الطب والخوارزميات: هل يتحوّل جسم الإنسان إلى منصة رقمية؟

بين وعود الاكتشاف المبكر ومخاطر التنبؤ القسري، يتسلل الذكاء الاصطناعي إلى قلب أنظمة الصحة البريطانية. لا بوصفه أداة دعم، بل كسلطة خفية تعيد تعريف المرض، وتعيد صياغة العلاقة بين المريض، والآلة، والسوق، في زمن تُختزل فيه الحياة إلى بيانات.

  • الطب في قبضة الخوارزمية: حين يتحوّل جسم الإنسان إلى منصة رقمية؟

في اللحظة التي تتداعى فيها منظومات الصحة العامة في أنحاء العالم تحت وطأة الشيخوخة السكانية، ونقص الكوادر، وضغوط السوق النيوليبرالية، يظهر الذكاء الاصطناعي بوصفه "المنقذ التكنولوجي"!

وفي المملكة المتحدة، حيث تبدو هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) وكأنها على شفير الانهيار، وفق صحيفة "تيلغراف"  لا يُنظر إلى الذكاء الاصطناعي كابتكار فقط، بل كشرط للنجاة.

من الوهلة الأولى، قد يبدو هذا تطوراً مُرحبّاً به. فالتقنيات الجديدة توفّر وعوداً مشروعة: الكشف المبكر عن السرطان، تسريع التشخيص، تخفيف الأعباء عن كاهل الأطباء، وتخصيص العلاج بشكل غير مسبوق.

ومع ذلك، فإن ما يسمى بـ "عقلانية الذكاء الاصطناعي"، حين تُطبّق في السياقات العامة، ليست محايدة. بل إنها امتداد مباشر لما أسمّيه في كتابي "عصر الرأسمالية المراقِبة" بـ"الاستيلاء التكنولوجي على الحياة اليومية"، حيث يتحوّل كل سياق اجتماعي إلى مادة خام لاستخراج البيانات، كل جسد إلى سطر برمجي، وكل معاناة إلى فرصة استثمار.

الهيكل المتصدّع: NHS نموذجاً

يعاني النظام الصحي البريطاني اليوم من نقص حاد في الكوادر: فجوة بنسبة 30% في أعداد أخصائيي الأشعة، قوائم انتظار طويلة، وتأخر في اكتشاف أمراض مميتة مثل سرطان الرئة. أمام هذا المشهد، يُطرح الذكاء الاصطناعي لا كوسيلة دعم بل كشرط وجودي جديد للخدمة الصحية.

فالوزير ويس ستريتنج أعلن مؤخراً عن تجربة فحص دم مدعوم بالذكاء الاصطناعي يُدعىmiONCO-Dx، قادر على رصد 12 نوعاً من السرطانات من خلال microRNAs، وهو إنجاز علمي واعد بقدر ما هو دال على أزمة.

ولأنّ NHS لا تملك القدرة البشرية لتشغيل بنيتها التقليدية، تُسلَّم المهام الأكثر حساسية – مثل التشخيص الأولي – إلى خوارزميات لم تُصمَّم في المستشفيات، بل في مختبرات خاصة، وغالباً بأموال مستثمَرة من شركات تكنولوجية عالمية.

من الأشعة إلى الخوارزميات: صعود "الأطباء الخفيين"

في عام 2022، بدأت مستشفيات NHS في اعتماد أدوات من شركة Annalise.ai لتحليل صور الأشعة السينية للصدر. وفي ظل نقص الأخصائيين، بات النظام يعتمد بشكل متزايد على الذكاء الاصطناعي لرصد أمراض خطيرة مثل سرطان الرئة، استرواح الصدر، أو الالتهاب الرئوي. ويقول الدكتور أنجوس تران، المؤسس المشارك للشركة، إن النظام بات مُفعّلاً في 131 مستشفى، ما أدى إلى رفع معدلات الاكتشاف المبكر بنسبة الثلث.

لكن هذه الأرقام، التي تبدو مبهجة، تحجب سؤالاً مركزياً: من يملك هذه الخوارزميات؟ من يراقب انحيازاتها؟ وكيف تضمن ألا تتحول إلى أدوات للتمييز أو الربح الخفي؟ لأنهم ليسوا فقط أمام مساعدة طبية، بل أمام هندسة جديدة للقرار السريري، تُبنى على بيانات سابقة، قد تكون بدورها مضلّلة أو ناقصة أو مشحونة بانحيازات اجتماعية وعرقية.

القلب: البيانات لا تنبض، لكنها تقرر

تُقدَّر حالات الرجفان الأذيني غير المُشخّصة في بريطانيا بـ 270 ألف حالة. هذا ما دفع البروفيسور رامين شاكور إلى تأسيس "كامبريدج هارتوير"، والتي طورت جهاز "هيرتسنس"، القابل للارتداء، والذي يستخدم الذكاء الاصطناعي لرصد إيقاع القلب على مدار اليوم. إن القدرة على الكشف الفوري عن الخلل القلبي، وتوفير علاج مضاد للتخثر، قد تنقذ آلاف الأرواح من السكتة الدماغية.

 لكن، هل نحن أمام ثورة صحية أم بداية مراقبة حيوية دائمة؟ فالجهاز يُرتدى أثناء الاستحمام، النوم، العمل، وكأننا دخلنا عصر "التحليل الحيوي المتواصل"، حيث الجسد نفسه يصبح "إنترنت أشياء" بشري، تتغذى عليه خوارزميات لا نعرف من يديرها، ولا أين تُخزَّن بياناتها.

الأمعاء والعيون والعظام: أي حدود للآلة؟

يمتد تدخل الذكاء الاصطناعي إلى الأمعاء: تجربة GI Genius التي قادها البروفيسور كولين ريس، أظهرت زيادة بنسبة 30% في اكتشاف السلائل السابقة للسرطان في تنظير القولون. في العظام، تتعاون Nanox.ai مع الجمعية الملكية لهشاشة العظام للكشف المبكر عن الكسور الدقيقة. وفي العيون، تسعى شراكة بين Google Health وDeepMind ومستشفى مورفيلدز إلى التنبؤ بالتنكس البقعي والاضطرابات العصبية من خلال تحليل الشبكية.

هنا، تكمن المفارقة العميقة: أدوات قادرة على استباق المرض، تحليل أعمق تفاصيل الجسد، وقد تُغيّر مصير الآلاف. ومع ذلك، فإن هذه القدرات ذاتها تفتح الباب أمام عصر جديد من التكنوقراطية الصحية، حيث يُعاد تعريف المرض، والعافية، والخطر، وفقًا لنماذج بيانات وليس لتجربة بشرية مباشرة. فمن يضمن أن "علامة" تُكتشف اليوم لن تُستخدم غداً لحرمان شخص من تأمين صحي؟ أو لطرده من عمله؟ أو لتحديد مدى "جدواه الصحية"؟

الدماغ: الحلم الكبير… والمخاطرة الأكبر

من بين أكثر الآمال طموحاً، تلك التي تقودها جامعة إدنبرة بالتعاون مع NHS لوثيان، حيث يعمل البروفيسور ويل وايتلي على تدريب نموذج ذكاء اصطناعي لرصد بوادر الخرف قبل ظهوره بسنوات. يُحلّل المشروع فحوصات بالتصوير المقطعي والرنين المغناطيسي على مدى عقد كامل.

لكن، كما أظهرت التجارب الحديثة، فإن قدرة الذكاء الاصطناعي على "الاكتشاف" ليست محايدة. يمكنه رصد أنماط لم نرها من قبل، ولكن من يُقرر إن كانت هذه الأنماط ذات معنى؟ وما العواقب النفسية والمالية والاجتماعية لإخبار شخص بأنه "مُعرض" للإصابة بالخرف في سن الخمسين؟ ألن نخلق بذلك "مرضى محتملين دائمين"، في اقتصاد يُكافئ رأس المال على حساب الكرامة؟

 تفكيك الأسطورة: الذكاء الاصطناعي ليس دواءً، بل بنية قوة

كل هذه التطورات تشير إلى نقطة واحدة: الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية ليس مجرد أداة، بل هو نظام جديد يُعاد من خلاله ترتيب العلاقة بين الدولة، الفرد، والشركات. إنه امتداد للرأسمالية المراقِبة، حيث يتم تحويل الجسد البشري إلى ساحة جديدة لاستخراج البيانات، وبيع "الخدمات التنبؤية"، وتسليع الصحة ذاتها.

اقرأ أيضاً: عبر الذكاء الصناعي... آفاق واعدة في الطب التجديدي

وهنا تكمن خطورة السردية الحالية: تقديم الذكاء الاصطناعي كحل سحري لأزمات نشأت في الأساس من سياسات التقشف، والخصخصة، والإهمال المتعمد لأنظمة الصحة العامة. فنحن لا نُعالج جذور الأزمة، بل نُعيد تشكيلها بلغة تقنية، تُخفي الأيديولوجيا خلف الكود.

نحو مستقبل بديل: من الذكاء الاصطناعي إلى "الذكاء الجمعي"!

ما نحتاجه ليس ذكاءً اصطناعياً أكثر، بل ذكاءً اجتماعياً وجمعياً يُعيد التفكير في منطق الصحة، ومعنى الرعاية، وحدود التقنية. نحتاج إلى مساءلة من يملك هذه النماذج، ومن يتحكم فيها، وكيف يمكن دمجها ضمن بنى ديمقراطية تضمن الشفافية، والمساءلة، والعدالة.

اقرأ أيضاً: هل يتحكم الذكاء الاصطناعي بمجال الطب مستقبلاً؟

في النهاية ومن المنطلق الإنساني لا النفعي، لا يكفي أن يعرف الذكاء الاصطناعي أن هناك خللاً في جسدنا، إذا كان هو نفسه نتاجاً لخلل أعمق في بنيتنا الاقتصادية والسياسية. وبينما يتحدث المتحمسون عن "أعمار أطول"، يجب أن نسأل: أطول لمن؟ وبأي ثمن؟ وفي خدمة أي نظام؟