍّ ما، نعم، لأننا جميعًا أسرى الهموم والأعباء النفسية التي نحملها. وعندما نكتبها على الورق تتحوّل من مشاعر إلى كلمات، فنفهم أنفسنا أكثر، ونفكّ كثيرًا من العُقَد في داخلنا. لكن أن أقول لك إنّ كل شيء داخلي تغيّر، لا، أنا منطقية.
لانا مدور: ما أكثر ما حرّرتكِ منه "أمل"؟
حنين الصايغ: من الشعور بالذنب بكل مصادره ومنابعه، وبالطريقة التي يتسرّب بها إلى النساء.
لانا مدور: الشعور بالذنب.
حنين الصايغ: نحمل ذنوبًا تجاه أهلنا، أولادنا، شركائنا... ولا أعرف لماذا يقترن الشعور بالذنب بالأمومة بهذا الشكل القوي والمُخيف.
لانا مدور: ولكن أمل تركت زوجها واتّخذت قرار =التحدّي للمجتمع في الحب أيضًا وليس فقط العِلم.
حنين الصايغ: صحيح. أمل اتّكأت على عكّازيْ العِلم والعمل لتغيير مصيرها، والحب جاء لاحقًا. لا يستطيع الإنسان أن يحبّ بصدق إن لم يكن واضحًا مع نفسه. ومَن لا يحبّ نفسه لا يستطيع أن يحبّ الآخر.
وأمل بحسب الرواية، زُوِّجت، زُوِّجت وليس تزوَّجت، لأنّنا لا نستطيع أن نقول إنّ مَن يبلغ 16 عامًا هو اختار، فهي لم تكن مؤهّلة للاختيار، فزُوِّجت باكرًا.
لانا مدور: أنتِ تزوَّجت باكرًا أيضًا.
حنين الصايغ: صحيح، وأنا أيضًا مررتُ بتجربة زواجٍ وانفصالٍ. لذلك أقول: من الأفضل أن نكتب عن قضايا نعيشها أو نفهمها من الداخل، لأن الصدق في الكتابة لا يأتي من الخيال فقط.
لانا مدور: لكن تستطيعين أن تتخيّلي. ليس ضروريًا أن يعيش الكاتب كل ما يكتبه، صحيح؟
حنين الصايغ: ميثاق النساء خير دليل على أن الخيال يمكن أن يتقاطع مع التجربة الشخصية، وهذا ما قصدته ليصدّقها القارئ وتبدو حقيقية.
لانا مدور: إذا كانت "أمل" حرّرتك من بعض الجوانب، لكن هل قيَّدتك أيضًا؟ بعدما صدرت الرواية وأحبّها الناس، هل أصبحت هناك قيود عليكِ كإنسانةٍ مُبْدِعة، ككاتبةٍ بحاجةٍ إلى حريةٍ في الكتابة؟
حنين الصايغ: سؤالك ذكيّ جدًا. شوفي، أول مرة كنت أكتب الرواية، القارئ لم يكن موجودًا في عالمي، لم يكن هناك قارئ أصلًا.
لانا مدور: لمَن كنتِ تكتبينها؟
حنين الصايغ: كنت أحبّ، كما هو مكتوب في أول الرواية، أن أخبر ابنتي عن مُعاناة النساء اللواتي كنت أراهنّ وأتألّم لأجلهنّ. وقلت: ابنتي صغيرة، لا تستطيع أن تقرأها قبل أن تكبُر، بالأخصّ لأن لغتها الإنكليزية أقوى بكثير من العربية. فقلت: سأكتب لها، لتلك القارئة الواحدة، ابنتي. ولهذا أهديتها الكتاب في البداية.
لانا مدور: الآن فَهِمت الإهداء: "اعذريني لأنني لم أكن بكامل قوّتي، كنت أربيّك يا صغيرتي وأربّي نفسي، سامحيني."
حنين الصايغ: تمامًا. عندما أنجبت ابنتي، كان عُمري 24 سنة، كنت طفلة تقريبًا. كنا نرجع إلى المجتمع المُغْلق. أنا عشت في قرية طوال حياتي، وعندما انتقلت إلى المدينة لأذهب إلى الجامعة لم تكن لديّ آليات التعامُل مع العالم. أبسط الأمور، أن أدخل مكتب التسجيل، كانت تُرعبني. كنت أنهار من الداخل وأنا داخلة أسجِّل.
الموضوع بسيط. تخيّلي أن طفلة تُنْجِب طفلة وهي غير قادرة على التوجه إلى شخص غريب لتتحدّث معه في مكتبٍ من المُفترض أن يكون لخدمتها، موظّف في الجامعة! إلى هذا الحدّ كانت آليات التعامُل مع العالم غير موجودة، لأن المجتمع مُغْلَق، وأنا لم أكن أرى أحدًا خارج هذه "الكوميونتي".
الآن، بالعودة إلى سؤالك، المهم جدًا: عندما كنت أكتب الرواية، القارئ لم يكن موجودًا، والناشر لم يكن موجودًا، لأني لم أكن أعرف إن كانت ستُنْشَر أصلًا أو تُقْبَل أم لا.
الآن الوضع اختلف. الرواية انتشرت بشكلٍ، يعني، بشكل لم يتوقّعه أحد.
لانا مدور: وترشّحت للبوكر.
حنين الصايغ: وجاء معها حبّ كثير وغضب كثير من نساء ورجال. بالتالي، كتبت روايتي الثانية، المُفترض أن تصدر بإذن الله في سبتمبر/ أيلول أيضًا عن دار الآداب.
لانا مدور: آه، تشجّعت وكتبت.
حنين الصايغ: ولكن قاوَمت جدًا فكرة "القارئ" الموجود في خلفيّة رأسي. قاومته. بكل ما أستطيع، كنت أجرّب أن أقول له: "أنت غير موجود"، لأنني خرجت إلى الضوء، وكنت سعيدة بالعَتْمة، كنت أكتب بيني وبين نفسي. كان الموضوع شخصيًا.
لانا مدور: تسلّلنا إلى عالمك إذًا. لكننا نريد أن نشكرك. هذه أول رواية، وفيها نوعية أدبية وسرد رائع منذ الصفحات الأولى. حنين، فعلاً، حقيقة، أعتقد أن كل مَن قرأ روايتك كان لديه نفس الشعور.
لكن أيضًا، عندما تشجّعتِ وكتبتِ رواية ثانية وقرّرتِ أن تكسري هذا الحاجز... كنا نتحدّث أنا وأنت قبل قليل، أنه لو فزتِ بالبوكر، ماذا سيحصل لك؟
حنين الصايغ: عندما قالت لي دار النشر إنها ستُرشِّح الرواية، جزء صغير مني قال "نعم، هذه مادة تصلح للجوائز"، كما رآها الناشر، لأن دار الآداب تعرف نوعية الجوائز، لكن الجزء الأكبر مني قال: "لا أريد". أنا لم أكن أريد أن تُرشَّح، نعم، لأنني أعرف أن كثيرًا من الزملاء، بمجرّد دخولهم في الـ"لونغ ليست" أو الـ"شورت ليست"، تأتي موجة محبّة وتهنئة، لكن أيضًا تأتي موجة كبيرة من... لا أعرف إن كنت أسمّيها كُرهًا.
لانا مدور: لماذا تحملين هذا الكُره إلى هذا الحدّ؟ لماذا هذا الثِقل على نفسك وعلى نفسيّتك؟
حنين الصايغ: أعتقد أننا جميعًا لا نحبّ أن نُكْرَه، نحن كبشر نريد أن نُحبّ. لكن سؤالك مهم ومعك حقّ. يجب أن أركّز أكثر، وبالأخصّ أني في ميثاق النساء كنت أكرّر دائمًا فكرة أن ما نُركّز عليه ينمو. أنا أحاول كثيرًا أن أركّز على مَن أحبّوني وأرسلوا لي رسائل تشجيع، وأتمنّى أن أقدر دائمًا أن أفعل ذلك.
لكن أحيانًا، يخرج الموضوع عن السيطرة، ولم أكن أريد أن أحمله، خصوصًا أنها رواية أولى. لم أكن أريد أن أضع رواية أولى على الطاولة وتحدث نجاحات كبيرة، ثم أُوضَع تحت المِجْهَر، وبعدها، مهما قدّمت، يبدأ الناس بالمُقارنة، ولا يعجبهم شيئاً.
لانا مدور: تشجّعي، تشجّعي، سيعجبهم، أصلًا الموضوع ليس بيدك.
هل كانت فكرة الرواية جاهزة من أوّلها إلى آخرها عندما بدأتِ كتابتها؟
حنين الصايغ: بمُعظمها، نعم.
لانا مدور: تعلمين يا حنين، كثير من النساء عشن تجارب مُتعدّدة تشبه تلك التي عاشتها "أمل"، بطلة شخصيّتك، وعشن أيضًا تجارب أخرى. ولذلك نحن نحبّ الآن أن تنضمّ إلينا واحدة من أبرز الناشِطات النسويات للحديث عن تجارب النساء من منظورٍ عربي. وأعتقد أن مشاكلنا، نحن النساء، موجودة في كل المجتمعات.
هناك رواية إسمها إيجد لكاتبةٍ أميركية، كانت أيضًا تتحدّث عن موضوع التعليم ومَنْع النساء منه، وكيف استطاعت البطلة أن تكسر الحاجز ذاته. فإذًا، هذه المشاكل موجودة في كل المجتمعات.
ستنضمّ إلينا الآن مريم ياغي. مساء الخير، وأهلًا بكِ مريم.
مريم، أنتِ أيضًا لديكِ تجربة في تحدّي كثير من الأمور التي واجهتِ فيها المجتمع وواجهتِ فيها نفسك. وأنا أقول إن مواجهة النفس هي التي تمكّنك من مواجهة المجتمع كامرأة، أو حتى كإنسان.
فإذاً، لو تُخبرينا عن تجربتكِ باختصار، كيف يمكن أن تضعيها في كلمات؟
مريم ياغي: كانت تجربتي، تستطيعين أن تقولي، خليطًا بين مواجهة منظومةٍ أبوية، ومواجهة أفكارٍ دينية أو موروثاتٍ دينية، ومواجهة قوانينَ وأعرافٍ أبوية. ولحدٍّ ما، مثلما تفضّلت ضيفتكِ العزيزة، شعرتُ كم هو مهمّ أن ينطلق أيّ شخصٍ يثور أو يتمرّد أو يحمل قضيةً من تجربته الذاتية، وأن يكون صوتَ الأخريات من خلال تجربته الخاصة. لأنكِ عندما تنطلقين من الأرض ومن التجربة، تكونين أكثر فَهْمًا للمُعاناة، وأكثر إدراكًا لحاجات الشخص الذي تتحدّثين عنه. فَهْم التجربة في أية روايةٍ أو سرديةٍ مهم جدًا جدًا جدًا.
لانا مدور: مريم، كيف تصفين تحرّرك؟
مريم ياغي: نحن نسعى إلى أن نكون أحرارًا قَدْر المُستطاع، وأن نتحرّر من عقلية "الضحية"، لأن المجتمع نفسه هو الذي فرض علينا هذه الأعراف الأبوية الظالِمة، ووضعنا في صندوقٍ لا نقدر أن نخرج منه، وهو نفسه الذي يريدنا أن نسير في حياتنا بعقلية الضحية.
نحن ناجيات حتى اليوم. والتمسّك بالقوّة، والحقّ، والإرادة، والتمسّك بأننا صاحبات حقوق لا يمكن لأحدٍ أن يمنّ علينا بها، هو ما يجعلنا نواجه هذه المنظومة.
لانا مدور: طبعًا، عندما يُقرّر الإنسان أن يواجه المجتمع، عليه أن يواجه مخاوفه أولًا.
مريم ياغي: مئة بالمئة. أنا أقول إن أول عدوٍّ للمرأة، أو للإنسان عمومًا، هو جهله بما هو قادرٌ عليه، وجهله بحقوقه.
أول عدوٍّ للمرأة هو الجهل: الجهل الذي يمثّله الرجل الجاهل، أو الشريك الجاهل، أو المجتمع الجاهل، أو الأعراف الجاهلة.
وبالمقابل، الموروثات التي تجعل المرأة تظنّ أنها لا تستطيع أن تتمرّد أو تطالب بحقٍّ لها، وأن الأدوار المفروضة عليها هي الأدوار التي يجب أن تلتزم بها.
بطبيعة الحال، ليس سهلًا أبدًا أن تتّخذ أيّة امرأة قرار التمرّد على ما ورثته.
الآن، ومن منطلق تجربتي الشخصية، لا أقول إنه كان سهلًا أبدًا. الموضوع يحتاج إلى إرادة، وإلى إيمانٍ بأنني أستطيع، حتى ولو لم أحصل على الدعم من المحيط، أو حتى لو واجهت الرفض من المحيط، لأنني أتمرّد على الأدوار والتوقّعات الاجتماعية المفروضة عليّ، الأدوار المفروضة من المحيط، من العائلة والمجتمع. لم يكن الأمر فقط غياب الدعم، بل رفض فكرة أني أتمرّد. كنت أؤمِن أن هذا المكان ليس لي.
لانا مدور: كلامك مهم جدًا، لأنه يُعيدنا إلى مسألة الاستحقاق، أي معرفة المرأة لاستحقاقها الذاتي. وهذا أيضًا واضح عندكِ يا حنين في الرواية، لأن أمل كذلك بحثت عن استحقاقها. لأنه عندما تكونين في مجتمعٍ مُغْلق، تكونين فردًا ضمن جماعة، حتى لا أعرف إلى أيّ حدٍّ يمكن للفردية أن تكون ممكنة في هذه المجتمعات. فكيف وجدت أمل استحقاقها؟
حنين الصايغ: إذا لاحظنا في الرواية، هناك خطٌّ خارجيٌّ للأحداث وخطٌّ داخليّ. دائمًا كانت أمل تتفكّر وتُحلّل تصرّفاتها لتفهم لماذا تتصرّف بطريقةٍ معيّنة. مثلًا، في الجامعة الأميركية، رأت نفسها من زاويةٍ ضيّقة، وقالت: "شعرتُ كأنني بضاعةٌ مُهرّبة، وكأنني لا أستحقّ أن أكون في هذا المكان."
طبعًا هذا الشيء نابع من طريقة التربية، لأن القرارات وكل ما هو جوهري في المجتمعات المُغلقة يأتي من السلطة، من رأس الهرم، وبالتالي الفرد لا رأي له، وليس له شيء. الرضا على المرأة في هذه المجتمعات يأتي من خلال الطاعة، وبالتالي يرتبط أمانها النفسي بالطاعة.
سألتني قبل قليل: لماذا لا أحبّ أن أكون مكروهة؟ لأننا نحن النساء، ليس فقط في المجتمعات المُغْلقة بل عالميًا، أماننا يأتي من أن نكون محبوبات ومرضيًّا عنّا. لكنني دائمًا أوجّه لنفسي هذا النقد وأقول: حسنًا، اكتشفنا العيب، الآن وقت التنفيذ، الآن وقت أن أتقبّل أن الآخر لا يوافقني، لا يحبّني، لا بأس. يمكننا أن نتناقش ونتحدّث باحترام.
لكن هذا الاستحقاق يأتي من مُراقبتك لأنماط التفكير والتصرّف في داخلك.
لانا مدور: مريم، إذا أردتِ أن أختم معك، وانطلاقًا مما قالته حنين، هل تعتبرين نفسكِ اليوم في المكان الصحيح، أم] تمرّين بلحظاتٍ تندمين فيها على المواجهة؟
مريم ياغي: طالما أنني أبحث في ذاتي لا في الآخرين، فأنا في المكان الصحيح. طالما وضعتُ توقّعات الآخرين عني جانبًا، وأسعى للتحرّر من أيّ موروثٍ يحدّ من أن أكوّن نفسي، فأنا في المكان الصحيح.
طبعًا، كلّنا نحمل ترسّبات من المجتمع، =لأنها زُرِعَت فينا، لكني أسعى جاهدًة لأن أتحرّر من أيّ موروثٍ من شأنه أن يمنعني من أن أكون أنا.
لانا مدور: شكرًا كثيرًا مريم، كلامك جميل جدًا. وشكرًا لانضمامكِ لنا في هذا النقاش مع حنين الصايغ.
شكرًا لكما فعلاً، كان نقاشًا ثريًا جدًا، نسائيًا ومُلهمًا. ونتمنّى أن يكون قد ألهم كثيرًا من النساء اللواتي يتابعننا.
المحور الثاني
لانا مدور: ماذا لو قلتُ لكم إن كل واحدٍ منا بإمكانه أن يختار مصيره؟ هل تصدّقونني؟
ربما ليس الأمر بهذه البساطة، ولكن الحياة دائمًا تقدّم لنا خيارات، لنتّخذ منها ما نراه مناسبًا لأهدافنا.
هذا هو جوهر الكتاب الذي نشره هادي صفا، والذي يُلخّص فيه تجربةً مُلْهِمة جدًا في السعي للنجاح وتطوير الذات.
أهلًا بك هادي. أنت استشاري ومُدرّب إداري ومتحدّث في مجال تطوير الذات.
الكتاب إسمه "قرارك مصيرك".لماذا اخترت هذا الإسم؟ هل فعلاً القرار هو المصير؟
هادي صفا: الحياة إجمالًا هي 10% مما يحدث لنا، و90% هي ردّة فعلنا على الأشياء.
أحيانًا يحدث نفس الحدث لشخصين أو ثلاثة، لكن ردّة فعل كل واحد منهم هي التي تصنع مصيره لاحقًا.
هذا إذا كنا نتحدّث عن القرارات.
لانا مدور: ما أهمّ قرارٍ اتّخذته في حياتك حدّد مصيرك؟
هادي صفا: هناك أشياء كثيرة، كثيرة جدًا. من القرارات الصغيرة إلى القرارات الكبيرة.
القرارات الكبيرة مثل: ماذا تدرس؟ أين تدرس؟ مَن هو الإنسان الذي ترتبط به؟ هل تُنْجِب طفلًا أم لا؟ كيف تربّي ابنك؟
هذه القرارات الكبيرة. أما الصغيرة، فـ90% من حياتنا هي قرارات صغيرة: في أية ساعة تستيقظ؟ في أية ساعة تنام؟ مع مَن تخرج وتدخل؟ مَن هم أصدقاؤك؟ ماذا تأكل؟ كيف يكون روتين يومك؟
هذه كلها تفاصيل صغيرة لكنها في مجموعها تشكّل حياتك بالكامل. أشياء بسيطة قد لا ينتبه لها الإنسان، لكنه يقول "ماشي الحال"، ثم تصبح عادة. والعادات تصنع نمط الحياة، ونمط الحياة يصنع القَدَر.
لانا مدور: جميل جدًا.
أنت القَدَر كان معك منذ البداية، لأنك كنت تريد أن تدرس شيئًا واضطررت إلى ترك الدراسة.
هادي صفا: صحيح.
لانا مدور: كانت حياتكم العائلية صعبة وحدثت تغييرات كبيرة.
هادي صفا: كانت مُتوسّطة جدًا.
لانا مدور: ما الذي حصل؟
هادي صفا: رجعت إلى البيت يومًا، كنت سنة أولى في الجامعة الأميركية في بيروت.
لانا مدور: ماذا كنت تدرس؟
هادي صفا: كنت أدرس إدارة الأعمال.
رجعت إلى البيت يومًا، فوجدت والدي في المنزل، مع أنه عادة لا يعود قبل السابعة أو الثامنة مساءً، إذ كان يشغل منصب مساعد مدير عام في شركة مصرفية.
قلت له: "ما القصة؟" قال: "تشاجرت مع رئيسي، مع صاحب البنك، ولم يبقَ غيري وهو."
فقلت: "حسنًا، مشكلة وتُحل". مرّ يوم، يومان، ثلاثة، أسبوع، شهر، وانتهى الفصل الدراسي.
طيّب، كيف أكمل؟ لم أعد أستطيع أن أكمل.
دخلت ودرست دبلوماً في إدارة الفنادق، تخصّص ينتهي بسنة ونصف السنة، فقلت: "أنهيه وأدخل العمل."
ثم جاء الجيش، كانت الخدمة الإلزامية ما تزال موجودة، فأنهيتها، ثم ألغوها بعد ذلك بوقتٍ قصير.
بعد الجيش، بدأت أول عمل لي في فندق "فينيسيا" بعد إعادة افتتاحه. كنت مُتدرّبًا براتب 100 دولار في الشهر، لمدّة شهرين أو ثلاثة، ولم تكن الوظيفة مضمونة بعدها. لكنني أثبتُّ نفسي، وبقيت معهم فترة، ثم انتقلت إلى شركة ثانية، وثالثة.
وأثناء عملي، عدتُ ودرست الإجازة في إدارة الأعمال، وبعدها أكملت الماجستير، ثم الدكتوراه في إدارة المواهب وإدارة الموارد البشرية، وهو أول قسمٍ كنت قد عملت فيه في أول وظيفة لي.
لانا مدور: الحياة رسمت لك طريقك إذًا، أو بالأحرى قراراتك رسمت طريقك؟
هادي صفا: القرارات أكثر. الحياة تأتي وتضع أمامك مشكلة، ونحن بالفطرة، منذ أن نفتح أعيننا حتى آخر يومٍ في عُمرنا، نقوم بشيءٍ واحد فقط: حلّ المشاكل.
لانا مدور: واو، جميل.
هادي صفا: ومع الوقت، يصبح المشهد سهلًا عليك، تعرفين كيف تحلّينه، ثم تنتقلين إلى الذي بعده، وهكذا.
حياتنا عبارة عن تشغيلٍ دائم لعقولنا لحلّ المشاكل، وهذا ما يحرّكنا في الحياة. يسمّونه بالإنكليزية Human limited motivation: أي أن ما يحرّكنا هو حلّ المشكلات.
فطريقة ردّة فعلنا على ما ترميه لنا الحياة من تحدّيات هي التي تصنع الفرق. هناك مَن يراها تحدّيات، وهناك مَن يراها نهايات.
لانا مدور: كيف اختلفت قُدرتك على حلّ المشاكل من وقت كنت طالبًا في الجامعة إلى اليوم؟
هادي صفا: اليوم صرت أرى الأمور أسهل، لأن عندي خبرة أكثر، صرت على مستوى أعلى، لكن الأمور لم تصبح أسهل فعليًا، بل أصعب.
صحيح أنني صرت أفهم أكثر، لكن المشاكل صارت أعقد.
كثير من الناس حولي يقولون لي: "هادي، لماذا تأخذ الأمور بهذه البساطة؟" فأقول لهم: "لأنها بسيطة!" إذا نظرتِ إليها بطريقةٍ صحيحة، تجدينها فعلاً بسيطة.
أنا اليوم أفكّر فقط بالأشياء التي أستطيع السيطرة عليها، مهما كانت المشكلة.
لانا مدور: نحن عشنا في لبنان، وفلسطين، وفي العالم العربي، حروبًا كثيرة، والظروف حكمت علينا بالخسارة.
أنت خسرت شركتك في حرب 2006، أطلقتها وأغلقتها. كيف سيطرت على ذلك؟
هادي صفا: الظروف عاكست.
لانا مدور: كيف تصنّف هذه الظروف على أنها بسيطة؟ ليست بسيطة.
هادي صفا: طريقة الحلّ هي التي توصلك.
في عام 2006، في شهر حزيران/ يونيو، استقلت من الشركة التي كنت أعمل فيها وافتتحت شركتي "ستاندرز"، وهي شركة في مجال التدريب والاستشارات الإدارية.
لانا مدور: انتقلت من موظّف.
هادي صفا: إلى رائد أعمال. وفي أول شهر، كان العمل ممتازًا. انتهى الشهر الأول، ودخلنا في شهر تموز/ يوليو، واندلعت الحرب.
طيذب، على ماذا أملك السيطرة؟ هل أستطيع وقف الحرب؟ هل أستطيع تغيير المعادلة؟ لا.
أستطيع تغيير ما الذي أملك السيطرة عليه، أي وقتي، جهدي، والمبلغ الذي معي.
لانا مدور: ماذا فعلت؟
هادي صفا: أخذت بعض المشاريع الصغيرة خلال الحرب حتى أتمكّن من الاستمرار. لكنني اكتشفت بعدها أني لا أستطيع أن أُكمل بهذه المُغامرة.
فقلت: ما أسهل شيءٍ يمكن أن أفعله؟ العودة إلى وظيفة.
لانا مدور: لكن العودة كانت صعبة، صحّ؟ كيف تقبّلت ذلك؟
هادي صفا: صحيح، لكنني نظرت إلى الموضوع بشكلٍ مختلف. كثير من الناس عندما يفشلون، يشعرون بالانكسار، لكني قلت لنفسي: "ما أسوأ ما يمكن أن يحدث؟ أن لا تنجح التجربة؟ حسنًا، أعود إلى الوظيفة."
لانا مدور: لكن تخسر الأموال، أليس كذلك؟
هادي صفا: أنا بنيت خلال السنوات الماضية "سيرة ذاتية"، وهذا ما أستند إليه لأعود وأتوظّف.
رجعت ووقفت على قدميّ، وانتظرت الظرف المناسب، وعدت، وهذا ما حصل فعلاً عام 2009، أي بعد ثلاث سنوات.
لانا مدور: لكن ذلك يحتاج إلى صبر.
هادي صفا: طبعًا، لم تكن المسألة "فتحت شركة ونجحت فورًا"، لا، واجهت تحدّيات كثيرة، ذهبنا وجئنا كثيرًا.
لانا مدور: في كتابك قصّة تحكيها عن فتاةٍ إسمها ريتا، أخبرنا عنها، لأنه يبدو أن هناك جملةً قالتها ريتا، وأنت تأثّرت بها كثيرًا.
قالت للدكتور: "دكتور، إنها حياتي، وأنا قرّرت أن أعيش. إذا أنت استسلمت فهذه مشكلتك، أما أنا فلن أستسلم."
هادي صفا: ريتا أثّرت فيَّ كثيرًا. في اليوم الذي رأيتها فيه كنت أقدّم تدريبًا عن التواصُل، وكان عندي مجموعة تقريبًا من خمسة عشر إلى عشرين شخصًا من ذوي الاحتياجات الخاصة، وكانت ريتا واحدةً منهم.
كانت ريتا طوال الوقت تبتسم، وجهها دائم الابتسام، تتحدّث وتشارك وتأخذ وتعطي. رفعت يدها وقالت: "سأعطي مثالًا على ما تتحدّث عنه. أنا كنت في مركزٍ للرعاية، وكان قد أصابني الشلل منذ كنت صغيرة، ووصل الأطباء إلى مرحلةٍ قالوا فيها: لا يمكن أن نفعل لك شيئًا، حالتك تنتهي هنا، لا أمل منها. عودي إلى البيت وتعاملي مع هذا الوضع."
قالت لهم: "لا، أنا قرّرت أن أعيش، قرّرت أن أحارب حالتي بهذه الابتسامة التي أبتسمها الآن."
ريتا أكملت معي. وظهرت معي في برنامج قرارك مصيرك عام 2011، وصعدت إلى المسرح، وقامت عن الكرسي، ومشت على الـ"ووكر" على المسرح أمام الجميع
ريتا إلى اليوم تسبح كل يومٍ أربع إلى خمس ساعات. نحن ماذا نفعل؟ ما حجّتنا؟
مَن يقرّر يستطيع أن يُكْمِل. لكن القرار وحده لا يكفي. خلف القرار هناك انضباطٌ لعقودٍ من الزمن، وليس لأيامٍ أو لشهور. نحن مصيبتنا أننا عندما تأتي بداية السنة نقول: "سأبدأ، سأغيّر، سأفعل، New Year, New Me..."، وبعد اليوم الثاني أو الثالث نعود إلى طبيعتنا. الانضباط هو ما يجعلك تكمّل، أما القرار فيجعلك تبدأ فقط.
لانا مدور: أنت أيضًا تتحدّث عن "القِيَم الشخصية"، وتقول: "تحديد قِيَمك الشخصية يحدّد نوع الشخص الذي أنت عليه"، وأحب أن أتكلّم عن هذا تحديدًا.
كل إنسان يعرف قِيَمه؟
هادي صفا: المشكلة أننا لم نجلس يومًا لنتفكّر ما هي قِيَمنا نحن، لا قِيَم المجتمع الذي نحن فيه، ولا قِيَم الدِيْن الذي نتبعه، ولا قِيَم العائلة.
لانا مدور: جميل هذا التفريق الذي تقول.
هادي صفا: نعم، لأنك وأنا يمكن أن تكون لدينا القيمة نفسها، وهي النزاهة أو الصدق، لكنني أرى الصدق بطريقةٍ، وأنت ترينه بطريقةٍ أخرى.
لانا مدور: تقول جملة عن الصدق: إذا لم يكن الصدق موجودًا فعلًا، فلا بدّ من إيجاده، لأنه أضمن طريقٍ لتصبح ثريًا؟
هادي صفا: نعم، بالفعل.
لانا مدور: أن تكون صادقًا؟
هادي صفا: أن تكوني صادقة، اليوم السرّ لا يجب أن يكون كذبًا. السرّ في المال يمكن، لكن في الحياة لا.
أنا اليوم أستطيع أن آتي إلى هذه المُقابلة وأنا حافظٌ ما سأقوله كلمةً كلمة، أقولها وأغادر، ويكون هذا هو المحتوى الذي أقدّمه، كما نرى اليوم في وسائل التواصُل الاجتماعي، يظهرون يقولون كلمتين وينهون المُقابلة.
لكن الثروة الحقيقية هي عندما أجلس أنا وأنت، وأكون لا أكتب هذا الكتاب فحسب، بل آخذه من خبرة حياة، ومن دراسة، ومن قراءة، ومن ثقافة، حتى أكون مُستعدّاً لأن أجيب على أيّ سؤالٍ يُطْرَح.
لانا مدور: أَسرِني الآن بهذا القلم الرصاص. ما هو هذا القلم الرصاص؟
هادي صفا: نحن في التدريب عندنا نقول دائمًا إن أسهل شيءٍ على الإنسان أن يقول "مستحيل". فأنا في التدريب أقول لهم: طيّب، هذا القلم، هل تستطيعون كَسْره؟ يردّ عليّ أي أحدٍ منهم: "نعم."
أقول له: "هل تستطيع كَسْره بضربةٍ واحدة؟" يقول: "نعم." أقول: "هل تستطيع كَسْره بإصبعٍ واحد؟" يقول: "أكيد لا."
وهذا يعود إلى أننا نتحدّث مع أنفسنا، أنا أقول: لا، بالتأكيد أخاف على نفسي، لا أريد أن أكسر إصبعي.
لانا مدور: كيف تكسره؟ هكذا؟ لا، مستحيل.
هادي صفا: مستحيل، فأنا أتحدّث مع ما أسميه في الكتاب وفي حياتي وفي التدريب "العقل، والعاطفة، والمهارات الجسدية" التي عندي.
فلنبدأ بالعقل أولًا: لماذا مستحيل؟ هذا الإصبع أو هذه اليد، أو ثقل هذه اليد كلها، كم وزنها؟ وكم قوّتها إذا كنت أضرب بأقصى قوّة؟ كثيرًا، مقابل وزن هذا القلم، وهو من ماذا مُكوّن أساسًا؟
لانا مدور: هل هناك أحد يكسره عندك في التدريب؟
هادي صفا: نعم، ابنتي كان عُمرها تسع سنوات وكسرته فعلًا.
لانا مدور: عن جدّ؟
هادي صفا: نعم، لأنه عبارة عن بضعة غرامات من نشارة الخشب، وداخله ما نسمّيه "رصاص"، وهو في الحقيقة ليس رصاصًا، بل بودرة غرافيت، مقابل يدٍ كاملة وزنها على الأقل سبعة أو ثمانية كيلوغرامات من جسم الإنسان.
إذا ضربت في المكان الصحيح، وهو مُنتصف القلم، بقوّة، ومن هنا وليس من هنا حتى لا أكسر إصبعي، وعليت وضربت كثيرًا حتى أعطيت نفسي الثقة، حينها ينكسر.
خذي، أمسكيه قليلًا.
لانا مدور: كيف أمسكه؟ من الطرفين؟
هادي صفا: أمسكيه من الطرفين، لكن أمسكيه من الأسفل، ثم اضربي من الأعلى.
لانا مدور: هكذا؟
هادي صفا: نعم، هكذا.
فإذا ضربتِ هنا، في المُنتصف، فسيُكسر حتمًا.
لانا مدور: كم هو سهل.
هادي صفا: ليس صعبًا، لأنه ليس أنني "بروس لي"، بل لأنه مجرّد نشارة خشب.
لانا مدور: ماذا تقول لنا في الختام، للناس الذين يعيشون في أوهام أنهم لا يستطيعون كَسْر المُستحيلات؟
هادي صفا: أحيانًا أرى المشكلة كبيرة جدًا، عظيمة، لكن عَظَمَتها في رؤوسنا. عقولنا تعطينا إنذارات كثيرة لكي نحافظ على أنفسنا، فيترجم ذلك بطريقةٍ إسمها "الخوف". لكن العقل يأخذ المعلومة من دون أن يتأكّد هل هي صحيحة أم خيالية.
إذا كنتِ اليوم لا تؤمنين بالأشباح، وذهبتِ وجلستِ في بيتٍ وحدك مظلم، يمكنك أن تقضي الليلة كلها بهدوء، لا شيء يحدث. لكن إذا قال لك أحدٌ قبل أن تدخلي البيت: "انتبهي، هذا البيت مسكون"، لن يستطيع أحد أن يبقى فيه أكثر من ربع ساعة.
أنتِ تتحدّثين مع نفسك، وتكبّرين الوَهْم. علينا ألا نُكبِّر الوَهْم في حياتنا، وأن ننظر إلى الأمور لا بإيجابيةٍ مُفْرطة، لأنني أكره الإيجابية أو ما يُسمّى التفكير الإيجابي الحصري الذي يقول: "لا، لا توجد مشكلة، الحياة جميلة."
لا، هناك مشاكل في الحياة، وهذا طبيعي. لكن علينا أن ننظر إلى المشكلة كما هي، بقَدْر ما هي، ونتعامل معها بثلاثة أشياء: وقتي، وجهدي، والمال الذي معي، حتى أستطيع أن أحلّها.
وهذا هو هدفي في الحياة.
لانا مدور: شكرًا كثيرًا هادي صفا على هذه الإحاطة الجميلة، وعلى القلم أيضًا.
هادي صفا: تفضّلي، هو لكِ.
لانا مدور: شكرًا جزيلًا لك.
المحور الثالث
لانا مدور: إسرائيل دمّرت كل ما استطاعت تدميره، بما في ذلك المكتبات ودور النشر في بيروت.
تتّخذ دار الرافدين، الدار العريقة للنشر وتوزيع الكتب، أحد مقرّاتها في بيروت. المكتبة والدار تعرّضتا للتدمير ولأضرارٍ مادية كبيرة.
نستقبل الآن الأستاذ محمد هادي، مدير دار الرافدين، ليُفسّر لنا أكثر ما الذي حلّ بالدار. أهلًا بك أستاذ محمد، ونتحدّث أيضًا عن مصير دور النشر، خصوصًا وأنه في لبنان لم يكن هناك معرضٌ للكتاب كما كان مُعتادًا في كل عام.
أولًا، الحمد لله على السلامة لكم ولكل الموظّفين والعاملين في دار الرافدين. أخبرنا عن الأضرار، ما الذي حلّ بالمكتبة وبالدار؟
محمد هادي: طبعًا الأضرار مادية كبيرة، غير الكتب التي فُقِدَت. لدينا مشكلة حاليًا نواجهها في تجميع الأرشيف. بصراحة، لم نلحق أن نفرّغ المكتب، وربما كان هناك تقصيرٌ منّا، لكننا لم نكن نتخيّل حجم الأضرار أو أنها يمكن أن تصل إلينا.
عمومًا، حصل ما حصل، ونحن الآن في طور تجميع الأرشيف. الكتب التي كانت في المكتبة في الطابق الأرضي للأسف كلها أُتْلِفت، وكذلك الأثاث وغير ذلك. لكن الحمد لله، فريق العمل كله بخير، وهذا أعتبره أهم شيء، أهم نعمة.
لانا مدور: نحن نعلم أستاذ محمد أن وضع النشر والكتب أصلًا صعب، وقد مرّ الناشرون بظروف كثيرة، خصوصًا في لبنان.
في كل مرة يقول الناشر: "الأوضاع أصبحت أفضل"، ثم نواجه أزمة أكبر من سابقتها.
الأزمة الأخيرة، كيف أثّرت عليكم بشكل عام، خصوصًا وأنك أيضًا ضمن اتحاد الناشرين، ولديك فكرة وافية وكافية عن واقع النشر في لبنان اليوم في ظلّ هذه الظروف.
محمد هادي: كنا نعاني فعلًا. كنا في معرض القاهرة نسمع وجع الناشرين، هناك مشكلة حقيقية، وهذا موضوع كبير يحتاج إلى دراسة وإلى جهدٍ من الحكومات ومن الناشرين أنفسهم. القطاع مهمّ جدًا، وفي لبنان أكثر من أيّ بلدٍ آخر له تأثير ثقافي ومعرفي.
طبعًا، عندما بدأت الحرب، حتى الذين لم يكونوا في بؤرة الصِراع تأثّروا، لأن النقل الداخلي توقف، والأسواق الداخلية أيضًا تأثّرت، والناس ابتعدت عن جوّ الكتاب. أما الأسواق الخارجية، فواجهنا فيها مشكلة الشحن.
لكن، من النِعَم أيضًا أننا تمكّنا، في لحظاتٍ فاصلة، عندما كانت المنطقة تُغْلَق ويشتدّ القصف، أن نخرج ونشحن كتبنا ونشارك في المعارض. لم يَفُتنا أيّ معرض، لكن واجهنا صعوباتٍ كبيرة نحن والزملاء في عملية الشحن وفي كل ما هو لوجستي.
الحدود مع سوريا أُغْلِقت، لأنها المنفذ البرّي الوحيد لنا، فبقي لدينا الشحن البحري، وكان يعاني من مشاكل كثيرة في ذلك الوقت، أما الشحن الجوّي فكان =مُكلفًا جدًا أثناء الحرب.
وبالتالي، قطاع النشر في لبنان تضرّر تقريبًا لمدة أربعة إلى ستة أشهر بشكلٍ كبير. وطبعًا، لا يوجد أيّ تعويض، ونحن كناشرين اعتدنا أن نشدّ الهمّة ونعوّض أنفسنا بأنفسنا.
لانا مدور: أيضًا معرض الكتاب، الذي كان يشكّل مُتنفسًا كبيرًا للناشرين، لم يُقَم هذا العام.
العام الماضي كان هناك معرضان، رغم أن الظروف كانت صعبة جدًا بعد 7 أكتوبر مباشرة.
لكن هذا العام، لا يوجد معرضٌ واحد ولا فعّالية ثقافية.
هذا الأمر أيضًا كيف أثّر ذلك عليكم؟
محمد هادي: في سنة 2024، كان من المُفترض أن يكون لدينا معرضان للكتاب: معرض تنظّمه نقابة الناشرين، ومعرض بيروت الذي يقيمه النادي الثقافي العربي.
لكنّ المعرضين للأسف أُلغيا، فحُرِم القارئ اللبناني والمثقّف اللبناني، والشعب اللبناني عمومًا، من مُتنفّسٍ حقيقي. كان الناس يذهبون مع عائلاتهم، والأطفال يشترون القصص، وكانت أجواءً مختلفة تمامًا.
أما الآن، في 2025، فمُقرّر أن يُقام المعرضان من جديد. بيروت تستحقّ أكثر من معرضين، تستحقّ وتحمل أكثر. أتمنّى التوفيق لكل الفعّاليات. ولا نغفل أيضًا معرض أنطلياس، فهو فعّالية مهمّة.
نحن أمام ثلاثة معارض أُلغيت في العام الماضي، ومن المُفترض أن تُقام الآن، لكن لا نعرف إلى أين ستّتجه الظروف. المشكلة أننا لا نستطيع التخطيط لبعيد، نخطّط فقط لغدٍ أو بعد غد، لكن لا يمكننا التخطيط لشهرٍ أو أكثر.
معرض الكتاب في لبنان يشبه عُرسًا حقيقيًا، مُتَنفّسًا وطموحًا لنا كناشرين أن يكون لدينا معرض جيّد في لبنان. نأمل ذلك.
الآن هناك معرض النادي الثقافي المُحدّد في شهر مايو/ أيار، ومعرض نقابة الناشرين في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وننتظر لنرى كيف ستسير الأمور.
لانا مدور: كنت تتحدّث عن موضوع الشحن الجوّي والبحري والبرّي، وعن المُشاركات في المعارض العربية، ونحن نعلم أنكم تولون هذه المُشاركات أهمية كبيرة لأنها مهمّة لتصريف الكتب وتسويقها.
كيف تقيّمون هذه المُشاركات في ظلّ الظروف التي مررتم بها؟ هل كان هناك إقبال على الكتاب؟
محمد هادي: في عام 2024، اشتدّت الحرب في شهر سبتمبر، لكننا عمليًا كنا منذ بداية السنة نعيش أجواء الحرب. لذلك، عدد الإصدارات ونوعيّتها كان محدودًا.
نحن كدور نشر لبنانية لم يكن لدينا كمّ جيّد من الإصدارات الجديدة. أعتقد أن جميع الزملاء تقريبًا استطاعوا أن يشحنوا مثلنا، إلا القلّة الذين ضُرِبَت مستودعاتهم مباشرة أو تأخّروا في الشحن.
بشكلٍ عام، معظمهم نجح في عملية الشحن ووصل إلى المعارض، لكن بصراحة كانت مشاركتنا ليست بحجم الطموح، طموحنا أكبر من ذلك بكثير، خصوصًا أن نوعية الكتب كانت ضعيفة في 2024، ونحاول نحن وغيرنا في 2025 أن نعوّض هذا الضعف.
وكما قلت في البداية: النشر اللبناني يُعاني أصلًا، وللأسف لا يوجد دعم من أحد، لذلك علينا أن نعتمد على أنفسنا. يجب أن نعمل على وضع خارطة طريقٍ ثقافية تشمل الناشر والقارئ والكاتب والصحافي، نحتاج إلى ورشة حتى نثبت قاعدة أن النشر اللبناني هو الأساس، وكان دائمًا أساس النشر العربي.
لانا مدور: جميلة رسالتك في الختام أستاذ محمد، لكن أريد أن أعرف منك: مَن يحبّ الكتب والقراءة لديه ارتباط عاطفي كبير بالكتاب، ربما أكبر من أيّ ارتباط آخر.
فعندما تقول إن المكتبة احترقت وضاع الأرشيف، أريد أن أعرف منك في الختام، ما شعورك الحقيقي في تلك اللحظة عندما اكتشفت أن المكتبة أُتْلِفت نتيجة الضربات الإسرائيلية؟ كيف تعبّر عن هذه اللحظة؟
محمد هادي: بشكلٍ حقيقي، كان عندنا "غروب"، يعني أنا وشباب الدار، كنا نبكي جميعنا.
لم نكن نعلم أن هذا المكان يعني لنا إلى هذا الحدّ، لم نكن نعلم أننا نحبّ هذا المكان إلى هذا الحدّ، كل تفصيلة فيه، في الكتاب، وفي الشغل، وفي الذكريات، لأننا صنعنا أشياء كثيرة في هذا المكان.
=لكن الخُلاصة التي خرجنا بها، هكذا، يعني مباشرة بعد فترة ليست طويلة، أننا رجعنا، والغريب أنه عندنا عزٌّ، الحمد لله، أكثر بكثير، أكبر من حجم الدمار.
العزيمة كبيرة جدًا أن نرجع ونعوّض كل الذي راح، ونرجع أقوى، وأنا أعتقد أننا سنستطيع أن ننجح في ذلك.
لانا مدور: أتمنّى لكم التوفيق، ومن دون أدنى شكّ سيُعاد البناء، لأن هذا هو قَدَرنا، خصوصًا نحن في هذه البلاد.
شكرًا لك أستاذ محمد هادي، مدير دار الرافدين، على وجودك معنا في "بين الكلمات". وشكرًا أيضًا لكم مشاهدينا على متابعتكم لهذه الحلقة، إلى اللقاء.