المذهبية السياسية.. راهنيتها وجذورها
ربط العروي بين غياب المواطنة والمجتمع المدني وبين عدم إنجاز العرب ثورتهم القومية الديمقراطية، ومثله فكرة الجابري حول مثلث القبيلة والعقيدة والغنيمة، الذي يتقنع بالأشكال الحديثة للدولة والحزب والاقتصاد.
-
لم تخلُ الأرثوذكسية السياسية من أصوات تغريبية وصهيونية، علمانية أو مذهبية.
تتخلل المذهبية السياسية كل التأويلات والتيارات الدينية، المسيحية والإسلامية واليهودية، فمن المارونية السياسية إلى اليهودية السياسية إلى السنية السياسية والتشيع السياسي، وغالباً ما كانت هذه التأويلات تأخذ سمات عامة من حيث علاقتها بالسلطة والقوى الاقتصادية – الاجتماعية، وكذلك قوى الاحتلال الخارجي، من الإقطاع العثماني إلى الاستعمار الرأسمالي الأوروبي.
عند تناول هذا الموضوع، نشير إلى الإحالات المرجعية التالية: من المغرب المفكر عبد الله العروي والمفكر محمد عابد الجابري، ومن مصر المفكر سمير أمين، ومن العراق المفكر علي الوردي، ومن لبنان المفكر مهدي عامل.
الإحالات السابقة إحالات إشكالية وتحتاج إلى نقاش معمق: ربط العروي بين غياب المواطنة والمجتمع المدني الحديث وبين عدم إنجاز العرب ثورتهم القومية الديمقراطية ودولة الأمة المدنية، ومثله فكرة الجابري حول مثلث القبيلة والعقيدة والغنيمة، الذي يتقنع بالأشكال الحديثة للدولة والحزب والاقتصاد، وفكرة مهدي عامل التي ميزت بين ما يظهر كشكل ديني في البنى الكولونيالية وبين الدين الذي نشأ قبل الرأسمالية، أما سمير أمين فقد لاحظ أن معظم القصبات العربية الأساسية (المدن لاحقاً) أخذت تحت الاحتلال العثماني سمات مذهبية قومية (سنة غير عرب من الترك والكرد والألبان وغيرهم) مقابل سمات مسيحية وشيعية ودرزية عربية في العديد من الأرياف، وهي قراءات اجتماعية اقتصادية تذكرنا بقراءات علي الوردي، وسنلحظ أيضاً أن المذهبية السياسية دخلت تحت وصايات قوى الاحتلال، العثماني الإقطاعي والأوروبي الرأسمالي بمرسوم من سلاطين آل عثمان، عرف بـ "نظام الملل"، الذي خضع له هؤلاء السلاطين وبينهم عبد الحميد الثاني، وارتبط بفساد البلاط العثماني وسياسة الإقراض والديون التي أغرقت هذا البلاط، وجعلته يدفع ثمن ذلك بالموافقة على "نظام الملل" المذكور الذي فرضته المتروبولات الرأسمالية وقامت معه بتأسيس بنك لتسديد هذه القروض، هو البنك العثماني بإشراف روتشيلد والبيوتات المالية اليهودية وغيرها.
وبشيء من التفاصيل حول المذهبية السياسية:
1- يشار ابتداءً إلى دور بريطانيا (العلمانية) بعد الحرب العالمية الثانية في تشكيل أكثر من دولة بغطاء ديني: باكستان كدولة إسلامية، جنوب أفريقيا كدولة مسيحية، والكيان الصهيوني كدولة يهودية.
2- المارونية السياسية في لبنان، وقد كتب حولها الكثير وبينها تاريخ التيارات المتصهينة فيها، وهي تيارات مبكرة متزامنة مع النشاط الصهيوني في العقود الأولى من القرن العشرين، لكنها أي المارونية السياسية تعود إلى مراحل أسبق من ذلك، تبلورت في الحرب الأهلية (موارنة ودروز 1860) ودخلت أوساط من المارونية السياسية تحت وصاية المستعمر الفرنسي، فيما راح الاستعمار البريطاني يبحث عن وصايات لبعض الدروز وبعض أهل السنة في عموم المنطقة، من الوهابية وتيارات إسلاموية وغيرها.
يشار إلى أنه مقابل المارونية المتصهينة، ظهرت تيارات مارونية مناهضة للاستعمار، سواء عبر العديد من الرموز الفكرية والدينية أو من القوى السياسية، مثل آل فرنجية وزعامة زغرتا والجنرال ميشال عون وما يمثله، كما يشار إلى تحذيرات من الخطر الصهيوني من داخل الوسط الماروني المغلق مثل ميشال شيحا.
3- الأرثوذكسية السياسية، وقد تبلورت في إطار الصراع بين روسيا القيصرية وتركيا العثمانية، التي حاولت دعم الكنيسة اليونانية ضد الكنيسة الروسية، التي اهتمت بـ أرثوذكس الشرق العربي وبالقدس خصوصاً، وأسست لاستشراق أكثر موضوعية من غيره.
وكان ملاحظاً أن هذه الأرثوذكسية بعد ثورة أكتوبر الروسية الاشتراكية، سعت إلى تخطي البعد الطائفي نحو أبعاد قومية ويسارية عربية، انخرطت في الصراع ضد كل أشكال الاحتلال، العثماني والبريطاني والفرنسي، وكانت بصماتها واضحة في الحركات القومية واليسارية المناهضة للاستعمار الأوروبي، ومن ذلك الحركة القومية العربية بكل تياراتها مثل: قسطنطين زريق، جورج حبش، والحركة القومية السورية التي أطلقها أنطون سعادة، وكذلك الحركة اليسارية، إضافة إلى شخصيات عرفت بنشاطها ضد الحركة الصهيونية، مثل: رئيف خوري وسليم خياطة وفرج الله الحلو ونيقولا الشاوي ويوسف سلمان في العراق.
ولم تخلُ الأرثوذكسية السياسية من أصوات تغريبية وصهيونية، علمانية أو مذهبية، إضافة إلى بعض الأوساط في مصر التي فضلت الانكفاء الداخلي، رغم مشاعرها الوطنية.
4- السنية السياسية، لا بد من التمييز هنا تحديداً بين أهل السنة كغالبية لا تحتاج إلى التعبير عن نفسها كمذهبية سياسية، وبين السنية السياسية المبرمجة من الخارج وعلى إيقاع مصالحه، وقد رأينا كيف تمكنت ظواهر مثل الناصرية من أن تصبح التيار السائد العابر للمذاهب في الأمة طيلة مرحلة المد القومي، ومثلها الزعامات السنية الصوفية التي قادت المعركة ضد الاستعمار الأوروبي في شمال أفريقيا العربية والسودان.
إلى ذلك، وبالرغم من أن السلطنة العثمانية لا تشبه أهل السنة العرب من حيث مرجعياتها المذهبية، فهي خليط من توظيف سياسي لأبي حنيفة (الإمام الذي أجاز أن يكون الخليفة من خارج قريش) ومن تكايا صوفية مختلفة، فإن السلطنة كرّست ما عرف بالسنية السياسية وكرّست معها سلطة غير العرب في معظم القصبات والمدن العربية التي كانت واقعة تحت سيطرتها.
وقد لا يعرف كثيرون أن معظم العائلات السنية التاريخية في هذه القصبات والمدن بما في ذلك مدن مثل: دمشق، بغداد، بيروت، طرابلس وغيرها، لا تعود إلى أصول عربية، مثل العظم، القوتلي، الأتاسي، والعديد من العائلات البيروتية.
وكان ملاحظاً أن المناخات السياسية في القصبات المذكورة، وباستثناءات هنا وهناك، ظلت تتراوح بين تأثير أوساط دينية مختلفة، وبين تأثير غرف التجارة والصناعة بالمشاركة مع اليهود، وخصوصاً في مدن مثل بغداد وشمال أفريقيا، وذلك قبل انعكاسات التأميم عليها خلال مرحلة المد القومي برئاسة جمال عبد الناصر.
يشار كذلك إلى أن العديد من العائلات السنية النافذة، إدارياً أو تجارياً خلال السيطرة العثمانية الإقطاعية، سرعان ما بدلت ولاءها بعد الاحتلال الأوروبي ونسجت علاقات قوية مع الاحتلال الجديد، كما طورت علاقاتها بشكل خاص مع محميات النفط والغاز المسال، وقلبت خطابها العثماني القديم إلى عروبة مفاجئة.
5- الشيعية السياسية، نظرياً يجوز القول إنه رغم الجوهر الفكري للتشيع المرتبط بقيامة الإمام المعصوم المغيب، يمكن إحالة فكرة ولاية الفقيه إلى شكل من التشيع السياسي، أي كانت مرجعيات وجذور هذه الفكرة المختلف عليها والتي تحيلها بعض المصادر إلى الشيخ علي الكركي (من شيعة لبنان الذين يعودون إلى شيعة الأردن سابقاً) وقبائل عاملة اليمنية المتشيعة التي استمد جبل عامل اسمه منها.
وكما هو معروف، فقد دخلت إيران في حالة التشيع السياسي وولاية الفقيه منذ القرن السادس عشر وتحت عائلات يعود معظمها إلى أصول تركية أذرية مثل (الصفويون والقاجار)، فإن الشيعية السياسية العربية في الأزمنة الحديثة والمعاصرة، كما غيرها ترافقت مع تفسخ دولة الإقطاع العثماني ونفوذ الاستعمار الأوروبي الرأسمالي، ولعل البدايات كانت مع تنظيم شيعة لبنان لأنفسهم في القرن الثامن عشر ضد استبداد الوالي العثماني وفساده، أحمد باشا الجزار وخسارتهم قادتهم الكبار في معركة يارون مع استمرار مقاومتهم عقوداً طويلة، ألحقت خسائر فادحة في العثمانيين وحلفائهم البريطانيين.
وعندما سقط لبنان تحت الاستعمار الفرنسي، والعراق تحت الاستعمار البريطاني، قاد الشيعة المقاومة في الجنوب وقرروا في مؤتمر وادي حجير الانخراط في المقاومة العربية وتأييد الدولة العربية الجديدة في سوريا، كما قادوا انتفاضة العراق ضد الاحتلال البريطاني، وهي الانتفاضة المعروفة بثورة العشرين أو الفرات الأوسط، وقد تقاطعت المقاومة الشيعية الشعبية ضد الاحتلالين الفرنسي والبريطاني، في لبنان والعراق مع مقاومة الإقطاع الشيعي الداخلي وقواه النافذة، ما أعطى القوى القومية واليسارية والوطنية حضوراً ملموساً في الوسط الشيعي، بل إن قوى بكاملها اتسمت بهذا البعد.
وكان ملاحظاً مثل هذا الحضور في الانقلاب العسكري الوطني في العراق في تموز/يوليو 1958، وفي الحركات الوطنية التي
شهدها لبنان منذ ذلك العام ضد حكم كميل شمعون المحسوب على النفوذ الأميركي، وكان عبد الناصر عنواناً لحركة التحرر الوطني العربي آنذاك وامتداداتها، ثم تأسيس حركة المحرومين (حركة أمل لاحقاً) من قبل الإمام موسى الصدر الذي شكل نقطة كبرى في تاريخ التشيع السياسي في لبنان، أما خلال ما عرف بالحرب الأهلية عام 1975 مع القوى الانعزالية المتصهينة، فقد شكلت الضاحية الجنوبية لبيروت مع الجنوب والبقاع قاعدة اجتماعية واسعة للحركة الوطنية وصولاً إلى إسقاط اتفاق 17 أيار وطرد العدو من الجنوب وانبثاق قوى شيعية جديدة مثل حزب الله.
في المقابل، وجد الغرب الأوروبي الاستعماري وقبله الإقطاع العثماني، أوساطاً من الشيعية السياسية في خدمته وبالتقاطع معه ومع مصالحه، فمقابل ثوار جبل عامل ضد العثمانيين هناك من وضع نفسه من العائلات الإقطاعية تحت تصرف الجزار، وبالمثل في العراق ثم في لبنان، ناهيك بالإقطاع داخل إيران وأذربيجان.
ومن الأزمنة المعاصرة، حالات عديدة بدءاً من الشيخ خزعل الذي تعامل مع الإنكليز والمحافل الماسونية، إلى إقطاعيين في العراق ولبنان، إلى ما بعد ذلك مع الإنكليز في العهد الملكي في العراق، ثم مع الاحتلال الأميركي، إلى جماعة الثورة المضادة والبرتقالية من إعلاميين وناشطين شيعة في لبنان ضد المقاومة.
وكما قلنا في التعليق على التشكيلات المذهبية السابقة، فإن فكرة الفوات الحضاري عند عبد الله العروي وعدم إنجاز العرب دولة الأمة المدنية الحديثة، لا في الإطار البرجوازي على غرار أوروبا ونموذج وستفاليا، ولا في الإطار الاشتراكي على غرار الصين وفيتنام، جعل من الدولة القطرية (نموذج سايكس – بيكو) دولة فاشلة عاجزة عن دمج الأشكال الاجتماعية ما قبل الرأسمالية المذهبية والقبلية والجهوية في مجتمع مدني حديث، ما أتاح للمذهبيات السياسية كل هذا الحضور، مع فارق واضح في الخيارات السياسية لكل منها.