التفسير المعاصر والعلمي للقرآن الكريم
معظم علماء التفسير يقولون أن القرآن كتاب لآخر الزمان ونهاية الكون, لكنهم يعتمدون في تفسيره على ما أفرزته عقول التفسير في القرن الأول والثاني الهجري, فأين السرمدية والصيرورة القرآنية التي عنها يتحدثون؟... لا شك أن هناك أوجه اتفاق بين الكشوف العلمية وما ورد في القرآن الكريم من خلق الإنسان، كروية الأرض، الغلاف المائي، البرزخ، ارتياد الفضاء وجعل الجبال أوتادا.. فهل هناك تجديد في تفسير القرآن؟ وهل هناك محاولات في إستكشاف هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبه؟ المقصود من التفسير العلمي هو العلوم الكونية, المعارف الصنائع وما جد وما يجد في العالم من فنون ومعارف، مثل علم الهندسة, الحساب, الاقتصاد, الاجتماع, الطبيعة, الكيمياء, الحيوان, النبات وعلم طبقات الأرض. هل كانت محاولات التفسير العلمي والمعاصر الأخيرة على مستوى عظمة القرآن الكريم؟ لماذا لم نحول القرآن إلى ورشة عمل وإستنباط و تفكير, ما دام منزلاً من السماء؟ لماذا معظم التفاسير تقليدية؟ ألا يمكننا أن نقدم قراءة معاصرة للقرآن الكريم وأين الإجتهاد القرآني المعاصر؟
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: حيّاكم الله وبيّاكم وجعلَ الجنّة مثواكم. </p>
<p>مُعظم عُلماء التفسير يقولون إنّ القرآن كتابٌ لآخر الزمان ونهاية الكون، لكنّهم يعتمدون في تفسيره على ما أفرزته عُقولُ المُفسّرين في القرنين الأول والثاني الهجريين وما تلاهما، فأين السرمدية والصيرورة القرآنية التي عنها يتحدّثون؟</p>
<p>لا شَكّ أنّ هناك أوجه اتفاق بين الكشوف العلمية وما وَرَدَ في القرآن الكريم، مِن خلق الإنسان وكُرَويّة الأرض وجعل الجبال أوتاداً والغلاف المائي والبرزخ وارتياد الفضاء، فهل هناك تجديدٌ في تفسير القرآن؟ هل هنالك مُحاولات في استكشاف هذا القرآن الذي لا تنقضي عجائبُه؟ وما المقصود بالتفسير العلمي؟ هل هو العلوم الكونية والمعارف والصنائع وما جدّ وما يجدّ في العالم من فنونٍ ومعارف مثل الهندسة والحساب والأرقام والاقتصاد والاجتماع والطبيعة والكيمياء والحيوان والنبات وعِلم طبقات الأرض؟ </p>
<p>كانت كُتب التفسير على الدوام مُرتبطة بالأزمنة التي حُرّرت فيها وكانت محكومة بزمنٍ مُعيّنٍ ومكانٍ مُعيّن، وما دام القرآن لكلّ الأزمان ولكلّ الأمكنة ألا يجب أن يكون الاجتهاد القرآني على هذه القاعدة فيتمّ الاستنباط للعصر المُعاصر؟ إنّ ما أشار إليه القرآن الكريم فيه الكثير من الاستشراف والمُستقبليات والأفعال المُضارَعة المستقبلية أيضًا.</p>
<p>صحيح أنّ هنالك الكثير من المُحاولات لتفسير القرآن تفسيرًا عصريًا وعلميًا والربط بين بعض الآيات والنظريات المُعاصِرة، لكن ليس لدينا من بين مُحاولات التفسير المُتعدّدة كتابٌ يُمكن أن يُشكّل مرجعًا في التفسير بلُغةٍ عصريةٍ مُستوعبةٍ لكلّ مُتطلّبات العصر وتساؤلاته.</p>
<p>ومِن أشهر مقولات الكاتب والطبيب "موريس بوكاي" صاحب كتاب "القرآن والإنجيل والتوراة والعِلم" يقول: "القرآن فوق المستوى العلمي للعرب، وفوق المستوى العلمي للعالم، وفوق المستوى العلمي للعلماء في العصور اللاحقة، وفوق مستوانا العلمي المُتقدِّم في عصر العِلم والمعرفة في القرن العشرين، ولا يُمكن أن يصدُر هذا القرآن عن أُمّي".</p>
<p>"التفسير المُعاصر والعلمي للقرآن الكريم" عنوان برنامج "أ ل م"، ويُشاركنا في النقاش من دمشق الدكتور علاء الدين الزعتري، أستاذ الفقه الإسلامي المُقارن والاقتصاد الإسلامي، ومن الجزائر الدكتور نور الدين مُحمّدي، أستاذ الشريعة في جامعة الجزائر، ومن القاهرة الأستاذ أبو الحسن حجّاج، المُتخصِّص في الدراسات القرآنية.</p>
<p>مُشاهدينا مرحبًا بكم جميعاً.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور علاء الدين الزعتري، اليوم يُعدّ التفسير المُعاصر منطقة فراغ إن صَحّ التعبير في الفكر الإسلامي، فقلّما نُصادف تفاسيرَ مُعاصرة، تفاسير أحاطت علمًا بكلّ جزئيات الكون، الطبيعة، وكُنّا ننتظر أن يكتشف لنا غربي نظرية لنقول هذه وُردت في القرآن الكريم، لماذا لم ننطلق من البداية في تقديم رؤية تفسيرية مُعاصرة للقرآن الكريم؟</p>
<p> </p>
<p>علاء الدين الزعتري: شكرًا لكَ دكتور يحيى أبو زكريا، شكرًا لبرنامجك ولضيوفك، فيه دائمًا وأبدًا تتألّقون في اختيار العناوين والطروحات المُعاصرة ذات الإشكاليات التي يحتاجها الناس جميعًا.</p>
<p>وأقول بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، والصلاة والسلام على سيّدنا مُحمّد وآله الطيّبين الطاهرين وصحابته ومن تبِعَ هُداه وأحبّه إلى يوم الدين.</p>
<p>أخي الدكتور يحيى، هل نحن بحاجةٍ إلى تلك الأطنان الكبيرة من الورق المكتوب بما يُسمّى علوم القرآن أو علوم التفسير وغيره من العلوم كي نتقدّم ونكون حضاريين أم كانت الحال كما هي حال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله في زمن التشريع وفي زمن النبوة أنّه قرآنٌ واحدٌ ليس مجموعًا بين دُفّتين ولكن العقل استوعبه والفكر أحاط بعلومه من خلال التأمّل والتدبّر؟ هل نحن بحاجةٍ إلى تفسيرِ نقرأه من الماضي لنحلّ إشكاليات الحاضر أم نقول نحن بحاجةٍ إلى تفسيرٍ حاضرٍ واقعيٍ هو للمستقبل وللأجيال القادمة؟ الفرق هنا يكون واضحًا بين استدعاء الماضي والوقوف عنده وبين قراءة الماضي للحاضر واستكشاف المستقبل.</p>
<p>الكلام الرائع الذي قدّمتم به كلامكم ونقلتموه عن "موريس بوكاي" جدُّ مُهمّ، فرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم تلقّى وَحْي السماء بقلبٍ صافٍ، بعقلٍ نيّر، بروحٍ مُتألّقة بالإيمان، استطاع استيعابَ مُراد الله عزّ وجلّ من هذه الآيات، هل كلّ مُسلم اليوم لديه هذه الإمكانية والإرادة أن يقرأ القرآن مُتأمّلًا مُتدبّرًا ليعرف ما فيه لحاضره فيبني عليه مستقبله، التفسير العلمي والتفسير المُعاصر هو قراءة المسلم قراءة التدبّر، قراءة التأمّل، وليس قراءة ما قاله فُلان أو فُلان أو فُلان ونختلف في صحّة الرواية وفي تدقيق العبارة وما يُمكن أن نصل فيه إلى غاية.</p>
<p>إسمح لي بأن أقول أنّ التفسير أربعة أنواع من حيث إمكانية تحصيله، تفسيرٌ لا يُمكن أن يُعذَر به جاهل، إنّما هو بسيطٌ واضحٌ، لمّا نقرأ قول الله تبارك وتعالى "قُل هو الله أحد" هل نحتاج إلى كتابة تفسير؟ أو هل نحتاج إلى كُتب تفسير في هذه الآية؟ فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى "الله الصمد" ذهبنا إلى النوع الثاني من التفسير الذي يعتمد على اللغة، اللغة التي نزل بها القرآن، اللغة العربية التي تقول بأنّ الصمد هو الشيء الذي لا بداية له ولا نهاية ولا فوق ولا تحت ولا جهة ولا يمين ولا يسار، إذًا هذا نوع ثانٍ في معرفة تفسير معاني الكلمات.</p>
<p>أمّا معاني الآيات إجمالًا وتفصيلًا فنحتاج فيه إلى العلماء، وهناك من الآيات ما يكون عِلمُه عند الله تبارك وتعالى كما قال في سورة آل عمران " هُوَ الّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ"، "فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ"، "فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ"، سنقف ثم نقرأ "وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ"، أو سنصل " وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ"، هنا موضوع التفسير العلمي والمُعاصر هو قراءة الحياة، قراءة القرآن للحياة وليس للأموات.</p>
<p>اليوم في واقع المسلمين نجد بأنّ المسلمين اليوم على قسمين: قسم مُتخصّصون يقرأون كُتب التفسير ويُحاولون أن يربطوا الآيات الكريمة بما يصدر عند الغرب - كما ذكرتم - وقسم عَوام لا يعرفون القرآن إلا عند الموت، إذا سمعوا تلاوةً فيقولون مَن مات في حيّنا؟ مَن الذي انتقل إلى رحمة الله وكأنّه لم يكن في رحمة الله في هذه الدنيا. إذًا هذه الإشكالية التي نعيشها.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور علاء، وقسم تَرَكَ القرآن نهائيًا وهو القسم الأكبر من المسلمين في خط طنجة جاكرتا، وربِّك قد يكون برنامج فنّي راقص أفضل لهم من القرآن الكريم.</p>
<p>دكتور نور الدين مُحمّدي، هنالك مَن قال أنّ القرآن نَصٌّ تاريخي مثل الدكتور نصر حامد أبو زيد رحمة الله تعالى عليه وآخرون، وأنّ هذا النّصّ التاريخي انقضى ومُرتبط بمرحلةٍ مُعيّنةٍ ويجب أن نتوقّف عنده، والجمهور قالوا لا القرآن نافع لكلّ زمان ومكان لكن لم يستنبطوا هذه المنفعة العامة بل ظلّوا حبيسي التفاسير الكلاسيكية القديمة، ما قاله إبن كثير، ما قاله الزمخشري، ما قاله كُثر والحمد لله علماؤنا اهتمّوا بدراسات القرآن البلاغية، اللغوية، الفقهية وما إلى ذلك.</p>
<p>اليوم نتحدّث عن الراهن العربي والإسلامي، هل تداعى إلى سمعك، هل تبادر إلى ذهنك، هل اطّلعت على تفسير للقرآن الكريم يُلبّي حاجيات الأجيال بحيث إذا قرأوه يستوعبون ويزدادون تعظيمًا للقرآن الكريم؟</p>
<p> </p>
<p>نور الدين محمدي: شكرًا لكَ دكتور يحيى على هذه الاستضافة وشكرًا لقناة الميادين.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: حيّاك ربي.</p>
<p> </p>
<p>نور الدين محمدي: في الحقيقة بعد بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمُرْسَلين وعلى آله وصحبه الطيّبين. </p>
<p>أمّا بعد،</p>
<p>الحديث عن تفسير القرآن الكريم هو حديث عن علاقة خالدة أبدية بين الأمّة والقرآن الكريم وكلامٌ عن تفاعلٍ اجتماعي أبدي منذ نزول القرآن الكريم على نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وإلى عصرنا هذا. لا ننسى بعض الحقائق المُتعلّقة بتفسير القرآن، لا ينبغي أن نُحمّل عِلم التفسير ما لا يحتمله. </p>
<p>الحقيقة الأولى، أنّ الله تعالى فسَّر بعض آيات القرآن بآياتٍ أخرى، وحيث نجد التفسير الربّاني لا يُمكننا ولا يُمكن لهذه الأمّة عبر أجيالها المختلفة إلى أن تقوم الساعة أن تُعارض الله عزّ وجلّ في تفسير كلامه. </p>
<p>الحقيقة الثانية، أنّ النبي صلّى الله عليه وسلّم باشر تفسير القرآن منذ نزوله عليه وحيًا من الله عزّ وجلّ واجتهادًا منه أيضًا، ولا يمكن للأمّة عبر أجيالها المختلفة وإلى أن تقوم الساعة أن تُعارض نبيّها في تفسيره لكتاب الله المُنزّل عليه.</p>
<p>الحقيقة الثالثة، أنّ الأجيال التي تربّت على يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسمعت منه القرآن غضًّا طريًا كما أُنزل عليه وسمعت منه تفسيره ونقلت لنا بالأسانيد الصحيحة هذا التفسير لا يُمكن للأمّة عبر أجيالها المختلفة وحتى تقوم الساعة أن تُعارضهم في فَهْمِهم لكتاب الله.</p>
<p>فهناك حقائق مُتّصلة بالتفسير جعلت التفسير عبر مراحله التاريخية يبقى مُحافِظًا على الصورة الأولى له، وتلك الصورة المُشرقة للوحي لا ينبغي لأحد أن يحجبها عن الخلق مهما كانوا كُفّارًا أو مسلمين لأنه من واجبنا كمسلمين أن نجعل الخلق كلهم والبشرية كلها ترى وَحْي رسول الله بأنواره كأنّه نَزَلَ الساعة.</p>
<p>هذه الحقائق تُضاف إليها حقيقة أخرى حتى لا نُحمّل علم التفسير ما لا يحتمل، الحقيقة أنّ عِلم التفسير لم ينشأ مُستقلّاً كغيره من العلوم، عِلم الاتفسير نشأ مُتضمّنًا في التدوين للحديث النبوي، فكان مُتضمّنًا في كتب الحديث، ثمّ لما انتشر التفسير في المجالس وفي الحلقات بعد حلقات عبد الله إبن عباس في مكّة وغيره، في المدن والأمصار، في البصرة والكوفة وبغداد، وفي المدينة وفي الشام، وفي غيرها من الأمصار التي فُتحت، تعرّض علم التفسير لكثيرٍ من الوضع، وتعرّضت الأسانيد لكثيرٍ من الضعف، فعاش التفسير مرحلة حسّاسة جدًا جعلت العلماء يُخرجون التفسير من كونه جزءًا حديثيًا إلى عِلم مُستقلّ، وهو ما فعله إبن جرير الطبري رحمة الله عليه في نقلةٍ نوعيّةٍ اجتهاديةٍ أدهشت الأمّة، لمّا ألّف كتابًا مُستقلّاً في التفسير سمّاه "جامع البيان في تأويل القرآن" وكان إبن جرير قد أضاف مُصطلحًا قرآنيًا عظيمًا إلى تفسير القرآن وهو مصطلح التأويل جعلت الأمّة تندهش من هذا التأليف المُبارك حتى أنّ الإمام أبي حامد الإسفراييني رحمة الله عليه كان يقول: "لو رحل رجل إلى الصين حتى يُحصّل كتاب إبن جرير لم يكن كثيرًا"، يعني لم يكن جُهده في ذلك كثيرًا لقيمة التفسير العلمية والتربوية والبيتاغوجية، ماذا فعل إبن جرير؟ أخرج التفسير من كُتب الحديث وقام باختصار الأسانيد حتى تُصبح واضحة إلى أصحابها وأضاف إلى ذلك التأويل وتوجيه الأقوال وترجيحها وتصحيحها ثمّ أضاف إلى ذلك إعراب القرآن واستنباط الأحكام. على طريقة إبن جرير...</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: ولكن دكتور نورالدين قبل أن أذهب إلى ضيفي في مصر، لماذا إبن خلدون أخذ على الطبري كونه لم يكن مُحدّثًا ولا مُدقّقًا بل نقّالًا كيفما اتفق ولما أكثر من الأخذ من اليهود العالمين بالكتاب قال أنا أخذت أيّ رواية وجدتُها ولها ارتباط بالقرآن الكريم، هل إشكال إبن خلدون في محلّه؟ بإيجاز إذا سمحت.</p>
<p> </p>
<p>نور الدين محمدي: إشكال إبن خلدون كان ينبغي أن يُؤخَذ في زاويةٍ مُعيّنةٍ تتعلّق بالمُعْضلة التي وقع فيها التفسير قبل إبن جرير، لا ينبغي أن نُحمّل إبن جرير الطبري المسؤولية في أن يُزيل عن التفسير ما عَلِقَ به من الوضع ومِن قَصَص أهل الكتاب. صحيح ما يقوله إبن خلدون هنا أنّ إبن جرير أدرج بعض الكتابيات في تفسيره ولكن ليست بالدرجة التي كانت قبله، ثمّ إبن جرير فتح المجال في الحقيقة للاجتهاد في التفسير وهو الذي ما حدث بعده، لا ينبغي أن نقف عند كتاب إبن جرير فقط ونترك ما فعله عصر التدوين في علم التفسير، عصر التدوين لما دُوّنت العلوم تشعَّب عِلم التفسير بتخصّصات العلماء فظهر التفسير الفُقهي وظهر التفسير النحَوَي وظهر التفسير التاريخي وظهر التفسير البلاغي وظهر التفسير المُتعلّق بالمذاهب وظهر التفسير الصوفي الإشاري.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور سنأتي إلى كلّ ذلك. </p>
<p>نستمع إلى وجهة نظر الأستاذ الفاضل أبو حسن حجّاج من أرض مصر وهو من خرّيجي الأزهر ومُتخصّص في الدراسات القرآنية.</p>
<p>أستاذنا أبا حسن، إذا عُدنا نوعًا ما إلى بدايات القرن العشرين وتفسير محمد رشيد رضا رحمه الله تعالى وبعض التفاسير التي ظهرت من علماء الأزهر، عندما نُدقّق فيها بأتمّ معنى الكلمة نرى أنّها كانت كلاسيكية ولا تنسجم مع الغارة الغربية الكبرى فكريًا على مصر، آنذاك قد عاد رفاع الطهطاوي من باريس وكتب تلخيص الإبريز وعاد طه حسين وقال مَن أراد الحضارة فعليه أن يُقلّد الغرب حَذو القِدّة بالقِدّة، لماذا بنظرك لم يكُ هنالك اجتهاد قرآني في أهمّ قلعة إسلامية في خطّ طنجة جاكرتا الأزهر الشريف؟</p>
<p> </p>
<p>أبو حسن حجاج: الحمد لله والصلاة والسلام على سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآله وصحبه ومَن واله وبعد. </p>
<p>بدايةً أخونا الكريم أستاذنا الدكتور يحيى أبو زكريا حيّاكم الله عزّ وجلّ وحيّا ضيفيك الكريمين وجعل هذه الجلسة الطيّبة المُباركة على بُعد الأقطار بين أطرافها في ميزان حسناتنا جميعًا.</p>
<p>يحيى أبو زكريا: أعزّك الله وأبقاك.</p>
<p> </p>
<p>أبو حسن حجاج: ما حدث في بدايات القرن العشرين عند حديث الإمام محمد عبدو ورشيد رضا وغيرهما ممّن تحدّث في تفسير القرآن الكريم بحُكم أنّهم من علماء الأزهر ولهم صلةٌ وطيدةٌ بالعلوم الشرعية في الأزهر ويعلمون أنّ القرآن لا يُمكن في حال من الأحوال أن ينسلخ عمّن تكلّموا فيه أو لا يُمكن أن ينسلخ المُتكلّم في القرآن عمّن سبقه من أهل العلم. أخذوا أقوال أهل العلم السابقين ونقّحوا وزادوا ونَقَصوا ودرسوا وبيّنوا وجهة نظرهم، لكن لم يكن عليهم ولن يكون على أحد من علماء الأمّة أبدًا أن ينسلخ ممّن سبق لأنّه كما بيّن ضيفك الكريم الأول أنّ الحديث في القرآن دار في مراحل، بدايةً من عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم ومرورًا بعصر الصَحابة الكرام ثمّ التابعين ومن بعدهم ثمّ من لفّ لفّهم، فهذه أصول من ابتعد عنها في الحديث عن القرآن الكريم ضلّ لا محال. لهم اجتهادات، للسابقين ولللاحقين اجتهادات بعيدًا عمّا اتّفقت عليه كلمة الأمّة من تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم للقرآن ومن تفسير الصَحابة الذين شاهدوا نزول الوحي وعاصروه وعاصروا الظروف التي تُحيط بنزول القرآن وتكلّموا في القرآن بما يُفيد فَهْمَهم فهم أقرب إلى القرآن منّا لأنّهم أقرب إلى الرسول منّا والرسول أقرب إلى الله عزّ وجلّ منّا وأعلم بمراد الله عزّ وجلّ منّا. خاصةً وأنّ اللغة ابتعدت عن كثير من الناس أو ابتعد كثير من الناس عن اللغة التي هي عَصَب القرآن، فالذي أحوجنا إلى ذِكر أقوال المُفسّرين ونقل أقوالهم والرجوع إلى آرائهم هو الضعف الذي شهدته الأمّة من حيث اللغة العربية.</p>
<p> لكن حينما يأتي رفاع الطهطاوي أو غيره ممّن انبهر بالغرب وأراد أن ينسلخ عن الأصول الثابتة الإسلامية ليتكلّم في القرآن قد يكون مُصيبًا في بعض الأمور لكنّه لا محالة قد أخطأ في أكثرها، وذلك أنّه ابتعد عن المعين الأصلي للقرآن الكريم. </p>
<p>هذا والحديث عن القرآن الكريم من حيث الإعجاز اللغوي هذه واحدة، ومن حيث مُراعاة الحاضر أو المُعاصرة، نقول التفسير المعاصر يختلف من زمن لزمن لأنّ المُعاصرة معناها أن تُعالج أحوال العصر الذي تعيش فيه، فمثلًا في عصرنا هذا الأوْلى بمّن يتحدّث في القرآن الكريم أن يتحدّث عن المقاصد، مقاصد القرآن الكريم ومقاصد السنّة لأنّ الجماعات التي تحدّثت بغير فَهْمٍ وأخذت النصوص كما هي من دون أن يفهموا مَراميها ولا مقاصدها ضلّوا وأضلّوا، لكن أن نعود إلى المقاصد هذا هو الأولى، وإذا وُجِد تفسير مقاصديٌّ في العصر الحديث فهو بالفعل يُقال عنه التفسير المُعاصر.</p>
<p>أما المنهج العلمي أو التفسير العلمي للقرآن الكريم فكان للناس فيه آراء، آراءٌ قديمة وليست آراءً حديثة، بدايةً من الإمام الغزالي أبو حامد رحمه الله ومرورًا ببعض أهل الفقه كالإمام الشاطبي ووصولًا في العصر الحديث إلى بعض العلماء في العصر الحديث الذين قَبِلَ منهم من قَبِل ورفض منهم مَن رفض ومَن قَبِلَ قَبِلَ بشروطٍ ومن رفض رفض لعلّةٍ ولكلّ رأي واجتهاد. لكن كما يقول الشيخ محمد حسين الذهبي رحمه الله في كتابه "ماتع التفسير والمُفسّرون" يقول: "إذا نحن ذهبنا مذهبَ مَن يُحمّل القرآن كلّ شيء وجعلناه مَصدرًا لجوامع الطب وضوابط الفلك ونظريات الهندسة وقوانين الكيمياء وما إلى ذلك من العلوم المختلفة لكُنّا بذلك أوقعنا الشَّكَّ في عقائد المسلمين نحو القرآن الكريم ذلك لأنّ قواعد العلوم وما تقوم عليه من نظريات لا قرار لها ولا بقاء فرُبّ نظرية علمية قال بها عالم اليوم ثمّ رجع عنها بعد زمن قليل أو كثير لأنّه ظهر له خطرها وأمام سمعنا وبصرنا مِن المُثُل ما يشهد بأنّ كثيرًا من جوامِع العِلم لا يضبطها اليوم أحد إلا تغيّرَ ضبطُهُ لها بعد ذلك".</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: نعم، أستاذ أبا الحسن، ذكّرتني بالإمام الذهبي رحمه الله تعالى وقد قضى شهيدًا على يد الإرهاب الأعمى، وعندما دخل عليه الإرهابي الذي أطلق عليه النار وهو في بيته قال له سوف أطلق الرصاص على عينك اليُسرى لأنّه وَرَدَ في الأثر أنّ الشيطان يسكن في العين اليُسرى وقتل الذهبي وظنّ الإرهابي أنّه نفّذ وصية رسول الله، ألا قَتَّل الله الغباء الإسلامي.</p>
<p>مُشاهدينا فاصل قصير ثم نواصل فابقوا معنا.</p>
<p> </p>
<p>المحور الثاني:</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: مُشاهدينا أهلًا بكم من جديد، عُدنا والعودُ أحمدُ، ومَن أدرك حلقتنا الآن نحن نُعالج موضوع "التفسير المُعاصر والعلمي للقرآن الكريم".</p>
<p>وقُبيل الذهاب إلى دمشق الحبيبة أُشير إلى بعض الكُتُب التي صدرت في هذا السياق وقد ذكرت في مُقدّمتي العلّامة "موريس بوكاي" رحمه الله تعالى صاحب كتاب "التوراة والإنجيل والقرآن الكريم والعِلم" وهو مُقارنة فذّة لعالمٍ فذّ جدًا استطاع أن يُؤكّد قُدسية القرآن وعَظَمته مُقارنة بالكتب السماوية الأخرى. كتاب "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"، كتاب "التفسير العلمي للقرآن الكريم"، "حوار الإيمان والعلم التفسير العلمي للقرآن الكريم"، "التفسير العلمي التجريبي للقرآن الكريم"، وهذه مُحاولات قيّمة قام بها أصحابها فُرادى ونحن في العالم الإسلامي نجتهد فرديًا، لا نُؤمن بالعمل الجماعي الذي يُنتِج معرفة جماعية. "التفسير الفقهي للقرآن الكريم"، وهنالك التفسير البلاغي والتفسير اللغوي وما إلى ذلك.</p>
<p>دكتور علاء الدين الزعتري، عندما تنزَّل القرآن على قُريش وقريش عربٌ عاربة يهزّهم اللفظ ويُدكدكهم المَتْن والمعنى وإذا سمعوا قولًا تقشعرّ أبدانهم له، ولذلك تفاعلوا مباشرة مع القرآن الكريم وحتى عُتات المُشركين كانوا يتلصّصون على بيت رسول الله روحي فداه ويقولون إنّ له لحلاوة وعليه لطلاوة. وبالتالي عندما نقول إنّ القرآن مُعجز لغويًا لقريش، لكن قريش اليوم كفرت بلغة العرب وقريش اليوم اعتنقت مذهب الإنكليز والفرنجة وكلّ ما يُرطَن به للأسف الشديد. والله تعالى مُحيطٌ عليم، عليم بكلّ ما جرى وما سيجري وهو يعلم أنّ المسلمين سيهجرون اللغة، ألا يُفترض أن يضع الله في القرآن الكريم أشياء تهزّ العقل غير اللغة لأن العرب سيُطلّقون لُغتهم بُعَيدَ حين؟</p>
<p>علاء الدين الزعتري: من هنا نقول قال الله تبارك وتعالى "كِتَابٌ أَنـزلْنَاهُ إِلَيْكَ"، أيّها الإنسان وليس إليك يا محمد صلّى الله عليه وآله "كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ"، ليَدّبّروا آياته ليس فقط الذين نزل عليهم في زمن التشريع بل هو إلى قيام الساعة كما تفضّلتم بأنّه نافعٌ، صالحٌ، بل ومُصلحٌ، ليس للزمان والمكان بل للإنسان في كلّ زمان ومكان. إذا أخذنا النظرة الإنسانية وهي تقرأ القرآن الكريم ابتعدنا عن محدودية أنّ هذا القرآن فقط هو للغة العرب فحسب وأنّهم إنْ لم يُدركوا هذه اللغة لا يُدركوا معاني القرآن وإذا ابتعدوا عنها فإنّهم يبتعدون عن خطّ الهداية والقرآن لذلك كلّ من عرّف القرآن بخصائصه قال كلمتين: هو كتاب هداية وإعجاز، الهداية لكلّ بني الإنسان، أمّا الإعجاز فهل هو لغوي بلغة قريش أم هو علمي أم هو اقتصادي أم اجتماعي؟ فهذا الإعجاز هو المُمتدّ عبر الزمان وتلك الهداية هي التي ينبغي أن تكون حاضرة في قلوب الأتباع ليبقى هذا القرآن حاضرًا في عقول وقلوب وأرواح المؤمنين وغير المؤمنين ليهتدوا به.</p>
<p>من هنا ما تفضّل به الأخ الكريم من مصر بأنّ التفسير المقاصدي هو الذي نحتاج إليه، نخرج من كلّ هذا اللقاء بأنّنا نقول إنّ تفسير القرآن بالقرآن خطٌّ واضحٌ، "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" لن أحتاج إلى أن أقول إيماني بالصراط حقّ وأنّ الصِّراط هو جسر على جهنّم، بل أقول إنّ القرآن يقول "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، فإيضاح القرآن بالقرآن هو الأهمّ من أن نَدخل إلى أن نستدعي معنى الصِّراط هنا. </p>
<p>الوليّ، مَن هو الوليّ في التفسير الإشاري وفي التفسير الفيوضي؟ هل نتحدّث عن الوليّ هو الإنسان الذي فعل وله كرامات وتقدّم؟ لماذا لا نقول كما قال القرآن "أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ". إيضاح القرآن الكريم هو الذي يُعطينا بُعدًا حقيقيًا في تأمّل ما وراء هذا المعنى الواضح. </p>
<p>إذا أخذنا "إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا" بدل أن أبحث في اللغة عن جذر هاء لام عين هلع يَهلع هلوعًا، أقول إنّ القرآن الكريم قال "إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا"، يكفيني إيضاح القرآن بالقرآن. </p>
<p>عندما أذهب إلى معاني بعض الكلمات التي فسّرها النبي عليه الصلاة والسلام "الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ" قال الظلم الشِّركُ، فلمّا أقف عند هذا المعنى وكأنّه يرفع موضوع ظُلم الإنسان لأخيه الإنسان إلى مُستوى الإشراك بالله تبارك وتعالى وهو تلازم بين الشّرك والظلم فإذًا أنا أتحدّث عن مقاصد وغايات قراءة القرآن الكريم في التدبّر والتأمّل وليس في أني أكتب كتابًا هل هناك فيه إعجاز علمي وإعجاز عددي لنقع في طامّات أن الذي حصل في الحادي عشر من أيلول سنة 2000 إنّما هو مذكور في القرآن الكريم "عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ"، ما علاقة هذا الإعجاز العددي بما يجري من أحداثٍ مُتعاقبةٍ تصحّ أو لا تصحّ، إلى الآن ليست هناك رواية ثابتة عمّن قام بهذا العمل.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: لكن دكتور علاء الدين الزعتري، عندما يأتيك شاب مُثقّف مُتأثّر بالغرب، مُتأثّر بالمناهج التربوية في الغرب، بالعقلانية، مُتأثّر بـ"نيتشه"، بـ"ديكارت"، بـ"شبينغلر"، بـ"سبينوزا"، ويقول لك النجم والقمر يسجدان، فإذا قُلتَ له يسجدان على هيئة السجود الإنسي البشري تكون قد ظلمت عقلك وعقله، لكن عندما تقول له السجود ها هنا بمعنى احترام الكواكب لأوامر الله بعدم الخروج من المدارات والمسارات لأنّه لو خرجت الشمس من مَدارها تَهلك الكرة الأرضية والكواكب جميعًا، وهذا تفسير غير موجود في ما مضى، ألا يُتيح لنا الإسلام أن نُحرّك العقل في هذه الوجهة؟</p>
<p> </p>
<p>علاء الدين الزعتري: بل يجب أن نُحرّك العقل في هذه الاتجاهات التي تتجدّد مع تجدّد العلوم والمعارف والعلوم التجريدية، نحن لن نتخلّى عمّا يُطوّره الإنسان عبر الزمان في معارفه لنستفيد منها ونُحرّك الإنسان ذاته نحو قراءة هذه الآيات الكريمة.</p>
<p>لمَن يقول بأنّ النجم والشجر يسجدان، النجم هو النبات الذي لا ساق له والشجر هو النبات الذي له ساق، هذه من بعض المعاني، أنتم أشرتم إلى السجود والخضوع وأنا بيّنت معنى النجم في ما يخصّ علم الزراعة والنبات، لكن لم نصل مرة أخرى كما ذكرنا إلى أن نقرأ بعض العلوم التجريبية ونُحمّل القرآن فوق طاقته يوم يقول "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ" سنقول هو سلطان العلم، فلمّا أتى ليشرح هذه الآية قال الأقطار جمع قُطر والقُطر هو خطّ واصل بين نقطتين في دائرة مارًا بمركزها، القرآن الكريم ليس كتاب رياضيات حتى يبحث عن القطر ونصف القطر والمُحيط والمركز، القرآن الكريم يُريد حياة الإنسان، يُريد إحياء الإنسان، يُريد للإنسان أن يَعمُرَ الكون، أن يَعمُر الأرض لنفع الإنسان ذاته ليُحقّق مُراد الله تبارك وتعالى في كونه خليفة لهذه الأرض يخلف بعضهم بعضًا في عِمارتها.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور علاء الدين، القرآن بالأساس كتاب هداية وهو كتاب للإنسان، تسألني عن موضوع علم النحو أقول لك الكلمة، الطب أقول لك الجسم البشري، موضوع القرآن هو الإنسان. لكن لأنّ مُنْزِل هذا القرآن العظيم المُقدّس المولى عزّ وجلّ يعني نَزَل من لَّدُن عليم خبير، مِن خالقٍ هو الذي صنع الكون وهو الذي يعلم مآلات البشر فيقينًا أَودع هنا وهناك ما لا تعلمون وكثيرًا ما أشار القرآن إلى ذلك.</p>
<p>دكتور نور الدين مُحمّدي، استكمالًا لبعض الكتب التي صدرت في هذا السياق هنالك كتاب "موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنّة النبوية" للدكتور محمد راتب النابلسي، وهناك كتاب "التفسير التربوي للقرآن الكريم"، وهنالك كتاب "التفسير النفسي للقرآن الكريم"، وكتاب "علاج النفس البشرية في القرآن الكريم"، وتعرف القرآن أفاض في الحديث عن النفس اللوّامة والأمّارة بالسوء والنفس الرضية المرضية.</p>
<p>إذًا هي مُحاولات قد تنفع أن تكون لبناء مدرسة قرآنية تجمع بين الأصالة والمُعاصرة، لا تفريط في الأصالة لأنّ أفضل مَن فَهِمَ القرآن بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم هم الصحابة، هم أهل البيت، هم السلف الصالح في هذه الأمّة، أولًا كانوا عربًا فُصحاء وكان كلامهم مُبهرًا يشدّ الأذان والأسماع وكانوا على صلةٍ طريّةٍ بالقرآن الكريم، عايَشوا أحداثه وواقعه وأيضًا النظرة المُعاصرة مطلوبة، لكن هل هنالك آليات لاجتهاد قُرآني مُعاصر؟</p>
<p> </p>
<p>نور الدين محمدي: أحسنتم السؤال دكتور يحيى، سؤال وجيه في محلّه وهو من مُتطلّبات العصر الحديث الذي تجعل علم التفسير يكون قائدًا في توضيح القرآن الكريم للبشرية اليوم. البشرية اليوم داخلة في ظُلمات عظيمة وفي فِتَنٍ عظيمة وهي بحاجةٍ إلى مَن يُنقذها من هذه الظُلمات ولا أحد يستطيع أن يُنير درب البشرية مثل القرآن العظيم، والمسلمون اليوم يمتلكون هذا الكنز. </p>
<p>أنت سألتني في سؤالٍ سابقٍ عن تاريخية النصّ عند ناصر حامد أبي زيد، وأريد الجواب عن هذا السؤال الذي طرحته عليّ الآن من خلال تاريخية النصّ. </p>
<p>أقول لك يا دكتور يحيى، لو أنّ ناصر حامد أبو زيد رحمه الله فَهِمَ سورة الفاتحة كما فَهِمَها المُفسّرون لأدرك أنّ سورة الفاتحة وهي أول سورة في القرآن العظيم أبطلت نظرية تاريخية النصّ، لمّا قال تعالى "اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ"، فتبرّأ القرآن من بيئته لأنّها بيئة مُشركة جاهلية ولم يكن أبدًا هذا القرآن نتاجًا ثقافيًا لهذه البيئة، ولا أدلّ على ذلك من أنّ الذين أسلموا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على اختلاف قبائلهم وأديانهم وأقوامهم اعترفوا أنّ الجاهلية الجَهلاء كانت خطيرة على البشرية فجاء هذا القرآن ليُنقذها. </p>
<p>في ما يتعلّق بالتفسير العصري للقرآن العظيم، أنا ضدّ التفسير الانفرادي، عُلماؤنا السابقون أدّوا ما عليهم رحمة الله عليهم وكانت لهم الأسباب التي جعلتهم لا يلتقون في مجلسٍ واحد، لبُعد البلدان، لعدم وجود وسائل التواصل كما هي اليوم، ولكنّهم أدّوا ما عليهم، فكلّ واحد منهم استقى من الماضي وجدّد الحاضر على طريقته، على تخصّصه، على ما يُتقنه من علوم في الفقه أو في الأصول أو في الحديث أو في اللغة أو في البلاغة أو في البيان أو في العلوم المُختلفة كالفلك والتشريح والطب وكلها توفّرت فيهم رحمة الله عليهم. ولكنّنا اليوم مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي لماذا هذا الانفراد في الاجتهاد؟ لماذا لا نُؤسّس لمؤسّساتٍ تفسيريةٍ تتخصّص على حَسَب التخصّصات العلمية، على حَسَب تخصّص الإعجاز العلمي في حدّ ذاته؟ لأنّ هناك قضية خطيرة جدًا تتعلّق بالإعجاز العلمي، الآية القرآنية الكريمة لا تحتمل فقط هذه النظرية التي اكتُشفت مُؤخّرًا وثبتت صحّتها ونقول إنّ هذه الآية تعني هذا الإعجاز أبدًا، الآية القرآنية الكريمة صالحة لكلّ زمان ومكان، فهي قد تتضمّن هذا الإعجاز العلمي وقد تتضمّن إعجازًا آخر سيكون في قابل الأزمان، لا يُمكن أن نحصر الآية القرآنية في إعجاز حصل في عصرنا، لا ينبغي أن نجعل الآية الكريمة دليلًا على هذا الإعجاز، فهي تتضمّنه وتتضمّن غيره، إنّ القرآن مُعجز لكلّ زمان ولكل مكان. فينبغي لمَن وفّقه الله تعالى في دراسة الإعجاز العلمي في القرآن أن يحذر كلّ الحذر من أن يقع في هذا الفخّ، لأنّ القرآن الكريم عظيم المعاني ومعانيه تتجدّد لعَظَمَة الإعجاز فيه الذي تضمّنه من قِبَل الله تبارك وتعالى لأنّ الله هو أول مَن تحدّى بهذا القرآن، وهذا التحدّي لا ينبغي أن يأتي عصرٌ ويُوقفه، فهو ماضٍ في الزمن، ماضٍ في الاكتشافات، ماضٍ في غيره من تطوّر في فكر الإنسان. </p>
<p>ثمّ انظر معي دكتور يحيى، نحن نعيش بعد سنة أو سنتين توافر الأجهزة الإلكترونية المتعلّقة بالميتافيرس وهذا الفضاء الرهيب الذي سيجعل العالم الإسلامي مكشوفًا للأسف، يستطيع أيّ رجل مسلم أن يدخل على ولده فيجده يجلس في الميتافيرس في جلسة خمر، أو يجلس مثلًا في فضاء الميتافيرس في جلسة من المخدّرات، أو يجلس في جلسة في فضاء الميتافيرس في جلسة إلحادية يُشاركه غيره في كلّ العالم، هل نستطيع أن نضبط هذا الجيل؟ وقرآننا يُحدّثنا عن قصة سليمان عليه السلام، "فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي"، إنّ هذه الآية تُشير إلى إمكانية وجود التواصل بين البشر وهم في قارّاتهم، هذا يدعونا إلى أن نعود لنُفسّر القرآن تفسيرًا يليق بعصرنا من دون أن نُغطّي النور المُشرق للوَحي النبوي وللوَحي الربّاني الذي نزل على رسول الله فنتخلّى عن تفسير رسول الله وعن تفسير القرآن بالقرآن.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: دكتور نور الدين، أشرت إلى تحدّي ميتافيرس وتحدّيات كثيرة لا حَصْر لها، وهنا الإشكال، نحن للأسف الشديد نُقدّم للناس خطابًا مضاويًا فيه تكفير بين السنّة والشيعة وبين المذاهب الإسلامية وهم يُقدّمون لك إبهارًا واختصاراً وسرقوا كلّ أجيالنا، كلّ شبابنا. نحن نُخاطب الناس من خلال منبر مسجدي وهم يُخاطبون الناس من خلال الأنترنت الفضائي وقادوا كلّ الناس ودمّروا كلّ الشباب.</p>
<p>الأستاذ أبا الحسن حجّاج من مصر الحبيبة، كونك مُتخصّصاً في الدراسات القرآنية، أريد أن أعرف هل طاول التجديد مناهج التدريس القرآني أم لا يدخل الطالب إلى الأزهر الشريف المبارك ويُعيد قراءة التاريخ، بدايات التفسير، المدارس التفسيرية في إطارها الكلاسيكي؟ أعطينا تجربتك حتى نفهم كيف يتمّ إنتاج المُفسّر في القرن الواحد والعشرين، قرن الميتافيرس.</p>
<p> </p>
<p>أبا الحسن حجاج: مناهج الأزهر في دراسة القرآن الكريم مناهج مُتفرّدة لأنّها تجمع بين الأصالة والمُعاصرة، فكما قُلنا سابقًا لا يستطيع الإنسان أن ينسلخ من سابق عُلماء الإسلام ولكن يسير في ركابهم أو هم وضعوا القواعد التي نسير عليها ثمّ نُطوّر منها كيفما استطعنا وكيفما قدّر الله عزّ وجلّ لنا.</p>
<p>في الأزهر الشريف، خاصةً في المراحل الراهنة بعدما انتشرت طوائف كثيرة من أنصاف المتعلّمين وبدأوا يحمّلون أحاديث النبي صلّى الله عليه وسلّم ما لا تحتمل ويُحمّلون القرآن الكريم ما لا يحتمل بدأت مناهج الأزهر تأخذ في طريق التيسير بمعنى أن تشرح للطالب أو للدارس ما قاله أهل العلم قديمًا بلغةٍ حديثةٍ تربط بين الماضي والحاضر معًا، مع ملاحظة الاكتشافات العلمية ومع ربط الواقع المُعاصر بالقديم ومع توظيف الألفاظ أو توظيف المعلومات القديمة التي وَرَدَت عن أهل العلم توظيفًا حقيقيًا لمُعالجة الواقع الذي يمرّ به الناس. وفي الحقيقة هذه طريقة طيّبة لأنّ الدارس إذا كان يغيب في بطون الكتب مع كلام مَن سبقه فقط مُنعزلًا عن حاضره ضلّ وأضلّ، ولا يستطيع أن يحلّ المشكلات التي يُعاصرها بكلام القُدامى وربما ذكرت معك في لقاءٍ سابقٍ أنّ الفتنة التي وقعت من أنصاف المُتعلّمين حينما أخذوا كلام بعض أهل العلم كإبن تيمية رحمه الله الذي قاله مُوافقاً ومُطابقًا لظروف عصره وطبّقوه اليوم بحذافيره فوقعت المُشكلة، لكن لو أنّهم أخذوا أصول ما قاله إبن تيمية وطبّقوه بما يُوافق عصورهم لكان الأمر مُختلفًا.</p>
<p> </p>
<p>يحيى أبو زكريا: أستاذ أبا الحسن، كنتُ مُدْمِنًا لقراءة مُذكّرات بعض الأزهريين القُدامى من أيام أحمد عُرابي رحمة الله عليه، ففي يومٍ من الأيام قرأت أنّ أزهريًا قصده بريطاني إسمه "ولتر كوك" قال له "ولتر" أيّها الأزهري هل ورد إسمي في القرآن الكريم أنتم تقولون إنّ القرآن حوى كلّ شيء؟ قال له هذا الأزهري طبعًا ورد إسمك في القرآن "وتركوك قائمًا" أصلها "ولتر كوك"، وتركوك قائمًا.</p>
<p>أستاذنا أبا الحسن حجّاج حيّاك الله، دُمت لنا، وصلت حلقتنا إلى تمامها شكرًا جزيلا لك.</p>
<p>الدكتور علاء الدين الزعتري من دمشق الحبيبة شكرًا جزيلًا لك.</p>
<p>الدكتور نور الدين محمدي من أرض الشهداء شكرًا جزيلًا لك.</p>
<p>مشاهدينا وصلت حلقتنا إلى تمامها إلى أن ألقاكم هذا يحيى أبو زكريا يستودعكم الله الذي لا تضيع أبدًا ودائعه.. </p>