هل الغربة هروب من الذات أم عودة اليها؟

هل الغربة هروب من الذات أم عودة اليها؟ رحلة في عوالم الإنسان المغترب النفسية نأخذها مع علوية صبح، وروايتها إفرح يا قلبي. نعمق فهمنا لإشكالية الغربة من منظور علم الاجتماع مع ضيفنا أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت أباهر السقا. ثم نذهب إلى الجنوب اللبناني لنتوقف عند الذاكرة المكانية لأبناء الارض ونسترجعها مع محمد ناصر الدين.

نص الحلقة

 

 

لانا مدور: هل الغُربة هروبٌ من الذات أم عودةٌ إليها؟ رحلةٌ في عوالم الإنسان المُغترب، النفسِ النفسيّةِ نأخذها مع علويّة الصُّبح وروايتها "افرح يا قلبي"، ثم نذهب إلى الجنوب اللبناني لنتوقّف عند الذاكِرة المكانيّة لأبناء الأرض ونسترجعها مع محمد ناصر الدين. مواضيعُنا غنيّةٌ لهذه الحلقة، مشاهدينا، فأهلًا بكم إلى "بين الكلمات". 

 

 

المحور الأول

 

لانا مدور: إذا غادرْنا الوطن، هل يُغادرُنا الوطن؟ لا يمكن لقلمٍ أن يلتقطَ عُمق هذه الإشكاليّة كما التقطَها قلمُ علويّة الصبح. الأديبةُ اللبنانيّة تكتب عن الهويّة والوطن في روايتها "افرح يا قلبي" التي تأخذنا مع عازف العود غسان إلى حياته بين عائلته في لبنان، وهروبه من هذه الحياة ومن مشاكلها إلى خارج حدود الوطن، ليكتشف فيما بعد أنّ المسافة لم تقتل الانتماء، وأنّه في نهاية المطاف عاد ليواجه الواقع الذي هرب منه. 

علويّة الصبح مساء الخير وأهلًا بكِ في "بين الكلمات".

 

علويّة الصبح: مساء النور لكِ وللمشاهدين، وشكرًا على هذه الاستضافة.

 

لانا مدور: شكرًا لكِ على هذه الكتابة. أنا قرأت الرواية واستمتعتُ كثيرًا، وعندي مجموعة أسئلة ـ أعني فضوليّة. نعم. وأوّل سؤال فضولي: أريد أن أعرف لماذا علويّة الصّبح التي تكتب عن المرأة، وهي المرأة، اختارت بطلًا رجلًا هذه المرّة لروايتها؟

 

علويّة الصبح: نعم، ربما كان تحدّيًا بالنسبة إليّ. الحقيقة أنّ العائلة مكوّنة من البطل ومن خمسة... خمسة إخوة؛ أي ستّة ذكور. كان الرجل موجودًا في رواياتي السابقة، إنّما كانت المرأة هي السارِدة أو الراوية. ولكن حتى في رواياتي السابقة أنا اخترقتُ الرجل ودخلتُ إلى أعماقه مثلما دخلتُ إلى أعماق المرأة؛ لأنّ الكاتب الذي لا يقدر أن يدخل إلى عُمق الشخصيّة وعلى رَصْد سلوكياتها وتتبّع حركتها ونفسيّتها وصراعاتها، لا يقدر أن يُنتج رواية. 

فبالتالي، موضوع الهويّة استدعى منّي مغامرة هذا الشاب وحياته؛ غسان الموسيقي، عاشق أم كلثوم وعاشق الطرب العربي، ومثلما قال له جدّه إنّ العود هو الطريق؛ أي إنّه يجب أن ينتمي إلى ثقافة الشرق التي هي ثقافتُنا وموروثُنا وعروبتُنا. وهذه العروبة التي كانت في أوجّها في الخمسينيات والستينيات، أرفقتها في الرواية مع تحوّلات المجتمع اللبناني وتقلّبات الهويّة وصراع... كلّ أخٍ مع نفسه ومع أبيه. نُلاحظ أنّ هذا الأب ـ الذي هو ناصريّ ـ ولكن كان ظالمًا وأنانيًّا، وحتى يأتي بعشيقته إلى بيته الزوجي، وكان يضرب زوجته، وتعقّد أولادُه منه، وكلهم كرهوه باستثناء محمود. محمود نلاحظ أنّه كان هو المثال الأعلى، وبنفس الوقت تزوّج عشيقةَ أبيه. ولكن عندما توفّي الأب وعاد غسان من نيويورك بعد غياب عشرين سنة، نقرأ صراع كلّ واحدٍ من الإخوة أمام جثمان أبيه، وصراع محمود مع نفسه، وخاف أنْ تظلّ... هل هي تبكي أباه؟ إنّه...

 

لانا مدور: سيّدة علويّة، دعينا ندخل في هذه التفاصيل معكِ، لكن قبل ذلك، أيضًا نحن نرغب في معرفة وجهة نظر عِلم الاجتماع، خاصةً أنّ ضيفنا أستاذُ عِلم الاجتماع في جامعة بيرزييت أباهر السقّا، هو فلسطيني، ومسألة الهويّة أيضًا مهمّةٌ جدًّا بالنسبة إلينا بالمُجْمَل كعرب. 

 

علويّة الصبج: نعم، خاصّةً أنا استهدت بإدوارد سعيد في بداية الرواية حول الهويّة. 

 

لانا مدور: صحيح. حول الهويّة، والرواية... ليست هي طبعًا تجري في لبنان؛ يعني الربط لبنانيّ، لكن تعني كلّ العرب؛ كأنّ غسان هو الهويّة العربيّة. 

تقول أستاذ أباهر، أهلًا وسهلًا بك: تقول سيّدةُ علويّة إنّ "الهويّة قَيْد، لكنه قَيْدٌ وجوديٌّ ضروريٌّ لطمأنينة الكائن، ليحدّد انتماءه إلى ثقافةٍ ما، مكانٍ ما، جغرافيا ما، وعالمٍ ما". الهويّة قَيْد وخلاص، حياة ومقتل. أتوافق على ذلك؟

 

أباهر السقّا: نعم؛ لأنّ الهويّة تتشكّل عادةً بوجود "آخر"، فلا هويّة من دون آخر. وبالتالي الآخر قد يكون مختلفًا: قد يكون مختلفًا جنسيًّا، دينيًّا، ثقافيًّا... إلى آخره. وقد يكون هذا جانبًا من الهويّة. قد تكون الهويّات مُتعدّدة، مُتغيّرة، مُتبدّلة؛ والهويّة ليست شيئًا ثابتًا. تظهر الهويّة في تضادٍّ أو في انسجامٍ حسب سياقٍ مُحدَّد؛ فقد تكون الهويّة مثلًا في تضادٍّ كامل إذا كانت في مجتمعٍ مُضيفٍ مُغايرٍ تمامًا. وهنا تأتي عمليّة... تأتي عمليّة استرداد الذات في مجتمعٍ مُضيفٍ أو مجتمعٍ مختلفٍ تمامًا؛ قد يكون مُضيفًا ولكنه قريبٌ للثقافة ـ وهذا يظهر في كثير من دراسات الهجرة، بمعنى أنّه في كثير من الأحيان، مَن يبتعد عن الوطن يصبح الوطنُ له ـ إن استعنا بدرويش، إن أردتِ وتركنا عِلم الاجتماع قليلًا ـ يصبح الوطنُ جميلًا؛ بمعنى هذا الحنين إلى الوطن، إلى المكان الأوّل، إلى العلاقات الأولى... إلى آخره. هذا في كثيرٍ من الأحيان يصطدم مع مجتمعاتٍ أخرى مُغايرة، وقد تحدث انغلاقاتٌ لدى بعض الأفراد على هويّاتهم والتأكيد عليها مقابل هويّات أخرى، أو قد تحدث عمليّات مُزاوَجة بين هويّاتٍ تطويعيّةٍ تدخل هويّةٌ محلّ أخرى أو تحلّ محلّ أخرى في سياقاتٍ مختلفة. وبالتالي الهويّة ليست شيئًا جامِدًا؛ هي شيءٌ مُنفتح، وإنْ كنّا نراها في كثير...

 

لانا مدور: لكن أستاذ أباهر، ماذا نحن العرب لدينا تظهر أزمة الهويّة بشكلٍ كبير؟ في معظم الشعوب العربيّة لدينا هذه الأزمة، وقد لا تكون هذه الأزمة موجودةً عند شعوبٍ أخرى بهذه القوّة.

 

أباهر السقّا: لدينا أزمةٌ لأسبابٍ عديدة في الحقيقة لها علاقة بسياقاتنا. لدينا أزمةٌ لأنّه في كثيرٍ من الأحيان تمّ فرضُ هويّاتٍ لأنظمةٍ على مجتمعاتنا. أحيانًا لدينا هويّاتٌ فرعيّة غير مقبولة لدى مجموعات، تُفرض هويّةٌ بالقوّة على الآخرين. لدينا مشاكل: أحيانًا هويّاتُنا الفرعيّة تتناقض مع الهويّات الجامعة، وفي كثيرٍ من الأحيان لا مكان لها. ففي كثيرٍ من الأحيان بعض المجموعات في منطقتنا العربيّة تشعر بأنّ هويّتها مُهدَّدة، خصوصيّتها مُهدَّدة، والبعض الآخر يشعر بأنّ الاختلاف قد يؤدّي إلى تقويض الهويّة الجامعة؛ ولذلك في كثيرٍ من الأحيان تحدث... 

 

لانا مدور: طيّب أستاذ أباهر ـ طبعًا أنت مُضطرٌّ لمُغادرتنا بسبب الحواجز في بيت لحم؛ لذلك أريد أن أستفيد منك قَدْر المُستطاع. لماذا نحن الشعوب العربيّة، أو حتى الأنظمة العربيّة، لم ننجح في تشكيل هويّةٍ بعيدةٍ عن الطائفيّة والقبليّة والفئويّة؟ لماذا لم نستطع أن نصنع هويّة، بمعنى هوية تكون المواطِنة هي ركنُها الأساسي؟

 

أباهر السقّا: لأنّ لدينا هويّاتٍ فوقيّة يتمّ فرضُها وفق أيديولوجيا النظام أو تصوّراته الآنيّة المرتبطة ببقائه، ولا تصل إلى الناس. طبعًا لدينا هويّاتٌ ـ في الحقيقة ـ هويّاتٌ أهليّةٌ محليّةٌ مُتجذّرة عابرةٌ للأجيال، مرتبطةٌ بالعروبة وبالإسلام وبالمسيحيّة، وبالطوائف المُتعدّدة التي تتداخل مع الهويّات المختلفة. ولكن في كثيرٍ من الأحيان الأنظمة العربيّة فرضت رؤًى أحاديّة للهويّة لا تسمح بالتعدّد، وهذا أدّى إلى شعور مجموعاتٍ ترى في نفسها أقليّةً أو ترى أنّها أقليّةٌ خارج ذلك. وهذا أدّى في كثيرٍ من الأحيان إلى فشل هذا النظام، كما فشلت ـ في الحقيقة ـ الأنظمة العربيّة في فرض رؤًى تنمويّة، وفي فرض سياساتٍ اجتماعيّة، وفي تشكيل هذا الفرد، كما تفضّلتِ سابقًا: لدينا أوطانٌ بلا مواطنين. لدينا...

 

لانا مدور: عميقةٌ هذه الكلمة: "أوطانٌ بلا مواطنين".

 

أباهر السقّا: والكَارثة ـ في الحقيقة ـ أنّه بسبب طُغيان هذه الممارسات لبعض الأنظمة العربيّة، أو في كثيرٍ من الأحيان الأنظمة العربيّة وبعض النُخَب، أدّى إلى... مجموعاتٍ كبيرةٍ من الناس بأرق هويّاتي... هذا الأرق الهويّاتي أحيانًا يؤدّي إلى رفض الهويّة الجامعة، إلى رفض العربيّة مثلًا... وهذا بسبب ـ مرّةً أخرى ـ الانغلاق، وبسبب عدم التعامل مع أنّ التعدّد هو الغِنى، وليس الفِرقة أو التشرذم ـ عفوًا. وفي الحقيقة هناك مشكلةٌ منذ بزوغ فترة الاستقلال في المنطقة العربيّة: إنّ في كثيرٍ من الأحيان الهويّة هي التماثُل، الهويّة هي ما هو جامِع، وكلّ ما هو مختلف ـ ما هو مختلف نسبيًّا، ما يُعزّز حضور جلوسي طائفيٍّ مناطقيٍّ حقيقيّ... إلى آخره ـ يتمّ التعامل معه بأنّه نزعاتٌ انفصاليّة أو نزعاتٌ تُقوِّض الهويّة الجامعة. وهذا مفهومٌ في الحقيقة غيرُ دقيق، ويؤدّي ـ وأدّى ـ إلى ما نعيشه اليوم؛ بمعنى أنّ مجموعاتٍ كبيرةً من الناس تشعر بأنّ هذه الأوطان تُفْرَض عليها، أو أنّ هذه الهويّة هويّةٌ تقع في مكانٍ ما لا تمسُّهم. وهذا غير دقيق؛ لأنّه في الحقيقة، هذه الهويّة العربيّة الجامعة التي تجمعني وتجمع كلّ الناس هي مُتعدّدة منذ الأزل: مُتعدّدة الطبقات، مختلفة، عابرةٌ للأجيال، عابرةٌ للأزمنة، عابرة...

 

لانا مدور: هو فعلًا، مثلما قلتَ أستاذ أباهر، إنّ الهويّة تتطوّر مع تطوّر الأجيال والتاريخ؛ يعني أنّه لم تكن لدينا قبل سايكس ـ بيكو مثلًا هويّاتٌ محدَّدةٌ في المنطقة، وبعد تقسيم المنطقة، بعد سقوط السلطنة العثمانيّة... إلى آخره؛ فإذا كلُّ هذا معرّضٌ للتغيّر بتغيّر الأزمنة والتاريخ وأنظمة الحُكم. أشكرك سيّد أباهر السقّا، أستاذ عِلم الاجتماع في جامعة بيرزيت على انضمامك إلينا.

 

لانا مدور: أستاذة علويّة، كنتُ أحبّ أن يكون حوارٌ أكبر بينكما، لكن للأسف إسرائيل حتى مُتحكّمةٌ بنا في الهواء. عليه أن يتنقّل من منطقةٍ إلى أخرى... 

 

علويّة الصبح: أنا أوجّه له تحيّة. حكى كلامًا... فعلًا أوجّه له تحيّة من القلب. 

 

لانا مدور: أنا أريد أن أعرف وجهة نظركِ؛ لأنّه في الرواية تكتبين عن هذه الهويّة المُتنقّلة. هناك أمور كثيرة أريد أن أفهمها منكِ. لكن عندما تتحدّثين عن رجلٍ ناصريّ ـ أي والدِ غسان ـ وعروبةٍ وحبّ أمّ كلثوم؛ لديه هذا الانتماء الكبير للفكرة، فكرة العروبة، لكن في الوقت نفسه هذا رجلٌ ظالم. كأنّكِ تعطين رمزًا إلى أنّ القضايا الكبرى أحيانًا أعطت الحقّ للرجل لكي يظلم أبناءه وجيله وزوجته ومجتمعه. حقيقي؟ أو كأنّ الظلم الكبير انسحب أيضًا على ظلمٍ في العلاقات الاجتماعيّة؟

 

علويّة الصبح: الحقيقة... هناك أشخاص حتى في اليسار مثلًا، هناك انفصامٌ بين التفكير الذي يُفكّر به وبين سلوكه الذي هو الموروث. 

 

لانا مدور: لماذا برأيكِ؟ 

 

علويّة الصبح: هذا المجتمع يربّيه على أنّه... هذا المجتمع الذكوري: "أنا يحقّ لي؛ هذه زوجتي ممتلكاتي، ويحقّ لي أن أتصرّف فيها كما أشاء". وإضافةً إلى ذلك، فيه نوعٌ من النقد أيضًا للعقل الذكوري الذي يستبيح له كلّ شيء، وبالوقت نفسه يُمارِس على زوجته هذا العنف. وهو بالنسبة إليه العروبة هي أمُّ كلثوم والنساء والطرب... هذا الانفصام بين الانتماء الرومانسي وبين الواقع الذي يعطيه هذا الحقّ أنّه يكون ذَكَرًا. وأريد أن أقول شيئًا ثانيًا أيضًا: أنّني في الرواية دخلتُ داخل المجتمع العربي الإسلامي بشكلٍ... أنتمي إلى هذا الموروث وهو جزءٌ منّي، وبالوقت نفسه أقوم بمحاولة قراءةٍ لإعادة هذا التاريخ من الناحية الفنيّة والإنسانيّة. ومثلما كنّا نتحدّث: إنّ الهويّة تتغيّر. فحين عاش البطل غسان في نيويورك خمسًا وعشرين سنة وحاول أن ينتمي للثقافة الغربيّة، صار مزدوجَ الهويّة، وسارع بين الانتماءين، وسارع بين الزوجتين: هو تزوّج أميركيّة، ثمّ في لحظة حنين...

 

لانا مدور: أحسستُك تكشفين الرواية!

 

علويّة الصبح: لا، أنا أطرح الأمر كإشكاليّة: أن أقارن كيف يُعامل الرجلُ المرأةَ الغربيّة وكيف يُعامل... مع أنّها أكبرُ منه بالعمر. هذا الذي تفاجأتِ به: أنّني جعلتُها أكبر منه.

 

لانا مدور: أكبر منه.

 

علويّة الصبح: أكبر منه، لكن عندهم وُدٌّ، وليس عندهم أولاد، وأحبّها. أحبّها لأنّها أيضًا تنتمي ثقافيًّا إلى الشرق، أو هي مُعجبةٌ بالشرق، ومُعجبةٌ بالتصوّف، بالموسيقى الصوفيّة، وهذا ربما ضربٌ على نقطة... لكن أريد أن أقول شيئًا مهمًّا جدًّا: الأنثويّة الموجودة والإنسانيّة الموجودة تميّز عن الكتّاب الذكور الذين تناولوا مسألة الشرق والغرب. إنّ معظم هؤلاء الكتّاب ـ إن لم أقل كلّهم ـ أنّ الشرقَ ذكورةٌ والغربَ أنوثة، أو أنّ البطل يخضع الأجنبيّات في الفراش انتقامًا من الاستعمار أو من التفوّق الغربي. أنا ـ حقيقةً ـ حساسيّتي كأنثى، وحساسيّتي ككاتبة، شعرتُ أنّني لا أقدر... ما الفرق بين "داعش" وبين هذا الفكر الذكوري؟ لماذا أواجه الغرب بالفحولة الجنسيّة؟ هل هكذا يُواجه الغرب؟ معظم الروائيين الذين طرحوا إشكاليّة ثنائيّة الشرق والغرب: أنا أواجه الغرب بهذا الموضوع؟ لماذا إخضاع الأجنبيّات؟ دائمًا يقع العنف على المرأة، وردّ الفعل على جسد المرأة. أنا انتقدتُ هذا... 

 

لانا مدور: حتى بعودته إلى الوطن لم تأخذيه تمامًا من المرأة الأجنبيّة؛ لأنّ لديه... هي تملك قلبه. هذه عادةً لا نراها كثيرًا في الأدب الذكوري الذي يطرح هذه الإشكاليّة.

 

علويّة الصبح: أو أنّنا نأخذها كشكلٍ وعِطر. أنا قصدتُ أن لا تكون جميلة، ولكن لا تنسي ثقافتَها... والموسيقيّة... هناك تماسٌّ صار بينها وبينه ثقافة، وثمّ الرجل قد يُغرَم بامرأةٍ تكبره. لماذا لا نتناول هذا الموضوع؟ لماذا دائمًا يجب أن تكون المرأة التي يُغرَم بها الرجلُ صغيرةَ السنّ؟

 

لانا مدور: سيّدة علويّة، غسان تعرفينه في الحياة الحقيقيّة؟

 

علويّة الصبح: أرى غسان في أناسٍ كثيرين، وخاصةً الذين تغرّبوا ثم عادوا. وفي غسان كلُّ هذا الشَحْن العاطفيّ المشرقيّ، ولكنّه إنسانيّ. وأريد أن أشير إلى نقطةٍ مهمّةٍ جدًّا في الرواية ـ لا أدري إذا كنتِ... أكيد انتبهتِ، لا يُخفى عليكِ شيء يا سيّدتنا.

 

لانا مدور: تسلمين لي، هذا من ذوقك.

 

علويّة الصبح: لا أريد أن أقول ما النهاية، ولكن أريد أن أقول: هل نقرأ هذا التلاقي بين الشرق والغرب أم أنّه لم يتحقّق حتى الآن؟ مَن يقرأ... 

 

لانا مدور: ما رأيكِ؟

 

علويّة الصبح: رأيي أنّه تحقّق في السماء، لكنه لم...

 

لانا مدور: طيّب، لماذا لا يتحقّق على الأرض؟ 

 

علويّة الصبح: لأنّ الحروب ما زالت في العالم بين شرقٍ وشرق، وشرقٍ وغرب. كما كتبتُ: أنا أخذتُ تيمة الموسيقى.

 

لانا مدور: لأنّها جامعة؟ 

 

علويّة الصبح: الموسيقى لأنّ لها علاقةً بالهويّة. قد نأخذ موضوع الهويّة بشكلٍ آخر، لكنني أحِبُّ العود، وأحبّ الموسيقى الشرقيّة، وأحبّ أمّ كلثوم، وأحبّ عبد الحليم، وأحبّ شادية، وأحبّ فيروز؛ هذا تراثي، وأنا لا أتبرّأ من تراثي، أنا فخورةٌ به، فخورةٌ بانتمائي العربي، وبانتماء الوجدان اللبناني، وبانتمائي وبِتاريخ الثقافة. ولكن هناك إشكاليّة أطرحها في الرواية: إنني مع "التلاقي الإنساني" في العالم. التلاقي الإنساني، وما هذا التلاقي بين كيرستن وغسّان سوى شكلٍ من أشكال التلاقي بين الإنسان والإنسان أينما كان. 

 

لانا مدور: حسنًا، أحببتُ شيئًا في هذا المقطع نفسه عن الهويّة: تقولين "كيف يمكن للكائن أن ينجو من هذا الفخّ، فخّ الهويّة؟" ثم تعطينا جوابًا: "لا تفكّر بما خسرته، فكّر بما تملكه وتابع حياتك". ما أجمل هذه الجملة.

ماذا تعني "لا تفكّر بما خسرته"؟ كيف يعني الإنسان لا يفكّر بما خسر؟

 

علويّة الصبح: أعني ألّا يكون بكائيًّا على تاريخه. النوستالجيا جميلة، ولكن إنْ فكّر الإنسان دائمًا بما خسره لا يستطيع أن يُكمل حياته؛ يجب أن يفكّر ماذا يملك حتى يستطيع الاستمرار في الحياة، حتى ولو كان شيئًا بسيطًا... 

 

لانا مدور: هناك مسألة أحببتُها أيضًا، بناءً على والدِ غسان: نحن معظمُنا ـ لا أريد أن أقول العرب فقط، الإنسان بشكل عام ـ يُخلَق... حتى لو كان أهلُنا رائعين وأحلى أهلٍ في الكون، لا بدّ من أن يكون هناك شيءٌ نحمله عليهم، صحيح؟ 

 

علويّة الصبح: صراعُ الأجيال... 

 

لانا مدور: هناك غضبٌ معيّن على أهلك في مكانٍ معيّن تتصالحين معه إذا كان لديكِ الوعي فيما بعد. لكن الغضب كان كبيرًا على والده. أحببتُ كيف صوّرتِ هذا الصراع على الوالد بشكلٍ خاص، خاصةً وأنّهم ذكور، وكلُّ إنسانٍ كيف رأى صورةَ الوالد من منظاره المختلف. كيف صوّرتِ هذه الشخصيّات؟ كيف عملتِ دراسةَ كلّ شخصيّة لتفهمي: كيف هذا الرجل تعامل مع والده؟

 

علويّة الصبح: هذا هو الأدب، حبيبتي. الأدب شيءٌ إنساني. وأنا من النوع الذي يحفر ـ كتابتي تُشبه الأزميل: حفرٌ داخل الإنسان. إذا شئتِ "دوستويفسكيّ الهوى". أشعر أنّني أميل إلى الأدب الذي يتعاطى مع الإنسان، ويكشفه، ويكشف أعماقه وصراعاته وأزماته وأهواءه. لا أحبّ الأدب الخارجي؛ لأنّني أستطيع قراءته بتقريرٍ أو بمقالٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ أو فلسفيٍّ أو علم نفس... إلى آخره. الأدب يشتغل على الإنسان. كلٌّ منّا، أي واحدٍ منّا، يقع في لحظةٍ صراعيّة بينه وبين نفسه، وبينه وبين أهله، وبينه وبين ذاته. الإنسان مجموعةٌ من التناقضات. 

أحببتُ مقالًا كتبه ناقدٌ سوري... في كلّ المقالات التي نشرت.. فعلًا علّمتني أشياء، لأنّي أكتب أدبًا، أكتب فنًّا؛ لكن المقالات كشفت لي أيضًا ماذا أكتب. أحببتُ كثيرًا مقال الشاعر الكبير شوقي بذيع الذي تحدّث عن "التكامُل الثقافي". أحببتُ مقالًا لناقدٍ سوري ـ كما أقول لكِ ـ في "القدس العربي" أنّه سمّاها "هؤلاء الإخوة كرامازوف العرب". وكلّ المقالات التي كُتبت، وحتى في جريدة "الأخبار"، وفي كلّ المراجعات... أوجّه تحيّة؛ لأنّ فعلًا هذا الاحتفاء بالرواية جعلني أشعر بنفس الاحتفاء مع كلّ رواياتي، وخاصةً مع "مريم الحكاية". أنا دائمًا حريصةٌ ألّا تكون روايةٌ ضعيفة. أحرص أن أشتغل؛ أحترم الكلمة، أحترم الكتابة. أنا شبه مُترهّبةٍ للكتابة. شُغلتي في الحياة أن أقرأ وأكتب. لكن احترام الكتابة ـ هذه الحِرفة، هذه المهنة، هذه الموهبة ـ يحتاج أن نشتغل ونشتغل ونشتغل. يجب علينا احترام القارئ. الآن مئات الروايات تصدر سنويًّا، والكثير منها لا يحترم القارئ. أنا أوجّه الرواية للقارئ، إذن عليّ أن أحترمه: أن أحترم وقته وعقله. 

 

لانا مدور: جميل. أريد أن أعود أيضًا إلى بعض المواضيع.

 

علويّة الصبح: أريد أن نتحدّث عن الأمّ أيضًا. أدنتِ... هذا أهمّ عنصر: أدنت زوجته الشرقيّة المطيعة. 

 

لانا مدور: شخصيّةُ الأمّ... غيرُ معقول كيف دخلتِ إلى أعماق الانكسار عند المرأة الشرقيّة، صحيح؟ في الأجيال السابقة ـ الآن تغيّر الوضع قليلًا إلى حدٍّ ما ـ 

 

علويّة الصبح: ليس كثيرًا... 

 

لانا مدور: لكن هذا القَبول بأنّ زوجها يخونها، بأن يكون عنده شخصٌ في حياته، بأن يضربها، بأن يُعنّف... 

 

علويّة الصبح: وهي "مبسوطة" أنّها زوجته الوحيدة.

 

لانا مدور: "هي زوجته الوحيدة... لم يتزوّج عليها". ما هذه القصّة؟

 

علويّة الصبح: نعم، هذا هو المجتمع الذكوريّ؛ هكذا يُربّي الأنثى. 

 

لانا مدور: وجاء جيلٌ من بعدها أيضًا، زوجته الثانية.

 

علويّة الصبح: زوجته اللبنانيّة... هو يقول: "لماذا لا تمسك الشحّاذة وتضربني بها؟ لماذا لا تقول لي: أنت حقير؟" هي تعرف أنّني متزوّجٌ كيرستن، وقبلتْ ذلك، بينما كيرستن لا تعرف... لا تعرف لأنّها أجنبيّة. هذه الرواية "افرح يا قلبي" تُفرِح قلوبَ القُرّاء... 

 

لانا مدور: أحلاكِ! لأنّ الحبّ الذي لا يُعاش ولا يتحقّق من الصعب أن يزول أحيانًا. عشتِ هكذا حبًا؟

 

علويّة الصبح: نعم، بالتأكيد. وسأعيشه ثانيًا. نعم، أريد أن أعيشه بعد... قبل بيومٍ في حياتي، أريد أن أعيش. 

 

لانا مدور: حقًّا، لا ينتهي الحبّ مع؟

 

علوية الصبح: ربما الحبُّ غير المُتحقّق... لا أدري. وهناك حبٌّ ينشأ مع العلاقة. لا نستطيع أن نضع قوانين للحبّ؛ كلّ حبٍّ له سرّه.

 

لانا مدور: ما هذا السِّر =أيضًا أنّ والد غسان... كنتِ تقولين: "وكان أبوه يجهش بالبكاء عندما يسمع ما غنّته أمّ كلثوم للرئيس عبد الناصر بعد النكسة: تنهمر دموعه ويصحب بصوتها: 'ابقَ فأنت حبيب الشعب... ابقَ'". ما هذه المفارقة: أنّه يبكي على الفنّ وعلى عبد الناصر، ولا يذرف دمعةً على حالة عائلته؟

 

علويّة الصبح: عبد الناصر كان حالةً عاطفيّةً سياسيّةً قوميّة: الرجوع والتقدّم... كلّ الناس كانت... كان حالةً رومانسيّة، عبد الناصر شاعريّة، إذا شئتِ. وكلّ العالم... كنتُ صغيرةً وأتذكّر دموع الناس أنهار لى عبد الناصر. عبد الناصر ليس حبّة.

 

لانا مدور: وتحدّثتِ عن الطوائف أيضًا؛ هذا كان جزءًا مُلفتًا: أنّ الصراع الطائفي في لبنان كيف تناولتِه من قصّة هذه العائلة. وزدتِ عليها أنّه دخل عنصر... المفارقة أنّ التاريخ شرذمنا لدرجة أنّ الناس الذين كانوا يعيشون إلى جانب بعضهم، جيران ويحبّون بعضهم، صاروا يذبحون بعضهم في النهاية.

 

علويّة الصبح: أيضًا ذكرتها في الرواية.

 

لانا مدور: هذا الشابّ الأصوليّ، الأخ الأصوليّ الذي فجأةً تحوّل وصار مُتشدّدًا. 

 

علويّة الصبح: أمّه تقول له: "أمّك جارتُك المسيحيّة، أنتَ راضِعٌ منها، كانت تعمل لك رزًّا بالحليب". 

 

لانا مدور: الآن كشفْنا الرواية كلّها أنا وأيّاكِ، خرّبناها!

 

علويّة الصبح: لا، لا. متعةُ القراءة غير. نحن نطرح إشكاليّاتها: ما الذي تطرحه. لكن المعالجة، الأسلوب السردي، ما المادّة التي تُقدَّم... هذا شيءٌ آخر.

 

لانا مدور: الرواية ممتعةٌ جدًّا، وأنا فرحت الآن أنّكِ جلبتِ لي نسخةً، مع أنّ عندي نسخةً فيها خرائطُ تسطيرٍ وأجواء... مع الإهداء. شكرًا كثيرًا. 

 

علويّة الصبح: شكرًا كثيرًا لكِ على هذا اللقاء الجميل، وإن شاء الله تكون سنةً كلّها خيرًا لبلدنا وللبلاد العربيّة ولـكلّ العالم. 

 

لانا مدور: سيّدةَ علويّة، شكرًا جدًّا على المتعة، وعلى تحفيز الدماغ على التفكير؛ هذا من أهمّ... 

 

علوية الصبح: شكرًا لكِ أنتِ ولدوركِ الثقافي أيضًا الذي تقومين به وتقديم أهمّ الأعمال وتقريبها من القرّاء فعلًا. تحياتي. 

 

لانا مدور: شرّفتِنا كثيرًا. شكرًا لكِ، 

 

علويّة الصبح: شكرًا لكِ. 

 

 

المحور الثاني

 

لانا مدور: لم تكن الحربُ الإسرائيليّةُ الأخيرة على جنوب لبنان الأولى، وقَطْعًا لن تكون الأخيرة. وإذا بحثنا في ذاكرة أبناء الجنوب سنجدها مُثقَلةً بالآلام المُتكرّرة والأفراح المُنْتَزَعة بالقوّة؛ قوّةٍ من ثَغر القَدَر. 

الشاعرُ والكاتبُ والمترجم محمد ناصر الدين أعاد إحياءَ ذاكرتها ونفضَ الغبارَ عنها ليترجمها إلى كلماتٍ في كتابٍ سيصدره قريبًا، ونشر بعض مُقتطفات تلك الذاكرة وهذه القصص التي سنتحدّث عنها الآن. فأهلًا بكَ أستاذ محمد.

 

محمد ناصر الدين: أهلًا وسهلًا بكِ.

 

لانا مدور: صعبةٌ الذاكرة؛ صعبٌ أن تتذكّر أحداثًا أليمة، صحيح؟

 

محمد ناصر الدين: الذاكرةُ الجنوبيّة تحديدًا صعبة؛ هذه الأرض ـ أرضُ الدم وشقائقِ النعمان ـ تجمع المُعاناة؛ جزءٌ من تركيبها العضوي لأرض الجنوب. وعندي مآسٍ صغيرة؛ هي قصصٌ شخصيّةٌ كتبتُها، وأحاولُ قَدْر ما أستطيع أن لا تضيع هذه الذاكرة.

تنقلُنا بحروبٍ كثيرة، والنصوص كانت تأتي "سبوتس"؛ تأتي في مواطن... أخاف. أخاف على نفسي، أخاف على تاريخي، أخاف على أولادي.

علويّة الصبح تقول: "الكتابة تشفي". أيضًا الكتابة تُحيي. تُحيينا من النسيان؛ يضيع تاريخُنا، يضيع وجودُ الإنسان؛ لأنّ الحروب ـ وخصوصًا الحرب الأخيرة ـ كانت حربًا على الوجود فعلًا. 

 

لانا مدور: لكن مؤلمٌ التذكّر. هناك أحداثٌ كثيرة صعبة. من الأشياء التي نشرتُها مثلًا: عربصاليم عام 1996؛ كان قصفُ جسرٍ... وذكرياتٌ صعبة، حتى ليس فقط تذكّرٌ من الجنوب؛ بل تذكّرٌ من الشياح عام 1986. كم نوعًا؟ كم حربًا؟ 

 

محمد ناصر الدين: أنا من أطفال الحرب، عايَشت كل الحروب، من الحروب الأهليّة وحروب الزواريب والخطف على الهويّة والقنّاص الذي يُطارِدُنا ونحن خارجون من المَلجأ برأس النبع لنَهرب إلى الجنوب. أبي يفتح باب السيارة، ونحن ثلاثة أولاد، والقنّاص يُصيب الباب. هذه "التروما" تحتاج أن تجد مكانًا... تُوجِع؛ لأنّ هناك "تروما" من كلّ الحروب الحاصلة.

الحادثة التي أخبرتِ عنها في عربصاليم: انقطع الجسر الذي يوصل عربصاليم عن العالم. أنا ولدٌ خارجٌ وقتها، مثل كلّ أولاد في هذا العالم: أريد أن أنزل إلى النهر وألعب مع الأولاد. لم أكن أتخيّل أنّ شيئًا سيحصل: حربٌ وصواريخ وتدمير بيوت وتجربةُ صواريخ... لأوّل مرة. أنا أقول في القصّة: هذا الصاروخ الذي ينزل من سقف باب البيت ويخرج من الجدار... الآن، لماذا جرّبوهم في الحارة التي كنتُ فيها؟ النقطة كانت: كيف نواجه هذا الموت في تلك اللحظة؟ 

أتذكّر أنّ خالي بعثني... قال لي: أيّ شيءٍ تجده في ساحة الضيعة جيبه. وجدتُ بائع بطيخ واقفًا ومُعلّقًا مثلي مثله. أذكر أنّني أعطيتُه خمسين ألف ليرة لبنانيّة، وأعطاني ثلاث بطيخات. رميناها على سطح "البرندا" على الأرض، وصرنا نلعب، نمرّغ وجوهنا بالبطيخ ونقول... كأننا نريد أن نستقبل الموت ضاحكين. 

في تلك اللحظة، لم يُضرَب هذا البيت، فأحسستُ أن هذه قصّة يجب أن أحتفظ بها وأخبرها لأولادي. في لحظة: كم كان الموت قريبًا من الإنسان في هذه الحروب كلّها؟

 

لانا مدور: تعرف، قلتَ شيئًا مهمًّا جدًّا: "أخبرها لأولادي". للأسف، الأجيال اللبنانيّة كلّها ـ من الجدّ إلى الأب إلى الأولاد ـ كلّهم يعيشون أنواعًا مختلفةً من الحروب. لماذا أنت حريصٌ على إخبار أولادك عن ذاكرتك في الحرب، رغم أنّ ذاكرتهم مُثقّلةٌ أيضًا؟ 

 

محمد ناصر الدين: ربما هم لم يعيشوها ولا يعرفونها.

 

لانا مدور: نعم، لكنهم عاشوا هذه الحرب، أليس كذلك؟ كم أعمارهم؟

 

محمد ناصر الدين: عندي ولدٌ شابّ صار كبيرًا: مهدي. نعم، عاش جيّدًا. لكن هناك ولدان صغيران: باسل وألكسندر؛ لا يعرفان ما معنى هذه الحرب. لا أريد لهذه التفاصيل أن تضيع. من جهةٍ، هناك جزءٌ شخصيّ في الموضوع: حياتُنا تفاصيلُنا، والتفصيل أعتبره مهمًّا في الحياة. هذه واحدة. والجهة الثانية: جزءٌ ينتمي إلى قضيّة الجنوب وجبل عامل بشكلٍ عام. لم تُكتب هذه القصص بشكلٍ جيّد؛ ستضيع. هناك مقاومة إنسانيّة بلبنان قبل أن تكون أيديولوجيّةً أو تحمل رايةَ أيّ تنظيم؛ حملها الناس، وعاشوها الناس، وعاشوا هذه الحروب وهذا الصمود، وتمسُّكُ الإنسان الجنوبي بأرضه. للأسف لم يُقدَّر لهذه المقاومات كلها أن يأتي أحدٌ يكتب هذه القصص كي لا تضيع، ويُوصلها بالتراث العالمي: بمقاومة الفرنسيين والإيطاليين للفاشيّة والنازيّة.

 

لانا مدور: مهدي، ماذا يعرف عن الحرب التي عشتَها؟

 

محمد ناصر الدين: يعرف كثيرًا؛ مهدي حريصٌ أن يسألني. مهدي يريد أن يعرف قصّة ضيعته أولًا: لماذا تدمّرت هذه (سُجْد). نحن قريةٌ اسمُها "سُجْد"، "عربصاليم" هي الضيعة التي تهجّرنا إليها. مهدي حريصٌ يعرف: لماذا بيتُ جدّه تدمّر مرّتين؟ نحن دائمًا نحكي له عن هذا البيت الذي كان فيه "ممشى" ورد. لديّ صورةٌ لي وأنا جالس قرب الورد الجوري. وأتذكّر قصّة: عندما كان أبي يلقطني على يده، يلعبون ورقًا، والسُّجود... الليل الجنوبي طويلٌ وعميق. الناس تغلبه بلعب الورق. فيقتحم الجيش الإسرائيلي "البرندا" بحثًا عن أحد المقاومين، والوالد يعمل حيلةً ليُضيّعهم. وقتها كان جزاؤنا سنة 1985: دُمِّرت بيوتنا لأننا رفضنا أن نتعامل مع الجيش الإسرائيلي ونعطيه ناسًا إلى جيش لحد (العملاء). دُمّرت "سُجْد" أوّل مرّة، وبيتنا هذا الحلو، البيتُ القروي النموذجي... دُمِّر. 

الآن أيضًا دُمِّر البيت مرّةً ثانية؛ كان أوّل بيتٍ ينزل فيه صاروخ يسمّيه الجنوبيون "الأذان": هذا الذي ينزل... مهدي أحبّ أن يعرف: لماذا بيتُ جدّه وبيتُ أبيه نزل وتدمّر؟ أنا مسرور أنّه يتمسّك بجذوره وتاريخه. ذهب مهدي إلى أميركا منذ سنوات؛ خفتُ ألّا يعود... عند أهل والدته. فوجئتُ، منذ صيفيتين، ونحن جالسون في سُجْد ـ تُسمّى "جوار الغيم"؛ هي واحدةٌ من أعلى القرى في الجنوب اللبناني، علوّها 1200 متر، ونسمّيها أيضًا "أميرة الضباب" ـ جالس تحت السنديانة، مهدي يتفرّج، قال لي: "بابا، هذه الأرض هي أجمل أرضٍ في العالم". اطمأننتُ حينها أنّ لمهدي جذورًا؛ هناك شيءٌ يجعله في أرضه. هذه الحرب أكّدَت أيضًا... هو رأى ماذا يحصل. 

 

لانا مدور: ما الذي برأيك يُعيد الشباب إلى هذه الأرض؟

 

محمد ناصر الدين: =أظنّ أنّ همجيّة العدوّ الإسرائيلي... جعلتنا نعرف قيمة أرض جبل عامل، الأرض الجنوبيّة: البقعة من الأرض التي حقًّا يواجه فيها الحقُّ والخيرُ والجمالُ كلَّ شيءٍ وحشيٍّ وهمجيّ. القضاء على... هؤلاء الأولاد شاهدوا، والشباب... تدميرُ بيوت النبطية الإخباريّة... تدمير السوق؛ السوق الذي هو المكان الذي تتجمّع فيه الناس ويتحدّثون، والمقهى... هنا نصنع المدينة ونصنع الاجتماع. لديه إصرارٌ هذا العدو على أن يُدمّر أصغر مظاهر الحضارة في بلادنا. أظنّ أنّ ردّة الفعل عكسيّة: أعود إلى قصيدة حبيب صادق: "شُدِّي عليكِ الجرحَ وانتَصِبي". الإصرار من وراء هذا الجُرح الكبير الذي نعيشه.

 

لانا مدور: منطقي السؤال إذا سألتُك: ما أقسى ذكرى محفورة لديك؟

 

محمد ناصر الدين: ذكرياتٌ كثيرة محفورة.

 

لانا مدور: هناك الكثير من الذكريات القاسية، لكن الأقسى... 

 

محمد ناصر الدين: هي ذكرى مؤثّرة. لا أدري إن كانت قاسية. يومَ حرب تموز 2006 اتّصل بي أحد طلابي في الجامعة وقال لي: "بيتكم نزل في الضاحية". رأيتُ دمعةً في عين أبي. قد يكون هذا المشهدُ الأقسى. قلتُ له: "البيوت تذهب. لماذا ذرفتَ الدمعة؟" قال لي: "أنا آسفٌ على المكتبة". هي مكتبةٌ جمعها منذ كان عُمرُه عشر سنواتٍ في العزريّة. 

 

لانا مدور: هذا أصعب شيء. 

 

محمد ناصر الدين: كان عندي إحساسٌ أنّ المكتبة ما زالت. دخلتُ الضاحية والطيران في الجوّ، ورأيتُ البناية ما زالت واقفة؛ أربع بناياتٍ قربها كانت نازلة. أحببتُ أن أؤكّد لوالدي أنّ المكتبة ما زالت. دخلتُ وفعلتُ اختبارًا غريبًا أمام الكتب؛ هذا الشيء جرّبته في المغرب قبل في ورشة عمل. كنتُ أسأل الناس: "إذا احترقت مكتبةُ العالم، وعليك أن تُنقذ كتابًا واحدًا، ما يكون هذا الكتاب؟" اعتبرتُها يوتوبيا. في تلك اللحظة عندما صعدتُ إلى البيت، أريد أن آتي لأبي بكتاب... عشتُ أنا الاختبار فعلًا: أمام مكتبةٍ فيها 15,000 كتاب، ماذا سآخذ من المكتبة؟ 

هناك كتابٌ يحبّه إسمه "خِطط جبل عامل" للسيّد محسن الأمين؛ يحكي عن تاريخ الجنوب، تاريخ القرية. وللمُفارقة، عندما جلبتُه له وفتحناه، صار شيءٌ غريب: في قصيدة "الدردارة" لحسن العبدالله ـ علويّة أيضًا تحبّها كثيرًا ـ كان أبي محتفظًا بالعدد الذي نزلت فيه في جريدة "النداء" سنة 1981؛ ورقُها صار أصفر برسوم أميل بنعَمْ، فردَّ أبي على الطاولة وقال جملةً شعريّةً لا أنساها أبدًا في حياتي: "أنا أفرض سهل الخيام على الطاولة". فأحسسنا في تلك اللحظة أنّ سهل الخيام أمامنا، وتلك الدبّاباتُ المقاومون يحرقونها بصواريخ "الكورنيت" كأنّها تخرج من القصيدة.

 

لانا مدور: كم هو جميل. المكتبة بقيت صامدةً؟ 

 

محمد ناصر الدين: في هذه الحرب، تضرّر جزءٌ منها، لكن القسم الكبير بقي.

 

لانا مدور: هذا أصعب شيء. على فكرة: أقول: بإمكانك أن تهرب وتنقذ ربما بعض الأمور، لكن لو أمكنك أن تضع مكتبتك في حقيبة وتأخذها معك.

 

محمد ناصر الدين: صحيح.

 

لانا مدور: من والدك صرتَ تحبّ القراءة، أستاذ محمد؟ كان له التأثير الأكبر على حياتك؟

 

محمد ناصر الدين: رُبّينا في بيتٍ فيه مكتبة. أتذكّر أنّ أبي أنقذ مكتبةً أيضًا لأحد أبناء الجالية اليهوديّة في بيروت؛ كانت المكتبة ستحترق ـ تنظيمٌ ميليشيا محلّي. فالنهار، في الثمانينيات، أرى الوالد جالبًا "كاميون" محمّلًا بالكتب؛ دفع ثمنها المال الذي كان مُدَّخرًا ليشتري شقّةً في منطقةٍ خارج الضاحية. فعشنا مع الكتاب. عندي علاقةٌ حسّيّةٌ مع الكتب، مع أنّني دكتور في الفيزياء الطبيّة... شيءٌ مختلفٌ تمامًا، لكن أحبّ... الكتاب أشعر أنه صديق روحي.

 

لانا مدور: لكن تعرف... قصصُك جميلةٌ جدًّا وأنتَ ترويها؛ تأخذنا إلى المكان والزمان. أتخيّل كيف ستكون في الكتب عندما نقرأها. 

 

محمد ناصر الدين: هذا الكتاب تهيّبتُ أن أفعله قليلًا. أنا شاعرٌ أساسًا: أكتب قصيدةَ نثرٍ ومترجم، وأتهيّب بفنّ القصّ والرواية لأنّ الرواية أصعبُ فنٍّ في العالم. الشاعر قد يتخفّى وراء التجريد أو الاستعارة أو الإبهام؛ الرواية تكشفه بعد السطر الثالث.

 

لانا مدور: هل كانت لديك صعوبةٌ أن تكشف نفسك؟

 

محمد ناصر الدين: لا، هذه الذكريات كان عندي تعاملٌ معها لأنّها بلا تكلّف؛ هذه قصصي الشخصيّة. وكتبتُ قصصَ شهداء في الحرب هم أصدقائي. إلى درجةٍ أنّه عُرض عليّ في أماكن أن أكتب سِيَرَ شهداء، فرفضتُ إذا كنتُ لا أعرفهم. 

 

لانا مدور: مَن أصعب خسارةٍ شخصيّة؟

 

محمد ناصر الدين: شخصان. على الصعيد الشخصي: والدي. انقطع عنه الدواء في حرب تموز؛ كانت وفاته بسبب هذه المسألة.

 

لانا مدور: حرب تموز، منذ ذلك الوقت؟

 

محمد ناصر الدين: بعد الحرب بقليل ـ كانت إسرائيل ما تزال تُحاصِر... فهذه خسارةٌ شخصيّةٌ كبيرة. أمّا الخسارات السياسيّة... هذا الوطن... خساراتٌ كثيرة. لكن أعتبر خسارة أبي على الصعيد الشخصي هي الأكبر.

 

لانا مدور: طيب، قصّةُ شهيدٍ لا تنساها. أحاول أن أعمل معكِ جردةً لما يمكن أن...

 

محمد ناصر الدين: هناك شهيدان... الشهيد سالم عبّود: كتبتُ له قصّة. كان أحد أبطال طفولتي في قرية عربصليم. عندما تهجّرنا... سالم ـ ربما لأنني كنتُ صغيرًا ـ كنتُ أراه عملاقًا؛ كان يليق به الفردُ على جنبه، شخصيّةٌ حلوة، وكان يقولون إنّ سالم هو الذي يصطادُ الحَجَل، وهي الطائر، في "جبل الرفيع". خاله علّمه الصيد. استُشهد سالم، وكتبتُ له مرثيّة: علاقته بالنهر وبالجبل، كيف كان حافظًا "جبل الرفيع" كما يحفظ كفّ يده. 

الشهيد الثاني: مازن شعيتو؛ صديقٌ كان عندي في الجامعة، للمفارقة كان معي في المدرسة أيضًا. أنا ولدٌ ضعيفُ البنية، مازن كان يُجيد المراوغة في كرة القدم؛ يوقفني دائمًا على خطّ مرمى فريق القسم، ويقول لي: "الآن سأقطع عن كل اللاعبين، ثمّ أُمرّر لك الكرة: فقط أنكزْها فتدخل المرمى". كتبتُ له: "أعد لي الطابة" عندما استُشهد، أردتُ إيّاه شخصيًّا، قلتُ له: "لا أُحبّك بثياب الشهداء؛ أحبّك بنهار كنتُ واقفًا على المدينة الرياضيّة". جاءت سيارة... لم تكن عندي سيارة. أجد مازن شعيتو يُقلّني بسيارته، يضع لي شريطَ الأناشيد التي كنّا نسمعها أيام المدرسة، يأخذني إلى عليّ، ويقول لي: "اشتقتُ لك. صار زمانٌ لم نجلس". ويُستشهد بعد شهرٍ في الحرب. 

تذكّرنا: "في بلادي يحكونا في شجنٍ عن صاحبي الذي مضى وعاد في كفن". جلبنا مازن في كيس... في كفنٍ بمستشفى صلاح غندور. هذه القصص تحفر. كتبتُ أغلبها؛ كتبتُ... يجب أن أُخرجها. 

 

لانا مدور: كتبتها شعرًا؟

 

محمد ناصر الدين: شعرًا ونثرًا.

لانا مدور: لماذا الحفاظ على الذاكرة مهمٌّ للجنوبيّين حاليًّا؟

 

محمد ناصر الدين: لأنّها تضيع؛ هذه الأمور تضيع وتُزيَّف. الوطن العربي مليءٌ بالتزييف والتجييش الطائفي والمذهبي. نضالُ هؤلاء الناس يُصوَّر أنّه نضالٌ مذهبيٌّ بزاويةٍ ضيّقة، وساعدتْ بعض الأدبيات التي لم يكن ينبغي أن تُقال بطريقةٍ معيّنة لإظهار كثيرٍ من التناقضات في العالم الإسلامي بين الطوائف والمذاهب. هذه الذاكرة هي ذاكرةُ شعبٍ فعلًا يُناضل من أجل أرضه ومن أجل حريّته، بغضّ النظر عمّن يدعمه، ومن هي الدول التي دعمتْه في سبيل نضاله. هي قصّةُ بيتي أنا قبل أن تأتي أيّة دولة تشجّعني على حرب عدوّ. فإذا لم أكتبْها ستسقط. 

ضاع قسمٌ كبيرٌ من التراث الجنوبي، الفولكلور الجنوبي ضاع. اليوم إذا تطلّعين وتسألين عن "العتابا" الجنوبيّة و"الدلعونا"... ضاعت. 

 

لانا مدور: غير موجودة؟ 

 

محمد ناصر الدين: أحاول كثيرًا أن أجلس مع الناس الكبار في السنّ، خصوصًا في ضيعتين: "سُجْد" كانت ضيعةً فيها حكايات وقصص؛ لأنّ الطريق دخلتْها سنة 1964. الناس كانت تتسلّى بالحكي؛ يقعدون حول النار، وأوقاتٌ كان الثلج يغطّي بيوتهم حتى شهر نيسان؛ يأتي أهل الرّيحان "بالمعاوِل" يزيلون الثلج عن أبواب البيوت. هناك حكايةٌ كثيرة. ساعدتني "شهرزادان" إنْ شئتِ: في كلّ بيتٍ جنوبيٍّ "شهرزاد". عندي جدّتان: الجدّة من جهة الأمّ عاشت 110 سنوات، والثانية كانت الناطق الرسمي باسم عائلتها في "السُّجود": حافظةٌ كلّ قصص عائلتها وخبرياتهم و"ورديّاتهم"... ساعدني هذا كثيرًا أن أنتشل من الذاكرة الأشياء التي استطعتُ، وهي ستكون مادّةً في كتابٍ قادم.

 

لانا مدور: جميل. أستاذ محمد، أشكرك كثيرًا على هذه الرحلة في الحنين والذاكرة، ومن أجمل الحوارات حين نتحدّث عن القصص الحقيقيّة، خصوصًا عن هذه الذاكرة الحافلة لأهل الجنوب. أشكرك على انضمامك إلينا في "بين الكلمات".

 

محمد ناصر الدين: شكرًا لك.

 

لانا مدور: مشاهدينا، مع هذه الفقرة، مع هذه الرحلة في الجنوب، نصل إلى ختام "بين الكلمات" لهذه الليلة. 

شكرًا لمتابعتكم، وإلى اللقاء.