بعد 55 عام على رحيل عبد الناصر... الهجوم مستمر
في سياق الصراع على الوعي العربي والذاكرة القومية، تُطرح تسريبات عبد الناصر—التي هي تسجيلات قديمة—ليس بهدف كشف حقائق تاريخية، بل كجزء من معركة سرديات تحاول تشويه رموز المشروع القومي العربي وضرب ثقة الشعوب بقيادتها وتاريخها. توقيت إذاعتها الآن ليس عفويًا، بل مرتبط بما يجري من تحولات في الوعي الشعبي بعد طوفان الأقصى، وتجدد الشعور القومي المقاوم. الهدف منها هو إعادة إنتاج الهزيمة في الوعي الجمعي، وتثبيت الرواية الصهيونية بأن مشروع التحرر العربي فشل، وأن لا جدوى من المقاومة.
نص الحلقة
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: تحية عربية طيّبة. </p>
<p>هل نحن العرب أمّة مهزومة؟ هذا السؤال نحن الآن في موسم إعادة طرحه مرارًا وتكرارًا بإجابة واحدة يقدّمها العدو، تريد أن تثبت أن هذه الأمّة هُزِمَت وستُهْزَم. </p>
<p>أقول هذا بمناسبة 5 يونيو التي شكّلت عقدة وربما عقيدة عند البعض، أننا الأمّة العربية وفي قلبها مصر وكل المقاومين، ليس أنه كُتِب علينا القتال، وهو صحيح، لكن كُتِبَت علينا الهزيمة، وهذه مقولة فاسدة تُروَّج بانتظامٍ وتُصرف عليها مليارات، لأن مهمّتها أن تُفْسِد على كل عربي عقله وقلبه وإيمانه بنفسه، وأن تُزيّف تاريخه وتمحو ذاكِرته.</p>
<p>الهجوم الضاري المُنظّم على الذاكِرة العربية وعلى فَهْم التاريخ العربي، التفسير المُغْرِض الصهيوني الاستعماري المُحْبَط، ليس فقط تقوم به أدوات واعية لدورها ومهمّتها أنها تستولي على عقلنا وتكسر إرادتنا، لكن أيضًا تشارك فيه للأسف أقلام =ووسائل إعلام عربية، بعضها مدفوع برغبةٍ محمودة في النقد الذاتي، لكنها تتجاوز مهمّة النقد الذاتي الذي من المفروض أن يصوِّب مسار الأمّة إلى إحباط هذه الأمّة وكَسْر روحها، وبعضها لا يمكن أن نعزله عن أنه أحد أدوات قوى أجنبية تريد أن تفسّر تاريخنا لمصلحتها.</p>
<p>نحن أمّة تحتاج أن تقرأ تاريخها بوضوح، تعترف متى كُسِرَت وخَسِرت، لكن أيضًا ترى بثقة ويقين الحقيقة الرئيسية في تعريف النصر والهزيمة: أن الهزيمة ليست الخسارة، الهزيمة هي الاعتراف بالعدو والتسليم بإرادته، كما فعلت اليابان وكما فعلت ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. لكن الأمم التي تلحق بها الخسائر، بالذات في جيوشها، لكن شعوبها ترفض الهزيمة وتواصِل إصرارها على حقّها، هذه ليست شعوبًا مهزومة، هذه شعوب مناضلة من أجل حقّها. </p>
<p>ما هو تعريف أمّتنا العربية؟ أمّة مهزومة أم أمّة تناضل من أجل حقّها؟ ما هو تعريف النصر والهزيمة؟ ما علاقة هذا بتفسيرات طوفان الأقصى التي نسمعها يوميًا، وبعضها يقول لنا لماذا دفعنا هذا الثمن الفادِح بأننا تصدّينا لعدوّنا يوم سبعة أكتوبر وكسرناه؟ نفس السؤال الذي طُرِح من قبل، لماذا دخلنا في حربٍ مع إسرائيل في 67؟ سؤال النصر والهزيمة، تعريفهم، رؤية تاريخنا فيهم، سؤال ليس مرتبطًا بالماضي، هذا له علاقة في الصراع في هذه اللحظة، وله علاقة بالمستقبل. </p>
<p>ضمن هذا الفَهْم، والصِراع حول وعينا بنفسنا وذاكرتنا وسرديّتنا القومية العربية في مواجهة سرديّة العدو الصهيوني، جاءت ما سُمّيت بتسريبات عن الزعيم جمال عبد الناصر. لماذا خرجت هذه التسريبات؟ وهي في الحقيقة تسجيلات، لماذا تُذاع الآن؟ ما الهدف منها؟ وما علاقتها بالمعركة المستمرّة على تعريف النصر والهزيمة، وعلى ذاكِرة الأمّة العربية؟</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: الهزيمة مرتبطة بالناس، الشعب، ليست مرتبطة فقط بميدان القتال العسكري. بالتأكيد القتال على جبهة الاشتباك العسكري مهمّ في ذاته، لكن نتيجته أهمّ، في نتيجة تحدث دائمًا في تاريخ الصِراع، بالحرب، بالقوّة، مَن الذي سيفرض إرادته على الآخر؟ لذلك يسمّون أحيانًا الحرب أنها امتداد للسياسة بوسيلةٍ أخرى خَشِنة. في كل صِراع عرفته البشرية، بما فيها الصِراع الدائم الذي تخوضه أمّتنا ضدّ العدو الصهيوني وصِراعات أخرى في تاريخها، كان السؤال مَن الذي سيستسلم لإرادة الآخر؟</p>
<p>الإجابة هذه ليست عند القائد العسكري، وليست عند القائد السياسي، رغم أهميّة أدوارهم، الإجابة هذه عند الشعب. إذا أردت أن تعرف هل هذه أمّة مهزومة أم أمّة مقاوِمة مُناضِلة ترفض الهزيمة وقادرة على أنها تجتازها بانتصار يمحوها، يجب أن تسأل الناس أين؟ الشعب أين؟ أين يقف الشعب؟ ماذا يقرّر الشعب؟ ما هي إرادة الشعب؟ هزيمة أو نكسة، أياً كان التعبير المُسْتَخْدم. 67 هزيمة عسكرية، لكن هل الأمّة العربية هُزِمَت بهذه الهزيمة العسكرية أو النكسة العسكرية؟ الإجابة ليست عند رأي مُفكّر أو صاحب وجهة نظر، ولا خطبة زعيم، الإجابة عند هذا الشعب، ماذا قال؟ ولهذا أفضل إجابة وأحسن إجابة وأصدق إجابة على هذا السؤال، هي الإجابة التي قدّمها الشعب المصري والأمّة العربية من المحيط إلى الخليج يوم 9 و10 يونيو، عندما أقرّ عبد الناصر بأنه يتحمّل كامل المسؤولية عن الهزيمة العسكرية وقرّر أن يتنحّى.</p>
<p>الذي جعل مصر وأمّتنا العربية تقف، لم يكن جمال عبد الناصر، كان الشعب المصري، كان الشعب العربي من المحيط إلى الخليج. كانت الصيحة التي أطلقها بقلبٍ وعزم وإيمان هذا الشعب، والذي صوّرها بصدقٍ وجدارة فيلم مهمّ في تاريخنا السينمائي عن هذه اللحظة، عندما خرجت محسنة توفيق تقول: سنحارب. سنحارب هي إعلان للشعب أنه لم يُهْزَم، خسر؟ نعم، قدّم ثمناً؟ نعم، انهزم؟ لا. الشعوب التي تُقرّر في لحظة المِحنة العسكرية أنها ستحارب، هي شعوب غير مُرشّحة للهزيمة، ولا يمكن أن تقبلها.</p>
<p>تأمّلوا مسيرات الشعب المصري في 9 و10 يونيو، هذا يوم تاريخي، هذا يوم الصمود الشعبي ورفض الهزيمة، والتأسيس للنصر، لأن هذا ترتّبت عليه حرب الاستنزاف والعبور العظيم في أكتوبر لجيش مصر وجيش سوريا.</p>
<p>نحن نحتاج أن ندرك قيمة شعبنا في تقرير مصيره، الذي هو مصيرنا جميعًا. إذا الشعب رفض الهزيمة فنحن لم نُهْزَم، إذا قبلها لا يستطيع أحد أن يتخطّاه. رأينا هذا الشعب في 9 و10 يونيو في مصر، رأيناه في زحف الشعب اللبناني من الشمال إلى الجنوب، ورأيناه في زحف الشعب الفلسطيني في غزّة من الجنوب إلى الشمال. إذا قال الشعب إنه قادر على الحرب، فلا هزيمة.</p>
<p> </p>
<p>جمال عبد الناصر: أريد أن أقول إيماني، إذا لم نستعد الضفة الغربية والقدس وغزّة، سنبقى سنوات ولن نستعيدها، وبهذا تضيع إلى الأبد أرض عربية، وتنتفي عنها صفة الأرض العربية، بصرف النظر عن الكلام.</p>
<p> </p>
<p>تقرير:</p>
<p>تسريب يُقارب النصف ساعة في مُحادثة محورها فلسطين بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي، انتشر كالنار في الهشيم في وقتٍ يُضْغَط فيه على مصر من أجل قبول توطين الغزّيين.</p>
<p>التسجيل، الذي يُنْسَب إلى عام 1970 وتحديدًا قبيل شهرين من وفاة عبد الناصر، اقتُطِعَت منه أجزاء خارج سياقه العام، وجرى تحريف هذه الأجزاء وكتابة أخبار عنها على النحو الذي يخدم أعداء عبد الناصر وقضية فلسطين، بإظهار الرجل وكأنه استسلم أو باع البلاد، مع أنه هو نفسه قَبِل المعادلة الصعبة كما يقول.</p>
<p> </p>
<p>جمال عبد الناصر: عشرة مصريين، عشرة عسكرييين، هذا معناه نحن كسبنا، لو نقتل يهودياً وهم يقتلون عشرة مصريين، نحن راضين بهذا.</p>
<p> </p>
<p>في التفاصيل الكثيرة تضيع الحقائق الكبيرة، ولا سيما للأجيال التي لم تعش تلك المرحلة أو تقرأها بإسهاب، وهذا هو طابع كثير من مُثقّفي اليوم وإعلامييه، إذا أُخذ بالحِسْبان صفاء النيّة، ما يغيب أمام مذبحة كبرى وغير مسبوقة في تاريخ العالم وعلى الهواء مباشرة كما يجري في غزّة. فمَن لم يُنْصِف غزّة يستحيل عليه إنصاف عبد الناصر بما له وحتى بما عليه.</p>
<p>واضح في سياق الحديث كيف يُلقي الرئيس المصري الراحل الّلوم على الأنظمة العربية كلها ويحاول في تأكيداته وشرحه للقذافي تأكيد أن مصر لم تتخلَّ عن مسؤوليّتها تجاه فلسطين، لكنه يشرح له الواقع الصعب وكيف أن الكثيرين من العرب يدفعون به وببلاده إلى مواجهة صعبة من دون تقديم سلاح أو جنود أو مال، لتتحوّل الصيغة الاستنكارية في استفهاماته وأسئلته كأنها دلائل على خيانة مزعومة، يتمنّى كثيرون إسقاطها على عبد الناصر كي يرتاحوا من ذِكراه وإرثه.</p>
<p>لكن يتغافل كثيرون ممّن يتداولون هذه المقاطع عن أن أول حرب عربية كُسِرَت فيها إسرائيل وهي حرب أكتوبر تشرين الأول 73 كانت عقب ثلاث سنوات فقط من رحيل عبد الناصر الذي كشف بنفسه للقذافي أن هناك خطة للهجوم رغم أنه استعرض صعوباتها، لكن التاريخ يشهد أن هذه الحرب هي ومن قبلها حرب الاستنزاف من بنات أفكار عبد الناصر ومَن كان معه، وليست حِكرًا على إسم أنور السادات أو محمد حسني مبارك، بغضّ النظر عن المآلات التي قرّر السادات أن ينهي بها الحرب.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: من يودّون إيهام أمّتنا بأنها مهزومة فنقعد، استخدموا سلاحًا قد يبدو غريبًا جدًا للوهلة الأولى، ويدلّ على أيّ مدى هم مستعدّون أن يذهبوا في محاولتهم الفاشلة لإقناعنا بأننا مهزومون.</p>
<p>يريدون استخدام جمال عبد الناصر، جمال عبد الناصر الذي هو رمز هذه الأمّة في التحرّر الوطني ومقاومة الصهيونية، وفي احترام إرادة هذه الأمّة وشعبها، جمال عبد الناصر الذي بدأ حياته في الفالوجة مُحاربًا، وأنهى حياته بمؤتمر قمّة لإنقاذ المقاومة والتماسُك العربي.</p>
<p>هذا الاجتراء على الحقيقة استُخْدِم فيه تسجيل وليس تسجيلًا مُصطنعًا أو مفبركًا أو بالذكاء الاصطناعي الـ AI، لا، تسجيل حقيقي أُذيع.</p>
<p>لكن أنا سأكشف الآن أين تمّ التلاعُب بهذا التسجيل لاستخدامه ضدّ مقصده ولصالح الذين يريدون بيعنا وَهْم، أننا نحن يجب أن نُسلّم أننا مهزومون.</p>
<p>عبد الناصر، ودعونا نلاحظ هذا بسرعة، هو مَن سجّل لنفسه ولم يُسجّل له أحد، عبد الناصر بكل قيمته كان يسجّل صوتًا كل اجتماعاته، ثم تُفْرَغ وتُحْفَظ احترامًا للحقيقة واحترامًا للذاكِرة، وحتى يُتاح للأجيال القادمة، ولجيلنا أن يسمع ويدقّق ويرى ويصنع مستقبله على ضوء ذلك.</p>
<p>ما تمّ بثّه من تسجيلات عبد الناصر له تفريغ أيضًا بالمناسبة، هذا كله موجود في مكتبة الإسكندرية، مكتبة الإسكندرية، وهي صرح ثقافي عظيم، عندها قسم خاص لتوثيق جمال عبد الناصر.</p>
<p>هذا الانفجار الذي رأيناه في الآونة الأخيرة في التحليلات والآراء والاستخدام لما قاله جمال عبد الناصر في جلسةٍ عقدها مع الزعيم الليبي معمّر القذافي، هذا الكلام مُفَرّغ وموثّق، وتفريغه مكتوب، موجود في 54 صفحة.</p>
<p>سنُلقي عليها نظرة سريعة، لكن لكي نعرف ماذا قال فعلاً، ونربطه بالسياق، لأننا نحن لا ينفع أن ننزع الكلام عن الظروف التي قيل فيها، والأهداف التي كانت واضحة بغير الكلام، في الممارسة والمواقف العملية.</p>
<p>والحقيقة، هذا أيضًا يجعلنا ندرك كيف جمال عبد الناصر، بعد كل هذه السنوات من رحيله، لا زال حاضرًا مؤثّرًا، كلمته تُنْشَب عليها الآن صراعات وجِدال حقيقي، ويهتمّ بها الناس.</p>
<p>جمال عبد الناصر، الغائب الحاضر، في هذه المَحاضِر قال ثلاثة أمور مهمّة أودّ أن أشير إليها بسرعة:</p>
<p>الأولى، في صفحة 25 من هذا التفريغ الموثّق، الذي أُذيع وحضراتكم سمعتموه، هذه جملة فاصلة في تفسير ما قاله عبد الناصر. لماذا؟ لأن دُعاة الهزيمة كانوا يودّون الخروج بنتيجة واحدة، عبد الناصر تخلّى عن قضية فلسطين وكان يودّ صُنع حلّ سلمي مع العدو الصهيوني، وقضيّته كانت أن يُعيد سيناء وليس له علاقة لا بالقدس ولا بالضفة ولا بالجولان ولا بفلسطين 48.</p>
<p>تبقوا مُتنبهين لأن هذه الجملة ستسمعونها، لأن جمال عبد الناصر يردّ على القذافي.</p>
<p>عبد الناصر يقول: لا يوجد حل، لا يوجد مشروع سلمي.</p>
<p>فالقذافي يقول له: نعم.</p>
<p>بما ردّ عبد الناصر؟ ردّ عبد الناصر قال: 99% أقول لك لا يوجد حلّ سلمي.</p>
<p>الجملة واضحة: 99.5% أقول لا حلّ سلمي.</p>
<p>ما أُذيع حُذِف "لا يوجد حل سلمي"، فالذي ظهر فيما سمعه الناس أن عبد الناصر يقول: 99% أقول لك... لم يقل "أقول ماذا".</p>
<p>هذا الاجتزاء طبعًا، الكذب ليس إنكارًا للحقيقة، الكذب أحيانًا يكون اجتزاء. كلامه هنا واضح جدًا أنه: "99.5% لا حلّ سلمي".</p>
<p>هذه عقيدة الرجل في اللحظة التي كان فيها يبني جيشه بعد النكسة ويتهيّأ للعبور ويخوض حرب استنزاف.</p>
<p>النقطة الثانية من نفس هذه التسجيلات هي من الصفحة السابعة.</p>
<p>==عبد الناصر يردّ بطريقة واضحة جدًا، ويقول: "الجولان قبل سيناء"، أي رؤية عبد الناصر أن كل أرض عربية حاضرة أيضًا في نفس الظرف.</p>
<p>طبعًا، مُتكرّر فيما سمعتموه وموجود في هذه المَضابِط، كلامه عن القدس والضفة الغربية، أي كل الأراضي التي احتُلّت في حرب 67.</p>
<p>سؤال مهم: هو عبد الناصر عندما قَبِل "مبادرة روجرز" التي أثارت هذا الحوار، كان ينوي أن يعترف بإسرائيل ويُطبّع معها؟ لأنه ما الغرض الرئيسي من كل هذا الزِحام في الكلام؟ أن يُقال والله عبد الناصر الذي كنا نُعوّل عليه أن يُطبّع، والسادات لم يفعل غير أن ما كان عبد الناصر يريده.</p>
<p>طبعًا هذه مسألة تُثير بعض الجَدَل، لأنه عادة مَن يؤيّد السادات باعتباره هو أنجز ما لم يُنْجَز، لن يبقوا متحمّسين للقول إن عبد الناصر كان يفكّر في هذه الطريقة. لكن ما حصل أنهم قالوه، هذا معناه ماذا؟ يريدون إضفاء مشروعيّة على ما فعله السادات بأن عبد الناصر نفسه، وهو المرجع المفروض، وهذا كلام الساداتييّن، عبد الناصر هو المرجع، ونحن نقول لكم إن عبد الناصر كان يودّ فعل ما قام به السادات فعلاً!</p>
<p>والله، هذا هو حديث الإفك. عُمُر عبد الناصر ما كان يمكن أن يعمل ما قام به السادات من تطبيع واعتراف بإسرائيل.</p>
<p>في نفس هذه المُحادثة المُذاعة، وفي صفحة 13 من محضرها، عبد الناصر يقول: نحن أبرمنا اتفاقية هدنة، - التي هي هدنة الـ49 - فإقرار بإسرائيل عن الحكومة المصرية سيف الدين، وعن الحكومة الإسرائيلية إيتان، موقّع، أن معهم أوقّع على ورقة.</p>
<p>عبد الناصر يتحدّث عن اتفاقية الهدنة 49، اتفاقية هدنة بين مصر وإسرائيل سنة 49 في أعقاب حرب النكبة.</p>
<p>لم يحدث أن مصر في هدنة 49 اعترفت بإسرائيل، وهذا كان قبل أن يحكم عبد الناصر، وبعد العبور العظيم هناك اتفاقات لهدنة وقف إطلاق نار، عندما تتوقّف النار هناك إجراءات ذات طابع قانوني وفق القانون الدولي تُلْزِم القوّتين المُحاربتين بأنهم يتوقّفوا عن إطلاق النار، لكن هذا التوقيف عن إطلاق النار، الذي فيه إقرار بحقيقة الأطراف هذه ببعضها، حقيقة أن إسرائيل موجودة، هذه حقيقة، هل يُعتبر في القانون الدولي ولا في الضمير الإنساني ولا في الوعي الشعبي اعتراف أو تسليم؟ لا، غير صحيح. بدليل أننا نحن نقول، وكلنا نعلم ذلك، أن أول اتفاقية للاعتراف هي كامب ديفيد 79، رغم أن اتفاقات الهُدَن هذه موجودة في 49 و56 و67 وفي 73، وأتحدّث هنا عن مصر وأقطار عربية أخرى عندها.</p>
<p>هنا ما يجب أن نكتشفه أن عبد الناصر في هذه المحاضِر لم يُقرّ أبدًا على أيّ نحو، لا أن الحلّ السلمي هو طريقه، لا، 99% لا يوجد حلّ سلمي، ولا بالتخلّي عن أراضٍ عربية من 67، ولا فلسطين الأصلية، لم يقل هذا على الإطلاق، ولم يقل إن ربما "مبادرة روجرز" التي كانت في حقيقتها وقفاً لإطلاق النار لمدة 90 يومًا، وقف إطلاق نار ليس أكثر، وهو عندما قَبِل بها، قَبِلها حتى يبني الجيش المصري وحائط الصواريخ.</p>
<p>هذا الكلام وزير الخارجية المصري مراد غالب أكّده ووثّقه، الفريق محمد فوزي والفريق سعد الدين الشاذلي، بالمناسبة الفريق محمد فوزي موجود في هذا الاجتماع، واسمه موجود في محضره ضمن الجانب المصري، أكّده ووثّقه، كل وثيقة عن شهود العِيان الشركاء قالت الحقيقة، عبد الناصر كان يبني الجيش، استخدم فرصة 90 يومًا من الهدنة، "مبادرة روجرز"، ووافق عليها، ويحكي مراد غالب أن عبد الناصر جاب الفريق محمد فوزي، ووزير الحربية العظيم الذي أعاد تأسيس جيش مصر بعد النكسة، جاء به، وقال له: يا فوزي، كم تحتاج من الوقت حتى ننقل حائط الصواريخ؟ كانت مصر عبد الناصر تعمل على نقل حائط الصواريخ إلى مسافة تمكّن الجيش المصري من عبور قناة السويس، وفي غطاء من الصواريخ يمنع الطيران الصهيوني من أن يقصفه كما كان يحدث. كم يوم تريد يا فوزي حتى ننقل حائط الصواريخ؟ قال له: أحتاج 60 يومًا يا سيّدي. قال له: معك 90 يومًا. هذه الـ90 يومًا هي "مبادرة روجرز". عبد الناصر قَبِل روجرز ليس من أجل سلام، الآن الكذّابون يحاولون إلصاقها بعبد الناصر، لكن من أجل حرب كان يُعدّ لها وأعدّ لها ومات من أجلها، وخاضها الشعب المصري وجيشه فعلاً في عبور أكتوبر العظيم.</p>
<p> </p>
<p>تقرير:</p>
<p>سيرة حافلة وطويلة هي حياة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، رغم قِصَر عُمره الذي لم يتجاوز 52 عامًا، لكنها ركّزت منذ بدايتها على فلسطين، رغم الانشغال بهمّ مصر الداخلي، والانتقال بالبلاد من حال الملكية التابعة إلى الجمهورية المستقلّة.</p>
<p>مع ذلك كانت فلسطين خطًّا موازيًا في المراحل كافة، حتى في المرحلة الملكية قبل ثورة الضبّاط الأحرار، إذ شارك عبد الناصر مع الضبّاط الذين قاتلوا في حرب عام 1948 داخل الأراضي الفلسطينية، وتحديدًا في أسدود والفالوجة وجولس وقرى أخرى، وكتب عن ذلك مذكّرات تفصيلية. ثم لم تمرّ أربع سنوات حتى جاءت ثورة الضبّاط على الملك فاروق عام 1952، ومن أسبابها إخفاق الأخير في حماية فلسطين.</p>
<p> </p>
<p>جمال عبد الناصر: وأصبح الدستور حبرًا على ورق، أيها المواطنون، نستردّ شرفنا، نستردّ حريّتنا.</p>
<p> </p>
<p>من جرّاء هذه التجربة المريرة بدأت علاقة عبد الناصر بفلسطين من زاوية النكبة، =وأهميّة المقاومة في حماية الأرض، وضرورة التغيير في مصر أولًا، والوطن العربي ثانيًا، ليخلُص إلى الاستنتاج التالي:</p>
<p>الوحدة العربية وتحرير فلسطين هدفان مُتكامِلان، كل واحد يحضر لتحقيق الآخر. </p>
<p>الوحدة العربية تؤدّي إلى تحرير فلسطين، وتحرير فلسطين يؤدّي إلى الوحدة العربية، والعمل من أجل كليهما يجب أن يسير جنبًا إلى جنب. </p>
<p>من هنا تحديدًا التقى عبد الناصر عام 1954 الزعيم العراقي نوري السعيد، واستطاع أن يُخْرِج مصر ثم العراق من براثن حلف بغداد، ليتحقّق بعد ذلك جلاء القوات البريطانية عن العراق، ويصير الأخير جزءًا من المعركة من أجل فلسطين.</p>
<p>لكن المشكلة لم تكن في الوَعي، ولا في القرار، بل في الإمكانات وسط محيط عربي تنازل أكثر من نصفه عن فلسطين سلفًا، وتحالفات دولية كاسِرة للقوى، لم يجد فيها إلا أن يطلب السلاح من الاتحاد السوفياتي، ويدخل حرب المحاور، رغم محاولاته جعل مصر جزءًا من دول الحياد.</p>
<p>على رغم الانتصار ضدّ العدوان الثلاثي، فإن نكسة عام 1967، وحرب الاستنزاف، ثم الدفع إلى تشكيل منظّمة التحرير عام 1969، وإنقاذ المنظّمة في الأردن ولبنان تباعًا، جاءت لتكون ضربات موجِعة في الطريق إلى القدس، لكنه لم يذهب إلى الاستسلام، وإنما بدأ التخطيط لهجومٍ يُعيد سيناء في الحدّ الأدنى، ويفرض معادلة جديدة، قبل أن يقول القَدَر كلمته ويرحل.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: جمال عبد الناصر، هذا القائد العربي بقَدْر ما هو مصري، والإنساني بقَدْر ما هو مصري عربي، إيمانه بفلسطين هو التجربة الحاكمة في بنائه النفسي. عندما حُوْصِر في الفالوجة عام 48، كان جمال عبد الناصر، هذا الشاب الضابط في الجيش المصري، يتشكّل في محنة النكبة، ظلّت آثار هذه التجربة في بناء جمال عبد الناصر معه حتى آخر لحظة في حياته. لا يمكن أن تفهم عبد الناصر ما لم تفهم قيمة فلسطين في تكوينه النفسي والعقلي، وفي مشروعه للنهوض العربي الشامل. ويجب أن يكون لدينا أيضًا تقدير، لأن جمال عبد الناصر خاض كثيرًا من التكتيكات، لأنه رجل دولة. عبد الناصر لديه حُلم ومشروع، ولديه دولة أدارها كرئيسٍ للجمهورية.</p>
<p>هناك بعض التميّز وليس التناقُض ما بين عبد الناصر الفكرة، عبد الناصر المشروع، وعبد الناصر رئيس الدولة. أنا ناصري، لديّ خلافات مع جمال عبد الناصر رئيس الدولة المصرية، في ممارسات الدولة، وفي أدائها، وفي قُدرتها، وبطريقة بنائها، لكن ليس لديّ خلافات مع مشروع عبد الناصر. أنا مُنتمٍ لعبد الناصر الفكرة، المُعبّرة عن عروبة ناهِضة، موحّدة، ديمقراطية، مستقلّة، مربوطة بجَذْرِها الحضاري، وتنفتح على العالم، حتى تبني نظامًا عالميًا عادلًا للشعوب.</p>
<p>الانتماء لمشروع عبد الناصر لا يستلزم الموافقة على ممارسات دولة عبد الناصر، تستطيع أن تقول عنها خطأ أو صحّ، وتنتقدها كما فعل كثيرون من الناصريين، على الأقلّ من جيلي. نحن ناصريون انتقدنا عبد الناصر من موقع الولاء لحُلمه، لمشروعه، والنقد لتجربته في الدولة.</p>
<p>هذه عقيدة عبد الناصر وفكره وممارسته التي كانت واضحة لديه وواضحة للذين يريدون أن ينتسبوا لفكرته، لحُلمه، والذين يريدون أن يكتبوا لهذه الأمّة ما تستحقّه من نصر، لا أن يسلّموا مع أعداء هذه الأمّة بأن قَدَرها أن تُهْزَم.</p>
<p>فيديو:</p>
<p>جمال عبد الناصر: إن القومية العربية التي اشتعلت اليوم والتي آمن بها كل عربي حرّ، هي السلاح الذي سنحارب به دائمًا العدوان، وسنحارب به دائمًا السيطرة الأجنبية، وبالقومية العربية أيها الإخوة، سنستطيع أن نستردّ حقوق شعب فلسطين التي انتهكها الاستعمار والتي انتهكتها إسرائيل.</p>
<p>جمال عبد الناصر: من سنة 68 وسنة 69 كانت المشروعات تتلخّص أساسًا بالتفرِقة بين العرب، تسوية لمصر وحدها، ثم بعد ذلك تسوية للأردن، فقلنا وماذا عن القدس؟</p>
<p>جمال عبد الناصر: القدس العربية جزء من الأمّة العربية، ولا يمكن لأيّ فرد أن يتخلّى عن القدس العربية. كل التحيّة إلى المقاومة الفلسطينية المناضِلة، أوجّه التحيّة إلى الجماهير الصابرة المناضلة في غزّة، وأُشيد بعَظَمَتها كمَثلٍ أعلى لكفاح الإنسان من أجل الحرية، وأوجّه التحيّة إلى القدس الصابرة المناضلة، أوجّه التحيّة إلى الضفة الغربية، أوجّه التحيّة إلى العريش الصامدة ورفح الصامدة.</p>
<p>لقد خلقت هذه الأمّة أمّة عربية واحدة، وستبقى هذه الأمّة أمّة عربية واحدة.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: أوجّه التحيّة إلى غزّة، المثل الأعلى لنضال الإنسان من أجل الحرية، صَدَق عندما قالها وتَصدّق حتى الآن وغدًا.</p>
<p>جمال عبد الناصر، التشويش عليه الآن يخدم مَن؟ التشويش على جمال عبد الناصر يخدم الذين يريدوننا أن نُطبّع مع إسرائيل، مَن يريدوننا أن نتخلّى عن غزّة، مَن يريدوننا نقبل دور الخَدَم في شرق أوسط جديد أو إسرائيل كبرى.</p>
<p>واضحة، أما نتأمّل السياق الذي أذيع فيه شريط عبد الناصر وهو ما بعد نكسة 67، يجب أن نذكر مؤتمر قمّة الخرطوم، قمّة الخرطوم هو التجمّع الأول لرؤساء وملوك العرب في القمّة في الخرطوم. ماذا قال جمال عبد الناصر؟ قال ما قاله عبد الناصر شعب 9 و10 يونيو الذي رفض الهزيمة وقال سنحارب، وأبقى عبد الناصر وسَنَد ظهره، كان تعبيرًا عن أمّته العربية كلها، شعب السودان في الخرطوم استقبل جمال عبد الناصر عندما ذهب ليشارك في مؤتمر القمّة، استقبال الفاتحين. كُثُر من المُعلقين في العالم اندهشوا، كيف قائد مهزوم عسكريًّا يُسْتَقبل بهذه الحَفاوة الجماهيرية التي كادت ترفع سيارته في الخرطوم عن الأرض؟ لأنه ليس قائدًا مهزومًا، لأنه قائد وقف كما شعبه ضدّ الهزيمة. النصر يبدأ هنا، وهنا في القلب والعقل. الشعب المؤمن بأنه لا يُهْزَم ولا يستسلم، هو الذي يقدر على أن ينتصر.</p>
<p>لحُسن الحظ أن الوعي الجماعي لهذه الأمّة غير قابل للتزييف، الأمّة هذه تاريخها عظيم، وهي لن تُفرّط به، ورموزها العظيمة، وأولّهم جمال عبد الناصر، الذي أخذ من تأييد أمّته ما لم يأخذه قائد قبله ولا بعده، ما زال حاضِرًا بمشروعه وبمّن حملوه من زعماء عِظام وشهداء لهم السموّ، وشعب ما زال باقيًا هنا حتى يُكمل حلمنا.</p>
<p> </p>
<p>أحمد يوسف أحمد – أستاذ في العلوم السياسية: المسألة في مُنتهى البساطة، عبد الناصر كان لديه منهج واضح في مواجهة التحدّيات الداخلية والخارجية التي تواجه مصر والأمّة العربية، وهذا المنهج وُضِع موضِع التطبيق بنجاح. طبعًا حدثت بعد ذلك هزيمة سنة 1967، ولكن أداءه بعدها يشير إلى استمرار تمسّكه بنهجه ومبادئه.</p>
<p>النقطة الثانية، أن عبد الناصر كانت لديه رؤية سليمة لمصدر التهديد الرئيسي الذي يهدّد الأمن العربي، وهو الكيان الصهيوني، وكانت لديه أيضًا رؤية للنهج السليم الذي يجب أن يُواجَه به هذا الكيان، وهو:</p>
<p>أولًا، بناء القوّة الذاتية، وهو ما حاول أن يفعله على الجبهة المصرية.</p>
<p>ثانيًا، العمل العربي المشترك.</p>
<p>ثالثًا، البُعد الاجتماعي.</p>
<p>عبد الناصر كانت له رؤية اجتماعية، كان نصيرًا أصيلًا للعدل الاجتماعي، ليس في مصر وحدها، وإنما في عموم الوطن العربي. </p>
<p>هناك بعض السياسات والممارسات التي قد تلتقي جزئيًا مع سياساته وممارساته، لكن هناك سياسات طبعًا اشتطّت بعيدًا في التحوّل إلى النقيض المُضاد.</p>
<p>طبعًا أنصار هذه السياسات يقضّ مضاجِعهم ذِكر ممارسات عبد الناصر، خصوصًا وأن وسائل التواصُل الإعلامي والاجتماعي مليئة بمقاطع من خُطَبِه، وبالتالي اجتُزِأ الشريط بحيث يُظْهَر عبد الناصر وكأنه القائد الذي لا يريد أن يُحارب ويخاف من الحرب.</p>
<p>جمال عبد الناصر كان نَبْتاً أصيلًا للحركة الوطنية المصرية.</p>
<p>ولذلك نلاحظ أن أهمّ وأفضل إنجازات جمال عبد الناصر كانت مُستقاة من نضال الشعب المصري.</p>
<p>السِمة الثانية شديدة الأهميّة، أن جمال عبد الناصر أضاف لهذا التقليد الوطني المصري بُعدًا عروبيًّا أساسيًّا.</p>
<p>النقطة الثالثة، أن عبد الناصر كان سبيكة نادِرة في الجَمْع بين الاستراتيجية السليمة والتكتيك البارِع، عبد الناصر كان أستاذًا في الكلية الحربية لمادّة التكتيك، لكنه بالإضافة إلى هذا، فإنه أيضًا كانت له رؤية استراتيجية سليمة.</p>
<p>آخر شيء عن جمال عبد الناصر إنه كان يتّسم بالنزاهة المُطلقة، لا مال، ولا نساء، ولا أيّ شيء.</p>
<p>عبد الناصر حارَ فيه خصومه، ومات فقيرًا، ومات وليس له حساب في البنك، وكان المُقرّبون منه يعرفون أنه لا يمتلك إلا مرتّبه.</p>
<p>عبد الناصر، الحقيقة، كان زعيمًا لا يتكرّر في أشياء كثيرة، وعلى رأسها البُعد الخاص بنزاهته الشخصية.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: ما أجمل حديث الأخ الكبير والصديق العزيز الدكتور أحمد يوسف، حديث واضح، رائِق وسَلِس، عميق، يقول مَن هو عبد الناصر.</p>
<p>هذا الرجل الذي لم يقف فقط مع فلسطين، وقف مع التحرّر من المحيط إلى الخليج. السَنَد الرئيسي للتحرّر الوطني العربي من الاستعمار كان مصر جمال عبد الناصر. لأن الأمريكان حاولوا إغراء عبد الناصر بـ 3 ملايين ونصف مليون دولار، وقتها كانت أمرًا يستحقّ، ويتوقّف عن دعم نضال الجزائر من أجل تحرّر نفسها من الاستعمار الفرنسي. فبنى برجًا ليكون رمزًا لاستقلال الإرادة المصرية، ولنَهْج مصر شوكة في صدر المُحتلّين، ليس يبني برج ترامب على طريقة الدخول في صفقات مع المقاولين العقاريين.</p>
<p>والحقيقة دورهم هو أبشع عند حدود الوطن العربي. وهذا الذي أعطاه مكانته في هذا التاريخ الإنساني الذي فيه قِمَم عظيمة، الإنسانية تفخر بها.</p>
<p>جمال عبد الناصر واحد من أنبلهم وأعظمهم. هذا الذي جعله قائدًا لحركة عدم الانحياز. وهذا الذي جعله عندما يدخل الأمم المتحدة تقف كل دول العالم لتحيّيه. هذا الذي جعل جمال عبد الناصر، بتعبير نيلسون مانديلا، الزعيم العظيم الذي سُجِنَ لمدة 27 عامًا، عندما يخرج ليقول: كنت أتطلّع من جنوب القارّة إلى شمالها لكي أرى أبو إفريقيا جمال عبد الناصر.</p>
<p>رجل في هذا المعدن، بهذه القيمة، لا يمكن أن يكذب عليه البعض ليُصوّروه الآن بعد هذه العقود على عكس ما كان وما أراد.</p>
<p>جمال عبد الناصر في حقيقته، وسيبقى في سيرته، وفي مشروعه، وفي حلمه، هو المناضل من أجل تحرير فلسطين من النهر إلى البحر.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: الزعيم جمال عبد الناصر =القائد المهزوم عسكريًا المُنتصر بأمّته وبشعبه وبإرادته في قلبه وعقله هو الذي في مؤتمر القمّة العربية في الخرطوم قال: لقد حاولنا وفشلنا، لكنني أقول أمامكم وألتزم بأننا لن نفاوض العدو الصهيوني ولن نستسلم للعدو الصهيوني ولن نتصالح معه ولن نفرّط في الحقوق المشروعة للشعب العربي الفلسطيني.</p>
<p>ولهذا الجيش المصري أُعيد بناؤه حتى عَبَر، النكسة كانت عابِرة في تاريخنا، الباقي هو قُدرتنا، كلما استقرّ في قلبنا وفي عقلنا أننا نحن نستطيع، أنه في الإمكان سنتمكّن وسنحقّق، وهذا الذي يجب أن يُبلور به، ما هي المقولات الرئيسية في مشروع عبد الناصر في ما يتعلّق بالصِراع العربي الصهيوني؟ واضحة جدًا: صِراع وجود لا حدود، يحتاج لوحدة عربية لنُنهي هذا الكيان ونحرّر فلسطين، يحتاج قوّة عربية شاملة في كل المجالات ونهوض شامل في كل مناحي الحياة، في السياسة والاقتصاد والثقافة والعِلم والبناء العسكري، وإنما ما أُخِذَ بالقوة لا يُسْتردّ بغير القوّة. هذه مقولات جمال عبد الناصر. </p>
<p>عبد الناصر رَحَل منذ عقود، لكن هذه المقولات باقية، رفعها مقاومون عُظماء ولا زالوا يرفعونها حتى الآن، وضحّوا من أجلها واستُشْهدوا، وقادرون أن يستمرّوا بعد الآن. الأجيال الجديدة في المقاومة ستكون أصلب وأكثر وعيًا وأكثر إيمانًا وأكثر قُدرة على الاقتراب من تحقيق النصر المُستحقّ للأمّة.</p>
<p>الجيل الأول في المقاومة الفلسطينية الذي كان منه ياسر عرفات ومنه الشيخ أحمد ياسين، رَحَل، مَن قاد بعدهم؟ الذي قاد جيل الانتفاضة الأولى، الذي منه الرمز العظيم يحيى السنوار ومنه محمد الضيف، وبالتوازي، في نفس اللحظة مع فلسطين، كان يتشكّل جيل يقود، خارج من نفس المرحلة، رمزه العظيم سماحة السيّد حسن نصر الله، وتولّد في الأرض العربية في فلسطين وحولها قيادات جديدة، وجاء اليوم الذي سطعت فيه في سماء الدنيا وأصبحت رموزاً، هؤلاء مَن حملوا نفس العَلم الذي حمله جمال عبد الناصر، لأن هذه الأمّة ولّادة.</p>
<p>اليوم ما نراه في غزّة سيُبني جيلًا جديدًا من المقاومة، أمران سيكونان واضحين في قلبه وفي عقله: روعة القُدرة العربية على زلزلة الكيان الصهيوني كما ظهرت في يوم السابع من أكتوبر. والثانية، عُمق الألم ووَحْشَة الفَقْد وسَيْل الدم المُنهمر واللحم المنتشر الذي رأيناه في الإبادة الجماعية في غزّة، والذي سيرى بإذن الله فلسطين محرّرة من النهر إلى البحر.</p>
<p> </p>
<p>مصطفى حمدان – أمين الهيئة القيادية في المرابطون: في خلال هذه الـ18 سنة، لم يُعطِ حماية مباشرة للدول العربية، إنما أعطى حماية للأمن القومي العربي عبر تحرير كل الأرض العربية أو كل أنحاء الأمّة العربية من محيطها إلى خليجها العربي، حرّرها من خلال دعم الثورات التي فيها. لكن عبد الناصر بوجوده القيادي على مستوى الأمّة كان نقيضًا لعدّة مشاريع في منطقتنا العربية، كان نقيضًا للاستعمار، ونقيضًا للإمبريالية التي ورثت الاستعمار، كان نقيضًا للمشروع الصهيوني الإسرائيلي على أرض فلسطين، وكان نقيضًا للهيمنة الاقتصادية الرأسمالية المتوحّشة في مصر وعلى امتداد الأمّة.</p>
<p>كل هذا النقيض لهذه المشاريع التي تتناقض مع حرية الإنسان واشتراكيّته والتكامُل العربي، الذي يشكّل الخطر الأساسي بوجه الاستعمار والإمبريالية والهيمنة الوحيدة على سياسة العالم، تُشكّل بحدّ ذاتها شخصية قيادية قومية عربية مصرية، بطبيعة الحال سيكون هناك اختلاف عليه، ولا يزال حتى يومنا هذا الاختلاف واضح.</p>
<p>هذا الشباب العربي، ويمكنكم إجراء تحرٍ عن الموضوع، هذا الشباب العربي اليوم عندما يريد أن يتكلّم عن الحرية يضع ماذا قال عبد الناصر عن الحرية. اليوم انظر إلى اليوتيوب والإنستغرام ووسائل التواصُل الاجتماعي، إذا أراد أن يتكلّم عن الكرامة والسيادة الوطنية، ودارِجة جدًا، يضعوا ماذا قال عبد الناصر ويُظهروا كيف ينبطح الحكام والملوك والأمراء وإلخ... أمام هذا الواقع الأمريكي المستجدّ على ساحتنا، يضعوا صورة عبد الناصر، كيف كان رافعًا رأسه ويقول: ارفع رأسك يا أخي فإن عهد الاستعمار قد زال.</p>
<p>هذا دليل أنه لا توجد عملية ظلم، المشروع ليس مشروعًا إنسانيًا، إن هذا ظلم، رجل يظلم رجلاً، هو مشروع سياسي أصبح اليوم وغدًا وبعد غدٍ وإلى يوم الدين، سيبقى عبد الناصر مثالًا للمُثُل العليا وللوطنية والقومية الحقيقية والسيادة والكرامة الوطنية. وهذا ما نراه كيف يُترْجِمه أولادنا وشبابنا على أرض الواقع.</p>
<p> </p>
<p>حمدين صباحي: لسنا أمّة مهزومة، ولو حاول المُغرضون، في الإمكان أن ننتصر، قال جمال عبد الناصر ذات يوم: إن النصر هو الممكن، بل هو الممكن الوحيد.</p>
<p>فلنضع ثقتنا في أنفسنا وفي جيل جديد يولَد من الألم والمِحنة، ونقول مع الشاعر العربي العظيم أمل دنقل:</p>
<p>وغدًا سوف يولَد مَن يلبس الدرع كاملة... يوقِد النار شاملة... يطلب الثأر... يستولِد الحق من أضلع المستحيل.</p>