يوم تشييع السيد حسن نصر الله

نص الحلقة

 

نحن الآن أمام المرقد الأخير للسيّد نصر الله، رحلة الجسد استقرّت هنا لكن رحلةً أخرى لم تهدأ ولم تتوقّف أبداً، اختر أي يوم، اختر أي توقيت وستُعْلِمك الوفود وسيُخْبِرك الزوّار أن هذا المسار إلى استمرار.

 

العميد محمد فهمي: يوم التشييع هو لحظة صمت يحمل في طيّاته الكثير من المعاني، هو مزيجٌ نادر ما بين الوجدانية والشعبوية والسياسية والتنظيم المُميّز على مستوى عالٍ جدّاً من الدِقّة. كان هناك حزن، كان هناك أسى، كانت هناك لَهْفة، شوق، حنين للقاء الأخير. 

 

علي ضاهر: هو يوم الحب، هو يوم الوفاء، هو يوم البَيْعة لسيّد شهداء الأمّة، هو يوم أحباب السيّد، هو يوم أبناء السيّد، هو يوم أيتام السيّد الذين جاؤوا إلى توديعه في أصعب يومٍ على قلوبهم وعلى مشاعرهم وفي عُمرهم وفي حياتهم. 

 

رندلى جبّور: حين كنتُ في المدينة الرياضية كانت الموسيقى والجو العام والناس رغم هذا العدد الكبير ربّما مئات الآلاف ولكن في لحظاتٍ مُعيّنة تشعرين بالرَهْبة، وفي وقتٍ مُعيّن ردّد الجميع نفس الشعارات وتفاعلوا مع كلمة مُعيّنة أو نشيد مُعيّن، كان الأمر خليطاً من المشاعر المختلفة.

 

علي ضاهر: كمُنسّق عام كنتُ معنياً بالتخطيط لهذا اليوم الكبير، فبدأ التخطيط والتفكير بهذا اليوم حتى قبل وقف إطلاق إلنار في لبنان. قبل اختيار المدينة الرياضية كان هناك أكثر من خيار كنا نعمل عليه سواء داخل بيروت أو في ضواحي بيروت أو حتى داخل الضاحية الجنوبية، واستقرّ الرأي بعد مُناقشات عديدة أن يكون في المدينة الرياضية لأسبابٍ كثيرةٍ لها علاقة بسِعَة المكان سواء داخل المدينة أو في الباحات المُحيطة لها علاقة بمسيرة التشييع ومسيرة الجثمانين الطاهرين وصولاً إلى مكان الدفن. استغرق التحضير ما لاّ يقلّ عن أربعة أشهر فكان اختيار يوم الثالث والعشرين بعد انتهاء مهلة الستين يوماً وعلى مَقْرُبة من شهر رمضان، لم نشأ أن نُرْبِك أو نُثْقِل على الناس خلال هذا الشهر بموضوع الصيام والسفر، وأيضاً نحن نحتاج إلى يوم أحد بالتحديد حتى لا نزعج أصحاب المصالح والمؤسّسات وحركة البلد.

 

هبة محمود: هل استعنت بخبراتٍ خارجية في التشييع؟

 

علي ضاهر: بكل فخر أستطيع أن أقول لكِ وبالفم الملآن أن هذا اليوم كان كله من تخطيط شباب حزب الله وشباب المقاومة ولم نحتج بتاتاً إلى أية خبرات خارجية، صناعة محلية من الشباب الأوفياء للسيّد.

 

هبة محمود: هل كان هناك =تنسيق مع مؤسّسات الدولة اللبنانية؟

 

العميد محمد فهمي: كان هناك تنسيق كامل مُتكامِل ما بين الأجهزة الامنية وحزب الله، من الأجهزة الأمنية التابعة للدولة اللبنانية حوالى أربعة آلاف عنصر.

 

هبة محمود: هل كانوا مساهمين في يوم التشييع؟

 

العميد محمد فهمي: كان على عاتقهم تأمين حماية المُشيّعين للوصول إلى ساحة التشييع وحماية ساحة التشييع أيضاً. 

 

علي ضاهر: اللجان المُنظّمة توزّعت على عدّة عناوين ولكن أبرز اللجان التي كان لها الدور الأساسي في تنظيم هذا اليوم هي لجنة إدارة الجمهور وإدارة الحشود. توقّعنا حضور مئات الآلاف، من أين يأتون، سلامة وسلاسة الطرقات الموصِلة، أماكن التجمّع، حواجز الخدمة التي لها علاقة بسلامة الجمهور الوافِد. في هذه اللجنة وحدها العديد الذي ساعد في ذلك اليوم كان بحدود 18 ألف شخص ما بين رجل وامرأة ومن مختلف الشرائح الاجتماعية ومعظمهم مُتطوّعون.

 

هبة محمود: أنت تتحدّث عن ثمانية عشر ألفاً معظمهم مُتطوّعون، هذا عدد أكبر ربّما من عدد مُنتسبي أحزاب بأكملها في النسبة اللبنانية تحديداً.

 

علي ضاهر: نتحدّث هنا فقط عن اللجنة المُنظّمة من دون باقي اللجان التي أسميتها لجنة الانضباط أو اللجنة الإعلامية أو حتى شباب التعبئة أو الكشّافة، لجنة الحماية واللجنة التي لها علاقة بأمن المسيرة وأمن الحشود أنا سمعتُ من مدير اللجنة أنها كانت بحدود 11 ألف شخص.

 

هبة محمود: بحُكم خبرتك السياسية والأمنية والعسكرية ماذا كانت التحدّيات الأمنية الكبرى التي كانت حاضِرة قبل التشييع وخلاله؟

 

العميد محمد فهمي: سؤال جميل، كانت هناك تحدّيات عدّة أولها التحدّي التنظيمي قبل الأمني كون التنظيم كان تحدّياً كبيراً جداً. التحدّي الثاني كان =التحدّي الأمني والخوف من دخول بعض العملاء أو الأشخاص للقيام بأعمالٍ إرهابيةٍ وتفجيرات، إضافةً إلى التحدّي اللوجستي، كان هناك آلاف المُتطوّعين. التحدّيات الميدانية  كانت ثلاثة: التنظيمية أولاً ومن ثم الأمنية واللوجستية.

 

علي ضاهر: أحد التحدّيات أننا كنا قد خرجنا للتوّ من الحرب والناس كانوا في طوْر رَفْع الرُكام عن بيوتهم هذا عدا عن الجانب النفسي. أحد التحدّيات كان المناخ الأمني والسياسي والطقس، نحن نتحدّث عن شهر شباط وكنا مُقبلون على عاصفة، وأحد المخاطر كان أن يقوم العدو الإسرائيلي ببعض الأعمال التي تؤثّر على التشييع. أضف إلى ذلك موضوع الحال النفسية للجمهور الذين لم يصدّقوا خبر استشهاد السيّد. رَصَدْنا حوالى 14 أو 15 عنواناً ما بين تحدّيات ومخاطر ولكل عنوان من هذه العناوين تمّ السعي قَدْر الإمكان لأنه بالنهاية التوفيق على الله سبحانه وتعالى، تمّ السعي قَدْر الإمكان أن تكون لهذه المناسبة إجراءتها، كان النقاش حول الحلول وكان الشريك الأكبر وصاحب الفضل الأكبر في هذا اليوم هو الله سبحانه وتعالى، مثلاً موضوع الطقس، كنا في عين العاصفة وفي عزّ المناخ المُرْبِك وكانت التوقّعات في أهمّ المواقع  العالمية التي تتنبّأ بوضع الطقس أن يكون نهار الأحد مُمطراً، الله سبحانه وتعالى كان شريكاً في هذا الأمر بأن جعل هذا اليوم جميلاً. ما حصل يوم الأحد يشبه المُعجزة ليس فقط  بموضوع التحدّيات المناخية، أكبر تجمُّع شَهِده لبنان في بُقعةٍ جغرافيةٍ واحدة كما عبَّرت بعض الوكالات أو بعض مراكز الإحصاء أن هذا التشييع كان مليونياً لأنه تبعاً لعملنا في اللجان لم نأتِ على ذِكر الأرقام لا قبل التشييع ولا بعده بل كان المشهد يتحدّث عن نفسه.

 

رندلى جبّور: العدد الذي كان موجوداً في التشييع يؤكّد أن المقاومة لم تخسر بل لعلّها من دماء شهدائها استمدّت المزيد من الزُخم للاستمرار، قالت إنها مستمرّة وأن الضربة التي تلقّتها معنويةً ولكنها لم تؤثّر على مستقبل هذا المُكوّن أو هذا الحزب أو هذه المقاومة. 

 

العميد محمد فهمي: هناك وفود عديدة من حوالى سبعين دولة حضرت التشييع أولاً كونها تحترم شخص السيّد حسن نصر الله وتحترم ما ناضل وقام به، بالإضافة إلى أنه لا يجب أن ننسى هنا القضية الفلسطينية. 

 

علي ضاهر: رغم التضييق الذي حصل من بعض الدول ربّما لو كانت الأمور أسهل لشاهدنا مُشاركة أكبر سواء بالعدد أو بنوع الدول التي حضرت في يوم التشريع، فهذا أيضاً يؤكّد أممية السيّد وعالميّته.

 

رندلى جبّور: وأيضاً توقّفتُ =عند الشخصيات التي قَدِمَت إلى التشييع مثل حفيد نيلسون مانديلا، التقيتُ بأناسٍ من أميركا اللاتينية وتحدّثتُ معهم، التقيتُ بصحافيين من بلجيكا وفرنسا، كنتُ أقرأ لهم ولكن التقيتهم شخصياً، وقد جاؤوا ليس بدافع التغطية إنما بدافع التفاعُل والمشاركة بهذا الحدث. كان هناك أناس من مختلف المذاهب والطوائف والجنسيات. لو سُئلتُ ما هو الحدث الذي عشته خلال أربعين عاماً من حياتي وترك بصمته فسأقول تشييع سماحة السيّد حسن نصر الله.

موقف يبقى في الذاكِرة، موقف تاريخي، موقف إنساني لا يتكرّر، موقف فيه زُخْم عاطفي، هي خلطة تجعل بعض أصحاب العقول المُنْفَتِحة ممّن يتحسّس حجم الأمور والأحداث تجلعهم شركاء وشهوداً.

 

هبة محمود: ألم تشعري بالخوف أو التردّد من المشاركة في التشييع من الناحية الأمنية؟

 

رندلى جبّور: سمعتُ الكثير من التحذيرات من الأقارب والأصدقاء وأن هذا المكان ربّما يكون في دائرة الخطر وربّما يحصل استهداف مُعيّن أو مشكلات مُعيّنة، لم ينتابني الخوف لأنني أعرف بيئة المقاومة ولم أتخوّف من حدوث إشكالات داخلية، خفتُ فقط أن تقوم إسرائيل  بأمرٍ ما لأنه لا يمكن الوثوق بها. 

 

علي ضاهر: حتى الحركة الصبيانية التي قام بها العدو الإسرائيلي بموضوع الطيران الحربي كان أثره إيجابياً على التشييع وليس العكس لأنه أدّى إلى إعادة شَحْن عاطفية ومعنوية كانت في خدمة التشييع، العدو حاول أن يُرْعِب الناس أو تفكيك التشييع ولكن النتيجة كانت مُعاكِسة.

اشتعل الملعب بالقبضات والنبض من دون أيّ توجيه من إدارة المنصّة، كانت حركة عفوية، الناس قاموا من مقاعدهم رغم تواجدهم منذ الرابعة أو الخامسة صباحاً في المكان وهذا الأمر عند الساعة الواحدة تقريباً، فالقبضة والهُتافات والشعارات التي أطلقها الناس تدلّ على أن هناك مخزون غضب حتى يأتي اليوم الذي يُثأر فيه من قَتْل السيّد.

 

رندلى جبّور: وكأنهم أرادوا أن يختبروا الجمهور أين هو ومَن هو خاصةً بعد اغتيال السيّد، هل هو نفسه الجمهور الذي كان يتحمّل، الجمهور الصابر، وأعتقد أنه من داخل طائراتهم رأو أن هذا الجمهور صُلب وثابت وهذا بالفعل كان لافِتاً، على العكس كانت ردّة الفعل تحدّياً للعدو الإسرائيلي صموداً وليس هروباً أو رعباً. 

 

هبة محمود: ماذا أرادت إسرائيل أن تقول بحركة الطائرات؟

 

العميد محمد فهمي: باعتقادي وأنا على يقينٍ من ذلك أن الجو سلاح جو العدو الصهيوني كان هدفه التهويل فقط، كان هناك المئات أو الآلاف وكانوا متواجدين على مسافة ليست ببعيدة عن ساحة التشييع عندما حلّق سلاح الجو أو هوّل، ماذا فعل هؤلاء المُتواجدين على بُعد مسافاتٍ قليلة من مكان التشييع؟ تدفّقوا وهجموا إلى الساحة لحماية جثمان سماحة السيّد حسن نصر الله. 

 

هبة محمود: كيف تفسّرين أن هذه البيئة التي تعرّضت إلى هذه الخضّات الكبيرة على مدى أشهر وكانت تتعرّض أيضاً لعدوان، هؤلاء الأشخاص خسروا قادتهم، خسروا أقاربهم بالدرجة الأولى لأننا كنا نشاهدهم يحملون صوَر آبائهم الشهداء وإخوتهم وأبنائهم، وأيضاً خسروا بيوتهم، رغم كل هذه الخسارات كان هناك زُخم ولم هناك نوع من الشعور بالإحباط، كيف يمكن تفسير هذا المشهد من وجهة نظر خارجية؟

 

رندلى جبّور: هذا يُفسَّر انطلاقاً من سيكولوجيا الجماهير أو سيكولوجيا هذه البيئة، هناك سيكولوجيا جماعية في العادة تنتمي إليها بشكلٍ خاص الجماعات التي لها عقيدة أو أيديولوجيا معيّنة، هؤلاء الناس تربّوا على أن الاستشهاد هو شيء طبيعي حتى لو كان مؤلماً، بعض الناس يعتقدون أن هؤلاء لا يشعرون بحجم الحزن أو أن حزنهم مختلف عن حزن الآخرين، كلا الحزن هو نفسه ولكن إيمانهم بأنهم يُقدّمون انطلاقاً من هذا الحزن خدمة عامة أو خدمة جماعية لجماعة، لوطن، لقضية إنسانية، لحقّ معيّن فهم يظهرون بصورة الثابتين الصامدين.

 

العميد محمد فهمي: لا أنسى في تموز 2006 عندما التقى سماحة السيّد حسن نصر الله بالبيئة، أول كلمة قالها في خطابه كانت "يا أشرف الناس"، وعندما وصل إلى ساحة التشييع أوّل عبارة كانت هي "يا أشرف الناس"، كان لها التأثير الفعّال في تسويف أية فوضى يمكن أن تحصل، وهكذا تمّ منذ اليوم الأول البدء بإعادة تنظيم هيكلية حزب الله على الأقل سياسياً. 

 

علي ضاهر: هذه الجموع وهذا =الجمهور الطيّب والمخلص الذين أسماهم السيّد بأطيب الناس وأشرف الناس وأكرمهم وأعزّهم والذين كان يعتبرهم السيّد جزءاً من المقاومة. في خطاباته الأخيرة كان يتوجّه إليهم بالقول أنتم المقاومة، فجاء الناس إلى السيّد في يوم المقاومة، في يوم توديع السيّد ليقولوا له إنّا على العهد ونحن باقون على هذا المتراس.

 

رندلى جبّور: حاول العدو الإسرائيلي والإعلام الموالي للإسرائيليين حاولوا كثيراً أن يؤلّبوا هذه البيئة ولكنهم لم يستطيعوا لأنه من الصعب اختراقها لأنها بيئة عقائدية وأيديولوجية، بيئة تمتلك الصبر والإرادة تتوارثها من جيلٍ إلى جيل، وأنا أرى بخلاف الكثير من النشاطات السياسية أنه لدى حزب الله هناك الكثير من الجيل الشاب ترينه بالنشاطات، رأيناهم في التشييع ونراهم حاضرين أينما كان وكأن هناك إرثاً ينتقل من جيلٍ إلى جيل. 

 

هبة محمود: ما الذي كنت تتمنّى أن تراه في ذلك اليوم؟

 

العميد محمد فهمي: كنتُ أتمنّى على فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية أن يكون على رأس المُشيّعين مع رئيس الحكومة والحكومة أجمع مع كافة رؤساء الأحزاب الخصوم والأصدقاء من أجل قيامة لبنان، قيامة لبنان في قوّته وقوّته في وحدته، سماحة السيّد حسن نصر الله كان قائداً وطنياً على مستوى الأمّة العربية والإسلامية. بكلمةٍ موجزةٍ جدّاً كان محوراً لدول المحور.

 

كان أكثر من يومٍ لتشييع السيّد، كان يوم عهدٍ للناس تأكيداً على علاقةٍ خاصة لا تُعبّر عنها الكلمات ولا تترجمها اللغات، علاقة بحقيقةٍ ماثِلة أمام العيون، راسِخة في الوجدان، مُطَمْئِنة للنفوس. سيّدٌ ساد الأفئدة وقاد القلوب وناس كانوا وما زالوا هم وحدهم. صُنّاع النصر وحَمَلة الوعد.