معاوية... هل كانت الدولة الأموية عربية

تُقدم حقبة معاوية كتعبير وحيد من تاريخ العرب، الذي سبقها وتلاها ولا يزال ممنوعاً ومحجوباً، فمركز الشام في الإيلاف العربي الكبير، قبل الإسلام وبعده، لا يجوز أن يجبّ ما قبله ويهمّش ما بعده.

  • السياق العام لمسلسل
    السياق العام لمسلسل "معاوية" هو ترويج لسردية تختطف وتحتكر التاريخ.

إن السياق العام لمسلسل "معاوية" هو ترويج لسردية وشرعية تختطف وتحتكر التاريخ وحقائقه، على غرار المراجع المعتمدة في صياغة المسلسل، ومنها مراجع استشراقية مروّجة كمراجع محايدة وهي ليست كذلك، إضافة إلى أن تطويع وليّ عنق التاريخ بإسقاطات راهنة لصالح جهة سياسية بعينها تحاول نسب التاريخ القديم إليها، وإلى توظيف سياسي وأيديولوجي ينطلق من التجييش الطائفي ضد قوى وعواصم بعينها، وهو كذلك مسلسل في خدمة مجمل النظام الرسمي العربي الذي لا يزال يدار وفق معادلة القبيلة والغنيمة.

وبعد، وتجنباً لأي إسقاطات أيديولوجية، تعتمد هذه القراءة لتاريخ معاوية والدراما التي أنتجت حوله، على مراجع إما محايدة، مثل كتاب "دور الجماعات غير العربية في الإدارة والجيش الأموي" لأستاذ التاريخ الأردني، أمجد الفاعوري، وإما أقرب إلى المرويات الإسلامية الشائعة مثل كتاب المستشرق الألماني، بروكلمان "تاريخ الشعوب الإسلامية"، أو محسوبة على أهل السنة والجماعة، مثل كتاب السيوطي "تاريخ الخلفاء" الذي وصف موت يزيد بالقول: "وأهلك الله يزيدا" صفحة 162.

الثلاثية ذاتها بين معاوية ويومنا هذا

تقدم حقبة معاوية وقبيلة أمية عموماً، كحقبة صافية، بل كتعبير وحيد من تاريخ العرب، الذي سبقها وتلاها ولا يزال ممنوعاً ومحجوباً، فمركز الشام في الإيلاف العربي الكبير، قبل الإسلام وبعده، لا يجوز أن يجبّ ما قبله ويهمش ما بعده، ولا تجوز مقاربته خارج سياقاته الدامية في مواجهة الأمة كلها، بل العرب تحديداً كما سنرى.

والأخطر لا يجوز تحويل كل ذلك إلى سردية لتغطية وتبرير النظام العربي الحالي، من حيث تشكيلته الطبقية وتعبيراته السياسية، مقابل ما لاحظه المفكر الجابري عن استمرار الماضي الطبقي – العشائري – الأيديولوجي في وضعنا الراهن، ومن ذلك: 

- ثلاثية القبيلة والعقيدة والغنيمة، المؤدلجة سياسياً وسفك الدم وبناء السجون من أجل هذه الثلاثية، ومن ذلك قتل كل المفكرين الذين عارضوا فكرة الجبر الأموي (سلطة وغنيمة ساقها الله إليهم)، وبينهم غيلان الدمشقي والجعد بن درهم والجهم بن صفوان، وكذلك ابتزاز الخصوم بعائلاتهم (اعتقال شرطة معاوية لأطفال زياد ابن أبيه قبل التحاقه بسلطته)، وشراء الولاءات بالمال والمناصب والجواري كما حدث مع زياد ابن أبيه المذكور ونسبه إلى أبي سفيان من جاريته سمية، وكما حاول شراء الصحابي أبي ذر الغفاري الذي رفض ذلك، فعوقب بالموت في صحراء الربذ.

- تحويل الخلافة إلى ملك عضوض على غرار كسرى وبيزنطة واغتصاب السلطة باسم بيعات مزورة أو ناقصة، إذ نعرف أن المدن والأمصار الأساسية للإسلام، مثل مكة والمدينة لم تبايع معاوية وابنه من بعده، ورغم أن أبناء الخلفاء، عبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن عمر، والحسين بن علي، وأبناء الصحابة وغيرهم مثل عبد الله بن الزبير رفضوا مبايعة يزيد لسوء سلوكه وانخراطه في اللهو والمجون ما تتسبب في وفاته المبكرة، فإن معاوية أصر على انتزاع البيعة له، فظلا الأب والابن حاقدين على الصحابة في مكة والمدينة وتعاملا معهم بالحملات العسكرية والإعدامات الجماعية، ومثل ذلك ملاحقة عبد الله بن الزبير في مكة، وعدم التردد في قتل عشرات الصحابة وأولادهم، مثل حجر بن عدي الكندي وعمار بن ياسر وأبناء الصحابة في المدينة المنورة بعد غزوها وقتل فتيانها وسبي فتياتها.

- مقابل الحديث المتكرر عن شعرة معاوية وميله للصفقات والتسويات، فإن المرجعية العامة له ولابنه ورجاله، هي حد السيف وقوله الشهير وهو يحاصر المدينة: "من نازعنا عروة في هذا القميص أخذناه بسيوفنا"، وقوله للذين رفضوا اقتراحه مبايعة ابنه يزيد: "لئن رد علي أحدكم في مقامي هذا لا ترجع كلمته إليه حتى يسبقها سيفي إلى رأسه"، وفي التاريخ أن رجال معاوية ويزيد في مصر بعد أن قتلوا محمد ابن الخليفة أبو بكر، قطّعوه ووضعوه في جلد دابة.

الإزاحات المؤدلجة

في مسلسل "معاوية" كما في غيره تتكرر الإزاحات المؤدلجة لغايات تحريضية حتى اليوم ومنها ما يتعلق بمقتل عثمان وقبله عمر بن الخطاب، فالأول كان محصلة لمجموعة من العوامل والظروف تنطلق من الخلاف بين زعامات قريش في مكة وزعامات المدينة المنورة أكثر مما تظهر في تجليات أخرى، فمنذ سقيفة بني ساعدة والتباين بين زعامات قريش والمدينة مستمر على مدار التاريخ العربي والإسلامي، وهو التباين الذي تحوّل من البعد السياسي في السقيفة والقول المنسوب إلى أبي بكر وعمر لأهل المدينة والأنصار (منا الأمراء ومنكم الوزراء)، إلى البعد الطبقي بين أغنياء قريش وعلى رأسهم عثمان وأبو سفيان وسلالاتهما وبين فقراء مكة والمدينة والأمصار، ولم يكن مقتل عمار بن ياسر واضطهاد أبي ذر الغفاري إلا تعبيراً عن ذلك.

وليس بلا معنى انعكاس الاستعلاء الطبقي على أهل الأنصار والأمصار في صورة أخرى من صورة الاستعلاء القبلي على الناس عموماً كما في نصيحة معاوية لابنه يزيد: "استعن دائماً بالفقهاء على العامة وأغرقهم بالهبات والامتيازات". 

أما الإزاحة الثانية المنسية، بل الممنوع الإشارة إليها، ما يتعلق بمقتل عمر بن الخطاب، فتنطلق من المنهج الاجتماعي التحليلي الطبقي، وتظهر أن (أبو لؤلؤة) مجوسي وفارسي أو غير ذلك، كان مولى وخادماً للمغيرة بن شعبة الذي أرسله إلى المدينة ولم يذهب من تلقاء نفسه أو رغماً عن المغيرة (من رجال معاوية لاحقاً)، الذي كان للرسول رأي سلبي فيه، وقد قام المغيرة بإرساله لقتل عمر بن الخطاب لرفضه رغبات المغيرة وزعماء الفتح في الكوفة تسجيل أراضي الفتح باسمهم كحق رقبة وملكية، وهو الحق الذي قامت عليه فلسفة بيت مال المسلمين حتى ألغاه صلاح الدين الأيوبي عندما وزّع هذه الأراضي على أولاده وإخوته.

معاوية في كتابين 

أولاً، هل كانت الدولة الأموية عربية

السائد في أوساط أكاديمية وسياسية أن الدولة الأموية، كانت دولة عربية مقابل إضفاء شعوبية فارسية وتركية على الدولة العباسية، إلى أي حد صحيح هذا الاستنتاج وما يبنى عليه في ضوء الملك العضوض الذي أخذه الأمويون من كسرى وبيزنطة، وفي ضوء الوقائع التالية، كما وردت في كتاب الأكاديمي الأردني، الدكتور أمجد الفاعوري الذي صدر عام 2009 تحت عنوان "دور الجماعات غير العربية في الإدارة والجيش الأموي": 

1- في الإدارة، منذ معاوية فصاعداً، إلى جانب اللغة العربية فقد غلب على الإدارة (اللغات الفارسية واليونانية في المعاملات المالية والدواوين الرسمية، صفحة 162)، وبالنص الحرفي كانت الغالبية من موظفي الدواوين قبل وبعد التعريب، من الجماعات غير العربية وبينهم موالي ومانيون (صفحة 182). 
كما سيطر غير العرب على ديوان الختم وديوان البريد وديوان الجند (صفحات 232 - 235) والمقربون والمستشارون للخلفاء أمثال عبد الحميد الكاتب، مستشار مروان بن محمد، وبالمثل كان حال الجباة وموظفي الخراج (الدهاقون الفرس، صفحة 163، والقومس في المغرب، صفحة 174، والمشايخ من كوريا صفحة 174). 

2- قادة الشرطة في دمشق ومصر (صفحة 312).

3- حرس الخلفاء، بل إن معاوية كان محاطاً بهؤلاء ومعظمهم من الصقالبة، أي من القومية السلافية (صفحات 284 – 285)، وينقل عن معاوية بحسب الكتاب أنه في رسالة إلى زياد ابن أبيه في العراق قوله: "عليكم بالموالي فإنهم أنصر وأغفر وأشكر" (صفحة 182)، ومن جملة ذلك مولى متهم بقتل عثمان كان يدعى عبد الرحمن عديس (صفحات 313 – 314). 

4-  النفوذ الكبير للجماعات غير العربية في الجيش الأموي مثل: 
- الأساورة الفرس (صفحات 253، 277، 291). 
- الصقالبة (صفحات 284 – 285).
- الحمراء الروم (صفحة 254).
- البخارية (صفحات 260، 278، 285، 288).
- الشاكرية الترك (صفحة 218). 
- القيقانية والاندغار الهنود (صفحات 255، 288، 295).
- الكرد والأحباش والترك والذكوانية (صفحات 282، 287).
- إضافة إلى الوضاحية من شمال أفريقيا (صفحات 283- 293).
- اليهود الذين سبق لأبي عبيدة أن وظفهم كجواسيس وعيون له (صفحة 299).

دور غير العرب في قمع الثورات العربية

أيضاً، بخلاف المرويات الشائعة عن عروبة الدولة الأموية، فإن معاوية وابنه يزيد ومن جاء بعدهما واجهوا ثورات عربية في كل مكان، وقاموا بقمعها والتنكيل بقادتها العرب عن طريق جماعات غير عربية:

- دور الصقالبة في اقتحام وقمع ثورات المدينة المنورة التي رفضت مبايعة معاوية وابنه يزيد، والذين نكلوا مع غيرهم من جند معاوية ويزيد بأبناء المدينة وحوّلوا فتياتها وحرائرها إلى سبايا، فضلاً عن قتل العشرات من أبنائها وبينهم العديد من أبناء الصحابة، ويشار هنا إلى ما ذكره أيضاً المؤرخ السيوطي السني المعروف حول معركة الحرّة التي قتل فيها يزيد معظم أبناء الصحابة.

- دور الأساورة الفرس في الجيش الأموي، ومن قادتهم عبد الرحمن بن رستم (رستم كان قائداً للفرس في معركة القادسية) في قمع ثورة أهل مكة بقيادة عبد الله بن الزبير بن العوام (صفحات 253، 291). 

- دور البخارية (من بخارى) في قمع الثورة العربية التي قادها زيد بن علي (الذي تنسب له الزيدية في اليمن) (صفحات 260، 278، 285، 288). 

- دور الشاكرية في قمع الثورات العربية للخوارج (صفحة 288).

- دور الذكوانية في إخضاع مصر بعد رفضها مبايعة يزيد بن الوليد (يزيد آخر خليفة من هذه السلالة) (صفحة 287). 

- دور القيقانية الهنود في قمع ثورة المهلب بن أبي صفرة والمشاركة في قمع ثورة زيد بن علي (صفحات 288، 295). 

- دور الوضاحية من شمال أفريقيا في قمع حركة يزيد بن المهلب (صفحات 283، 293)، وقمع ثورة عبد الله بن الزبير (صفحة 284).

- توليفات من جماعات غير عربية ساهمت في قمع ثورة ابن الأشعث وقتله في معركة دير الجماجم (صفحة 293).

- وأخيراً، فإن معظم الجيش الأموي الذي قاتل العباسيين وانهزم في معركة الزاب كان من غير العرب (صفحة 295).

معاوية في كتاب السيوطي

من المرجعيات المتداولة في التاريخ العربي والإسلامي، كتاب "تاريخ الخلفاء" الصادر عن دار "الكتاب العربي" في بيروت للمؤرخ جلال الدين السيوطي المتوفى سنة 911 هـ، والمعاصر للسلطان المملوكي، طومان باي، الذي أعدمه الترك بعد سقوط مصر بيدهم إثر أكثر من معركة بينها معركة مرج دابق والمعارك التالية في مصر.

بحسب السيوطي، وبخلاف ما جاء في المسلسل، فقد أسلم هو وأبوه يوم فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم، وورد في فضله أحاديث قلما تثبت (صفحة 150)، ومما ينقله السيوطي عن ابن عساكر:

1- أن معاوية أول من خطب في الناس قاعداً لكثرة شحمه وعظم بطنه (صفحة 154). 

2- أن ابن حنبل الفقيه السني المتشدد، قال حول خلافته: "لم يكن أحق بالخلافة في زمن علي من علي" (صفحة 153)، وقد وردت الفكرة في كتاب صادر عن قطر تحت عنوان "ظاهرة التطرف والعنف". 

3- أن معاوية أول من اتخذ الخصيان لخدمته (صفحة 154)، كما يغمز السيوطي من قناة نسبه في إطار المرويات الشائعة.

4- أول من عهد بالحكم إلى ابنه يزيد، وطلب من مروان، واليه على المدينة، أخذ البيعة له، وعندما قام مروان بمخاطبة أهل المدينة في ذلك قام إليه عبد الرحمن بن أبي بكر ورد عليه قائلاً: "إنها سنة كسرى وقيصر" (صفحة 151). 

حرب معاوية وابنه يزيد مع أهل المدينة المنورة

أياً كانت مجمل الأسباب التي ترد جذور حروب معاوية وابنه يزيد مع أهل المدينة المنورة، سواء كانت تعود إلى الظروف التي رافقت مقتل عثمان، أو ما جرى في السقيفة خلال مرض الرسول ثم وفاته وانقسام المسلمين بين مهاجرين من قريش وبين الأنصار من المدينة، فإن ما يذكره السيوطي يكرس مواقف معاوية وابنه من أهل المدينة، ويذكر في هذا السياق أنه عندما قدم معاوية إلى المدينة ولم يستقبله أهلها قال له أحد زعماء المدينة، أبو قتادة الأنصاري: "لم نتلقاك لأنه ليس لنا دواب نمتطيها لاستقبالك فقد عقرناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر" (صفحة 155)، وبهذا الأنصاري يغمز من جدية إسلام المؤلفة قلوبهم، وستكرر هذه الجملة على نحو آخر على لسان يزيد هذه المرة.

فما أن استلم يزيد الحكم بعد وفاة والده معاوية، وكان مثله كثير اللحم (صفحة 158) حتى جوبه برفض أهل المدينة مبايعته، ويعاود السيوطي هنا الاتكاء على المرويات السائدة ويتحدث عن إسراف يزيد في المعاصي، ويتهمه بأنه كان ينكح أمهات الأولاد والبنات ويشرب الخمر (صفحة 161).

أما الإحالات التي تذكرها مصادر كثيرة فهي مذبحة الحرّة التي أعقبت مذبحة كربلاء، فبالإضافة إلى ما هو معروف حول تلك المذبحة، سار جيش يزيد إلى المدينة المنورة وقتل في موقعة الحرّة معظم شباب المدينة التي نهبت وافتض فيها ألف عذراء (السيوطي عن المسند وتاريخ الذهبي، صفحة 161)، كما ينسب إلى يزيد قوله بعد تلك المذبحة: "الآن أخذنا بثأر بدر"، ويقصد قتلى قريش الذين سقطوا على يد المسلمين في معركة بدر.