التهجير ...حين تتكرر الكارثة بصيغة جديدة

تصريحات ترامب الأخيرة حول غزة: مشروع استيطاني عنصري جديد يُقابَل بصمود فلسطيني واستفاقة عربية تمثلت في مواقف مصر الحازمة، ورفض الأردن والسعودية لفكرة التهجير، وصولاً إلى قمة عربية أصدرت مواقف تعبّر عن رفض واضح... فهل تتحوّل المواقف إلى أفعال؟

نص الحلقة

<p>&nbsp;</p> <p>&nbsp;</p> <p>حمدين صباحي: تحيّة عربية طيّبة.&nbsp;</p> <p>التهجير صار العنوان الأكثر سخونة للصراع المُشتعل ضدّ أعداء الأمّة.</p> <p>دونالد ترامب بثقل منصبه وخفّة تصريحاته دخل ليبشّر شعبنا الفلسطيني بعد أن ذرف دموع التماسيح على الإبادة التي تعرّض لها وما لحق بغزّة من دمار، وقال: "لا يمكن لأحد أن يعيش في هذا المكان، سأرحّلهم من غزّة وأبني فيها مُنتجعات ستكون ريفييرا الشرق". لكن الرجل قال أيضًا إن المُنتجع على أشلاء الشهداء سيكون مفتوحًا للراغبين في الراحة من شتّى بقاع الأرض، ممنوعًا على أصحاب الأرض، على الفلسطينيين.</p> <p>هذه هي القسمة (الضيزى) التي ينتهجها سيّد البيت الأبيض الأرعن في احتفائه بنتنياهو، يعلن دعمه لخطّة التهجير.&nbsp;</p> <p>ما قاله ترامب ليس جديدًا، هذه هي العقيدة الصهيونية منذ أقدمت هذه العصابات على احتلال أرض فلسطين، وما قاله ترامب سيفشل، ليس هذا أول فشل لمشروعات تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.</p> <p>التهجير هو جزء من مخطّط واسع المدى للهيمنة الصهيونية على أمّتنا العربية. لكن كل ما أقدموا عليه من خطط التهجير كان السبب الرئيسي في فشله هو الصمود العظيم للشعب الفلسطيني، شعب لا يمكن أن يُقتلع من أرضه، في هذه المرة ستلقى نفس النتيجة، نفس الفشل.</p> <p>اليوم نشهد استفاقة للنظام الرسمي العربي، الموقف ضدّ التهجير رفع مستوى الخطاب الرسمي العربي ليقترب من مشاعر الجماهير العربية. ها هي مصر بكل ما تعنيه من قيمةٍ ومكانةٍ في قلب أمّتها وفي تاريخ الصراع مع العدو الصهيوني، تجزم وتحسم: لن نسمح بالتهجير ولا بتصفية القضية الفلسطينية. قالتها في بداية الطوفان، وجدّدتها بعد تصريحات ترامب. كان موقف الرئيس السيسي حاسِمًا، وكانت لغة الخارجية المصرية وبياناتها جادّة، حادّة، على نحو لم نسمعه في خطاباتها منذ وقّعت مصر الرسمية على كامب ديفيد منذ قُرابة أربعة عقود.</p> <p>كذا كان موقف الأردن حاسِمًا قاطِعًا، عندما تطوّع نتنياهو واقترح أن تستضيف السعودية في صحرائها المُترامية الشعب الفلسطيني على جزء منها، دخلت السعودية على خط الرفض القاطِع الحاسِم. هل يستطيع هذا النظام الرسمي العربي أن يحوّل الاستفاقة من الغيبوبة إلى صحوةٍ، أم سيعود إلى نومه العميق؟</p> <p>بِيَده أن يتحوّل إلى صحوة، ما أحوجه إليها، لأن الخطر داهِمٌ، ليس على الشعب العربي بل على أنظمة النظام الرسمي العربي من دون استثناء. وبِيَد هذا النظام سلاحان ماضيان كفيلان بردع ترامب على نحو التحديد.</p> <p>ترامب تاجر يُجيد الصفقات، يعرف قيمة لغة المال والمُضاربات، وبِيَد العرب سلاح فعّال هو النفط العربي والغاز العربي والأموال العربية، بما فيها المُسْتَثْمرة في الولايات المتحدة الأمريكية.</p> <p>وقف فوري للعمل بكل معاهدات التطبيع مع العدو الصهيوني، بدءًا من كامب ديفيد وانتهاءً بالسلام الإبراهيمي، هذه ورقة تفاوض قوية جدًا في مواجهة ترامب، وفي مواجهة العدو الصهيوني.</p> <p>هذا هو واجب الوقت على النظام الرسمي العربي، إنْ كان يريد أن يُكمل كلمته التي لامست نبض الجماهير برفض التهجير، ويفعّلها، ويحوّلها إلى حقائق على الأرض. هذا هو الممكن، هذا ما هو في إمكان النظام الرسمي، غير أن الشعب يسبق النظام، والمقاومة بأيدي الشعب تسبق النظام الرسمي العربي.</p> <p>ها هي المقاومة تتجلّى في كل لحظة وتفاجئ المُعتدين من حيث يتوقّعون ولا يتوقّعون، من درعا بالحجارة، ببسالةٍ تعبّر عن معدن الشعب العربي السوري. من اليمن صواريخه التي تنطلق بإباء وعِزّة واستكبار على المُستكبرين. من جنوب لبنان الصامِد، رغم اختراقات العدو واعتداءاته وانتهاكاته. وبالطبع من الضفة، ومن غزّة، غزّة الباسلة الصابِرة المُسْتَبِسلة الأبيّة. الانتصار لغزّة هو معيار العروبة في هذه اللحظة.</p> <p>الأمّة تستطيع أن تقاتل بدمها، لكن أيضًا عليها أن تقاتل بنفطها. لا يليق بأمّةٍ تدَّعي شرفًا وكرامة وسؤددًا وتاريخًا أن تترك الدم العربي ليخوض معركة الأمّة، بينما النفط العربي يتخاذل ويتجنّب المواجهة.</p> <p>إلى غزّة الصابِرة الباسِلة، المُستعصية على التهجير وعلى الهزيمة، نستذكر كلمة الزعيم العربي جمال عبد الناصر عندما زار غزَة عام ٥٦ وخاطب أهلها بمحبّة ويقين: "يا أهل غزّة، أطلب منكم ثلاثة أشياء: الأمل، والصبر، والإيمان، هذا طريقنا للانتصار."</p> <p>نعم، يا ابن العروبة البار الذي عشت ومت من أجل فلسطين، شعب غزّة الذي خاطبته ذات يوم هو الآن أعظم وأروع وأبْسَل ما يكون، وهو من بيننا الأكثر أملًا، والأكثر صبرًا، والأكثر إيمانًا، وبهذه العزيمة سيقهر الإيمان العربي تكنولوجيا العدوان الصهيوني، سينتصر الدم على السيف، وسيُبْطِل التهجير، ويُبْطِل مشروع الشرق الأوسط الجديد.</p> <p>التهجير جزء من عقيدة الصهاينة. العقيدة الصهيونية، بالمناسبة، هي ترتيب فكري ابتدعته الحركة الصهيونية، وعلاقته بالديانة اليهودية هي علاقة استغلال فجّ وتحريف.</p> <p>هناك فارِق جوهري ما بين اليهودي والصهيوني. نحن كأمّةٍ عربيةٍ لنا حضارة عظيمة تعايَش فيها المسلمون والمسيحيون واليهود في عصورٍ كثيرةٍ على أرضية التآخي والمُساواة بالوطن، وهذه من القِيَم الكبرى في مشروعنا الحضاري.</p> <p>لذلك أحيانًا نحن لا نكره اليهودي لأنه يهودي، الإسلام والمسيحية واليهودية هي أديان سماوية، ونحن نؤمِن بالله وكُتبه ورُسُله، ونحن لا بدّ من أن نكون واضحين، =أنه بقَدْر ما نقبل الأديان السماوية، ومنها اليهودية، بقَدْر ما نرفض بحسم ونُدين العقيدة الصهيونية.</p> <p>في الوصايا العشر: "لا تقتل"، العقيدة الصهيونية تحرّض على القتل، وتعتبر أن مَن يقف في طريقها يعني ليس مؤمنًا، من الأغيار، تقتله بدمٍ باردٍ، وممكن أن تذرف عليه دموع التماسيح، أو كما يقول ترامب، أهل غزّة، يا عيني، يجلسون في خراب، أريد تهجيرهم حتى أُعمّرها، لكن ليس لهم.</p> <p>وهذه الفكرة الأصيلة في العقيدة الصهيونية، فكرة التهجير، ترجمت نفسها في خططٍ مُتوالية. هل هذا الذي نواجهه اليوم بسبب أن نتنياهو على رأس حكومة الكيان الصهيوني يمكن وصفها بأنها نظام فَرْط يميني، بالغ اليمينية؟ الحقيقة لا.</p> <p>لو عدنا لنراجع خطط التهجير التي انتهجتها دولة الاحتلال، سنكتشف أن ليفي أشكول، وكان رئيس وزراء لإسرائيل، وكان معه موشي ديان وآخرون في هذه الحكومة، أحد خطط التهجير التي تعاقبت كانت تعبّر عن نفس الفهْم. التهجير أسلوب مُعتمد في العقيدة الصهيونية ودولة العدوان الصهيوني. ربما الفارِق أنهم كانوا حريصين في الخطط التي سنستعرضها تِباعًا الآن على الشاشة، أنهم يرتكبون الخطيئة ويحاولون الاستتار.</p> <p>كان موشي ديان، على سبيل المثال، يقول: لا داعي أن نُهجِّر في المرة الواحدة أكثر من ٢٠٠٠٠، لأنه في هذه الحال، العالم سيكتشف أننا نرتكب جريمة تهجير.</p> <p>تعلمون بالقَطْع أن التهجير القَسْري هو جريمة مُدانة في الشرْعة الدولية وفي القانون الدولي.</p> <p>الفارِق أن الذين يتحدّثون الآن، بمن فيهم ترامب، رئيس الدولة التي تدّعي أنها حامية للديمقراطية، وتُسخِّر نفسها للإبادة الجماعية، الفارِق أن صهاينة اليمين المُتطرّف الآن ليس لديهم رغبة في أنهم يستترون إذا ارتكبوا الخطيئة، الخطيئة في العلن، بل يُفاخِرون بأنهم من الخطّائين.</p> <p>&nbsp;</p> <p>تقرير:</p> <p>عام 1948 أُجْبِرَ ثلاثة أرباع المليون من الفلسطينيين على الرحيل عن وطنهم بعد طرد غالبيّتهم الساحِقة من المدن والبلدات والقرى التي احتلّها المستوطنون اليهود، إما بالترهيب وإما بقوّة السلاح. وقد جرى ترحيل هذا العدد الكبير من الفلسطينيين على مراحل عديدة تبعتها حملات تهجير أخرى، وفق مُخطّط صهيوني إسرائيلي يُراعي اعتبارات جغرافية وديموغرافية.</p> <p>ويمكن استعراض مراحل التهجير زمنياً كما يأتي:</p> <p>المرحلة الأولى نهاية عام 1947، المرحلة الثانية مطلع عام 1948، المرحلة الثالثة مُنتصف عام 1948، المرحلة الرابعة بين نهاية عام 1948 ومطلع 1949، المرحلة الخامسة بين عام 1949 و1956، المرحلة السادسة عام 1967، المرحلة الجديدة عام 2023 وحتى الآن.</p> <p>المرحلة الأولى انطلقت مباشرة بعد خطّة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين في عام 1947، تصاعدت العمليات الإرهابية العشوائية على الفلسطينيين، ما أدّى إلى رحيل مُبَكّر لما بين 15000 و20000 من نُخَب المدن ولجوئهم إلى لبنان ومصر.</p> <p>أما المرحلة الثانية فجاءت في العاشر من آذار/مارس عام 1948 مع ما عُرِف يومها باسم الخطة "د"، فانتقل التهجير من عمليات هجومية مُتفرّقة على الفلسطينيين إلى عملياتٍ واسعةٍ ومنظّمةٍ بهدف السيطرة على أكبر مقدار من الأرض قبل انتهاء الانتداب البريطاني. وانتهت العملية بتهجير مئات الآلاف من مدنٍ رئيسية.</p> <p>المرحلة الثالثة كانت في الخامس عشر من أيار/مايو عام 1948 بعد إعلان دولة إسرائيل ودخول الجيوش العربية واندلاع الحرب، وقد شهدت أبشع المجازر وكُبرياتها وتسبّبت في تهجير خارج فلسطين وأيضاً في نزوح داخلها لعشرات الآلاف.</p> <p>لاحقاً أُنْجِزَت المرحلة الرابعة من التطهير العِرقي بين تشرين الأول/أكتوبر عام 1948 ومطلع عام 1949 وركّزت على المدن الجنوبية ومنطقة النقب، وهُجِّر مَن فيها إلى قطاع غزّة.</p> <p>بين عامي 1949 و1956 تواصل تهجير الفلسطينيين من أراضي 1948 وتسبّب ذلك في طرد ما بين 30000 و40000 فلسطيني.</p> <p>ثم جاءت حرب 1967 وحملت معها عملية تهجير شملت ما بين 280000 و325000 فلسطيني، وقد هُجِّر نحو 245000 فلسطيني من الضفة وغزة إلى الأردن، ونحو 11000 من غزّة إلى مصر، ونحو 116000 سوري من مرتفعات الجولان إلى سوريا.</p> <p>اليوم تقف الضفة وغزّة على أبواب تهجير جديد وسط موقف عربي رافِض شكلياً لكنه ضعيف ومُنقَسم عملياً مقابل دعم أمريكي غير مسبوق، بل تبنٍّ لهذه الفكرة.</p> <p>&nbsp;</p> <p>حمدين صباحي: البعض يقول تستطيع إسرائيل أن تفعل مع الفلسطينيين ما سبق أن صنعته جحافل البيض الغازية والتي أسّست على أنقاض شعوب الهنود الحُمر دولة الولايات المتحدة الأمريكية.</p> <p>هذا استنتاج خاطئ، لأنه منهجياً يتغافل عن عنصرٍ جوهري، هو أن فلسطين جزء لا يتجزّأ من أمّة عربية كبيرة واسعة ممتدّة عميقة الجذور تاريخياً وافِرة الموارد.</p> <p>كان الهنود قبائل ولم يكن لهم ظهير. فلسطين حاضِرة من المحيط للخليج في أمّةٍ عربيةٍ ولها عُمق إسلامي مُمتدّ، وهي كما رأينا من ثمار طوفان الأقصى حاضِرة الضمير العالمي، ليس فقط في الجنوب، وفي طلائع من الشباب وأصحاب الضمائر حتى في الغرب وفي الشمال.</p> <p>في استحالة موضوعية أن عقيدة الصهاينة تحقّق أهدافها مهما طال الزمن ومهما تعدّدت المحاولات، بالعكس، إذا افترضنا، وهذا فرض جَدَلي ليس لديه أية إمكانية للتحقّق، أنهم هجّروا غزّة والضفة، هل الصراع العربي الصهيوني سينتهي؟ لا.</p> <p>=إخواننا البواسِل في فلسطين، في الضفة وغزّة، هؤلاء هم مقدّمة جيش الأمّة في مواجهة العدو الصهيوني، وإذا هذه المقدّمة، كما كل الحروب، تراجعت، الصف الثاني يكون هو المقدّمة، يعني المُجابهة ستكون مباشرة مع مصر، مع لبنان، مع سوريا، مع العراق، مع السعودية، دول الطوق وما بعدها.</p> <p>أزمة الحركة الصهيونية، وهذه الدولة اللقيطة التي زُرِعَت ولا زالت تتغذّى عبر الأنابيب الصناعية، وإلا كانت انتهت منذ السابع من أكتوبر، هذه لا تعلو الأبطال من المقاومة في طوفان الأقصى.</p> <p>أزمتها أن هذا الكيان مُضادّ للجغرافيا ومُضادّ للتاريخ، هذه الجغرافيا لم تكن في أية لحظة إلا للشعب الذي بنى حضارته عليها، وهذا التاريخ لم يكن إلا للذي صنعه بدمه وإبداعه وعطائه وابتداعه للحياة وتكوينه النفسي كأمّة.</p> <p>الجسم عندما يُزْرَع فيه عضو غريب يلفظه. إسرائيل عضو غريب في جسد أمّة تلفظها، وهذا ما هو في الإمكان، هذا الجسم العربي لن يقبل أبداً الوجود الصهيوني.</p> <p>في كل يوم تتوالى مشاهد التدمير المُمَنْهج في غزّة، البشر والحجر والشجر في إبادة تُرْتَكَب فظائعها أمام عالم كأنه فقد الإرادة أو فقد الوعي أو فقد الضمير.</p> <p>ترى أهلنا في فلسطين، في غزّة، بصبرٍ وبسالةٍ وانتماءٍ عظيم لقضيّتهم، يُهجَّرون قسْراً من كل شبرٍ إلى كل شبرٍ في غزّة، ثم نرى الحلقة تدور، فمَن هُجِّر منهم اليوم يُهجَّر مُجدّداً، لماذا؟</p> <p>طبعاً غير اضطراب العدو وفشله في تحقيق أهدافه، بفضل بسالة وشجاعة وذكاء وكفاءة المقاومة وتمكّنها من المواجهة. لكن أيضاً تكمُن خطط التهجير المُعتمدة الآن، والتي تقوم على عناصر رئيسية: الحِصار، التجويع، عَزْل أجزاء غزّة عن بعضها البعض لتكون بمثابة مَعازشل، يسهل استخدام حرب شرسة ضدّ مناطق بعينها لتفريغها من سكانها أو إكراههم على أن يُهجَّروا.</p> <p>الخطّة الأحدث التي تواجهنا الآن، وهي كامِنة وراء مشاهد الدمار المُتعدّدة التي نرقبها يومياً، إسمها خطة الجنرالات، وهذه اعتُمِدَت في سبتمبر سنة 2024 في اجتماع ضمذ مجموعة من جنرالات إسرائيل المُتقاعدين مع الحكومة أو مجلس الحرب.</p> <p>خطّة الجنرالات هذه تتكامل مع خطّة تهجير أقدم كان اعتمدها أريئيل شارون سنة 71 باسم الأصابع الخمس، وتقوم على تقسيم قطاع غزّة إلى إصبع أول من شمال القطاع غرباً حتى شاطئ البحر، والإصبع الثاني من مخيم جباليا إلى مدينة غزّة، والثالث هو محور نتساريم الذي يفصل شمال غزّة عن جنوبها، والرابع من جنوب نتساريم إلى حدود فلسطين-مصر. الإصبع الخامس، وهذا كان وقت احتلال إسرائيل لسيناء، من حدود فلسطين-مصر إلى الشيخ زويد.</p> <p>الخطتان هاتان استُلْهِمتا من فكرة طبّقتها أمريكا في حرب فيتنام، وكانت تقوم على عَزْل الجغرافيا الفيتنامية من أجل مُحاصرة قوى المقاومة الفيتنامية والشعب الفيتنامي الذي تصدّى للعدوان الأمريكي.</p> <p>هذه الخطّة إسمها برنامج هامْلت الاستراتيجي، وكما كُسِرَ برنامج هامْلت الأمريكي وهُزِمَ في فيتنام، سيُكْسَر أيضاً خطّة الجنرالات والأصابع الخمس وكل خطط التهجير الفلسطينية. وما أنجزته فيتنام ستنجزه فلسطين.</p> <p>يا فلسطينية، فيتنام عليكم البشارة والنصر هلا من تحت مئة ألف غارة والشمعة مُضيئة، والأمريكان في الخسارة، راجعين حيارة على قبال ما يحصل حداكو. يا فلسطينية، أريد أن أسافر إليكم، ناري في يدي، ويدي تنزل معكم على رأس الحيّة، وتموت شريعة هولاكو.</p> <p>&nbsp;</p> <p>فيديو:</p> <p>مواطِنة غزّاوية: إذا ذهبنا إلى مصر من يؤمِّن لنا أن نعود مجدّدًا إلى بلادنا، نعيش عندها مجدّدًا نكبة الـ48.</p> <p>عبد الفتاح السيسي: الظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين وتمّ تهجيرهم قبل ذلك، هل يمكن أن يتكرّر مُجدّدًا؟ أنا لا أعتقد. ترحيل وتهجير الشعب الفلسطيني من مكانه هو ظلم لا يمكن أن نشارك به.</p> <p>مواطنة غزّاوية: نعود إلى الشمال ونعيش بخيمةٍ وكوخٍ، ونعود إلى بلادنا ووطننا.</p> <p>وزير الخارجية السعودي: إننا في المملكة نرفض بشكلٍ قاطِعٍ المساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة، سواء من خلال سياسات الاستيطان أو ضمّ الأراضي الفلسطينية، أو السعي إلى تهجير الفلسطينيين من أراضيهم.</p> <p>مواطنة غزّاوية: مكتوب علينا نحن أن نعيش حياتنا مُهجّرين من الـ48 ونُتهجَّر في 2024.</p> <p>الملك الأردني عبدالله الثاني: رفضنا التام للتهجير، والتأكيد على دعم خطّة واضحة لإعادة إعمار غزّة ضمن جدول زمني، بحيث يتمّ عرضها على الشركاء الفاعلين لكَسْب الدعم الدولي.</p> <p>مواطنة غزّاوية: هؤلاء الأطفال في عقولهم ودمهم، هؤلاء يكبرون حتى يأخذوا غدًا حقّهم وحقّ آبائهم وأجدادهم وحقّهم، ويعيدوا أراضيهم، ويعيدوا الـ48 ويافا وحيفا وعكّا، كل هذه الأراضي ستعود.</p> <p>&nbsp;</p> <p>حمدين صباحي: الموقف الشعبي العربي واضح، هو موقف هذه الأمّة الطبيعي جدًّا ضدّ التهجير. الموقف الرسمي العربي، كما شاهدنا، كان من المواقف النادِرة لهذا النظام الرسمي عبر سنوات، التي تقترب فيها من موقف الأمّة ومن ضميرها، لكن يجب أن يكون لدينا وعي شعبي ورسمي بأن مُخطّطات التهجير، التي نعلم جيّدًا من واقع الخِبرة التاريخية أنها فشلت وستفشل، يجب أن نسأل أنفسنا لماذا؟ لماذا الإصرار الترامبي الصهيوني على تحويلها إلى العنوان الأكثر سخونة وجَذْبًا للانتباه والنقاش، وهو موضوع التهجير؟</p> <p>إذا كان سيُحْبَط بإذن الله، سيُحْبَط. لا بدّ من أن ننتبه أن لدى كيان الاحتلال الصهيوني، ولدى ترامب، وبالذات عند ترامب باعتباره تاجرًا ويُجيد رَفْع السقف كي يفاوض ثم ينزل بالسقف حتى يأخذ بلا ثمن ما لا ينبغي أن يأخذه. وهذا ليس أداء التجّار، بل النصّابين. لكن النصّاب حتى ينجح يجب أن يحتاج إلى مُغفّل ضحية يقبل بأن يقع في شِراك النصّاب. نَصَبَ ترامب على الأمّة الآن، لا بدّ من أن ننتبه له. إنه في لحظة، يمكن لترامب ونتنياهو أن يقولا: طيّب، سنتخلّى عن التهجير، مقابل... فيأخذوا ما يريدون بمقابل لم يكونوا ليحقّقوه، وهو التهجير.</p> <p>ماذا يريدون؟ ممكن أن نُحدّد أربعة مقاصد صهيونية أمريكية من طرح مشروع التهجير على هذا النحو، والمساومة به، حتى ماذا؟ ضمّ أجزاء كبيرة من الضفة الغربية لكيان الاحتلال، وهذا الهدف الأهمّ عند كيان الاحتلال حسب العقيدة الصهيونية. تجريد المقاومة من سلاحها، وإخراج المقاومة من غزّة والضفة. إعاقة أو منع الإغاثة والإعمار في غزّة، لتُسْتَخْدم هذه الإعاقة أو المنع كورقةِ مساومةٍ من أجل تحقيق هذه الأهداف، ولكي تبقى شروط الحياة في غزّة &nbsp;من دون الوفاء بالحاجات الأساسية للإنسان.</p> <p>هذا وضع يمكن أن يخلق بيئة طارِدة لغزّة، وهذا ما يريده الصهاينة، وما يطلقون عليه زَيْفًا: "التهجير الطوعي". لا تهجير طوعي، هذا عنوان زائف لحقيقةٍ أن كل تهجير من أرض فلسطين هو قَسْري. فإذا استُعْمِل سلاح التجويع والحصار ومنع الماء والكهرباء والدواء وإمكانات الحياة، لكي تستحيل الحياة في غزّة، ثم الغزّاوي نجاةً بحياته يقول يمكن أن أخرج، رغم أن الغزّاوي لا يفعل ذلك، رغم أن هذه الظروف مفروضة عليه، عندها يدّعي الصهاينة زورًا وترامب أن هذه هجرة طوعية.</p> <p>وأخيرًا، أن يأتي السيّذد ترامب، المساوِم التاجِر، بروح النصّاب، يقول لحكوماتنا العربية: ممكن أن أتنازل عن موضوع التهجير المُثار، أتنازل عن إصراري عليه، مقابل مزيد من عار "السلام الإبراهيمي"، مزيد من توقيع اتفاقيات لصالح العدو الصهيوني، تحت مظلّة "السلام الإبراهيمي" و"صفقة القرن" التي دشّنها ترامب في فترته الأولى، ويسعى الآن لكي يُكْمِلها في فترته الثانية.</p> <p>لكي نُوقِف مُخطّطات التهجير التي فشلت مرارًا، ستفشل هذه المرة مجدّدًا، ولكي نفهم ما هو أوسع منها، السرّ في هذا الصمود الأسطوري، وَصْف "الأسطوري" التصق بأهل غزّة شبابها، ورجالها، ونسائها، ومقاومتها، بكل فصائلها. ما اجترحته غزّة من معجزة في الصمود، بالفعل، يستحقّ وصف الأسطورة، لكن الذين يعيشون في غزّة ويصنعون المعجزات هم بشر مثلنا، أهلنا، ناسنا، لحمنا ودمنا، هم ليسوا أساطير، هم يُعيدون تعريف حدود القُدرة الإنسانية. الكائن الغزّاوي يُعيد تعريف حدود قُدرة الإنسان. كيف لهذا الكائن الإنسان أن يتحمّل كل ما تعرَّض له في غزّة؟ هذا ما يجعلنا نصفه بالأسطورة، لكن الحقيقة هو إنسان، عندما يتوحّد مع قضيّته وإيمانه، يُفجّر طاقاته على هذا النحو المُدهِش والمُثير للاحترام والإكبار والاعتزاز، حتى لا أقول إن غزّة بالفعل هي عاصمة الكرامة العربية، بل هي عاصمة كرامة الإنسان وقُدرته في كل مكان.</p> <p>فَهْم الشخصية الغزّاوية هو مفتاح لكي ندرك إلى أيّ مدى يستحيل على الكيان الصهيوني أن يُحقّق مخطّطاته، ومن بينها مُخطّطه للتهجير، ولكي نعلم ونُوقِن أن أهل غزّة، رغم الدمار، سيبقون فيها، وسيُعمّروها، وسيُعيدوها إلى الحياة.</p> <p>وهذه ليست أول مرة، خمس حروب متوالية شنّها العدو الصهيوني تباعًا على غزّة منذ بدء حصارها سنة 2007، وفي كل هذه الهجمات العدوانية عاد الصهاينة خاسِرين، وبقي أهل غزّة مغروزين في أرضهم، مرفوعي القامة.</p> <p>=جزء من فَهْم هذه الشخصية الغزّاوية هو المخيّم، هذا المُخيّم مصنع مُذْهِل للبطولة في الواقع العربي، ويحتاج إفاضة. نحتاج أن نُفيض في فَهْم ظاهرة المُخيّم، سايكولوجيا المخيّم، ثقافة المخيم، طاقة المخيم. المُخيم الفلسطيني وحده مصنع لإنسان مفارِق، أرقى، وأقوى، وأعزّ، وأقدر، وأجدر بأرضه، بالحياة، وبالنصر.</p> <p>بالمناسبة، 80 في المئة من أهل غزّة من الذين هُجِّروا من باقي فلسطين، 20 في المئة من أهل غزّة غزّاوية، يعني اجتمعت في غزّة فلسطين كلها. وإذا كانت غزّة هي نموذج لفلسطين، فإن ما اجترحته من معجزة في الصمود والبسالة والبقاء، هو بحدّ ذاته استعادة لليقين في أن فلسطين باقية.</p> <p>أُتيح لي أن ألمس هذا بنفسي، أُحسّه وأستشعره، لأن أهل غزّة خيّبوا ظنّ الصهاينة في طوفان الأقصى، لأن الصهاينة كانوا متوقّعين أنهم إذا دخلوا بكل قُدّهم وقَدِيدهم وسلاحهم وقنابلهم على غزّة، فإن أهل غزّة سيتحرّكون تجاه الأمان في مصر، يجتازون الحدود كما حدث سنة 2008.</p> <p>سنة 2008، هذا حدث فعلاً. كان الحِصار قد بدأ، فأهل غزّة اجتازوا الحدود مع مصر إلى رفح المصرية. يومها، أنا كنت مع صديقي -رحمه الله- المناضل الناصري والمحامي الحقوقي الكبير محمد منير جنيدي، وصديقي سيّد الطوخي رئيس حزب الكرامة الآن، وكنا بعد مُنتصف الليل عندما تتبّعنا أخبار دخول أهلنا من فلسطين إلى رفح، واجتيازهم الحدود.</p> <p>كان لدينا إحساس -نحن قوميون عرب مؤمنون بوحدة الأرض العربية- فرحنا أن الحدود التي من أيام سايكس بيكو تقسّمنا وتعيق تواصلنا وتحرّكنا ومستقبلنا، سقطت.</p> <p>اعتقد الصهاينة أن أهل غزّة الأبطال فرّوا من الحصار ولن يعودوا، الحقيقة أن أهل غزّة أقاموا في رفح، اشتروا البضائع التي كانوا محرومين منها، سلّموا على أهلهم من المصريين على الجانب الآخر من أهل سيناء، ثم عادوا طواعية باختيارهم عبر نفس السور الذي هدموه، وعبروه جيئة إلى مصر وعودة إلى فلسطين.</p> <p>أنا كان لي شرف أن أُصاحب أهل غزّة في هذه الرحلة. يومها، نحن الثلاثة قرّرنا أن نذهب إلى أهلنا لنسلّم عليهم في رفح المصرية.</p> <p>أخذنا سيارة ووضعنا فيها ما استطعنا من مواد من السوبرماركت، مما يمكن أن ندخل على أهلنا به من بضاعة، هدية ومحبّة، واستقبلنا إخواننا في حزب الكرامة في العريش الشيخ خالد عرفات، وعماد البلك، وحاتم البلك. وذهبنا لأهلنا، سلّمنا عليهم، واحتضناهم، وشعرنا بهم، وشعروا بنا، ثم قيل لنا: "تحبّون أن تدخلوا غزّة؟" كان السؤال مُدهشًا، ولا إجابة له إلا الفرح، ودخلنا غزّة.</p> <p>في غزّة، أنا كنت وقتها عضوًا في مجلس الشعب المصري، وأهلنا في غزّة اعتبروا أن هذه أول زيارة من برلماني عربي، أو من رسمي عربي، إلى غزّة بعد الحصار الذي فُرِض عليها.</p> <p>التقينا بالمجلس التشريعي، وكان على رأسه السيّد أحمد بحر، والتقينا بالقائد الشهيد إسماعيل هنية، وبمجلس الوزراء، وعقدنا حوارًا راقيًا لا يُنسى، قد نُفيض فيه في مناسبة قادمة.</p> <p>عندما عدت، كانت هذه مبادرة ثلاثية، ورافقنا حمادة أبو غالي ليقود السيارة. كانت مصر كلها عرفت أننا في غزّة، لأن القيادي في حماس، الكبير محمود الزهّار، كان يشارك عبر الصوت في مؤتمر تضامني في نقابة الأطباء المصرية، فقال: "هنا في غزّة الآن وفد من حزب الكرامة على رأسه حمدين صباحي".</p> <p>الحقيقة، وحتى أُؤدّي فكرة عن المناخ السائد في تلك الفترة، نحن عدنا فجر اليوم التالي مباشرة، وعندما حضرت جلسة مجلس الشعب، كل البرلمان المصري -على تعدّد انتماءاته- استقبلني بحفاوة، وألقيت بيانًا تحدّثت فيه عن الزيارة، وطرحنا رؤيتنا لدعمنا الواجب كمصر، برلمانًا، وحكومة، وشعبًا، لغزّة. ونحن شكّلنا وفدًا رسميًا باسم البرلمان المصري، فذهبنا في زيارة ثانية واسعة إلى غزّة، والتقينا أيضًا كل فعاليّاتها، وعلى رأسهم الشهيد إسماعيل هنية.</p> <p>كان لمصر وسيبقى دور تجاه غزّة، ومسؤولية تجاه غزّة، ومشاعر تجاه غزّة، وواجب تجاه غزّة. لا مصر ستُفرِّط به، ولا غزّة ستتنكّر له.</p> <p>تعرف غزّة أنها ستنتصر، لأنها تعرف نفسها وعدوّها. تعرف غزّة أنها ستُفْشِل التهجير، وستكسر مشروع العدوان. تعرف غزّة، لأنها دفعت ثمنًا من دمها، وهي تتحدّى باسمها، بلسانها، على لسان المُتحدّث باسمها واسمنا محمود درويش، تُقاتل عدوّها: منكم السيف، ومنا دمُنا، منكم النار والفولاذ، ومنا لحمُنا، منكم قنبلة الغاز، ومنا المطر، منكم دبّابة أخرى، ومنا الحجر، وعلينا ما عليكم من سماء وهواء، فخذوا حصّتكم من دمنا وانصرفوا، اخرجوا، اخرجوا من أرضنا، من برّنا، من بحرنا، من قمحنا، من ملحنا، من جرحنا، من كل شيء، اخرجوا، آن أن تنصرفوا.</p> <p>&nbsp;</p>