"إزفستيا": ما سبب الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا؟

لماذا تنوي الولايات المتحدة قطع العلاقات القائمة مع أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية؟ وما يهدّدها؟

0:00
  • "إزفستيا": ما سبب الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا؟

صحيفة "إزفيستيا" الروسية تنشر مقالاً يتناول التحوّل في الموقف الأميركي تجاه أوروبا، ويُسلّط الضوء على إعادة تشكيل العلاقات الأميركية الأوروبية في ضوء تغيّرات سياسية واستراتيجية داخل واشنطن، ويحذّر من تفكّك التحالف التقليدي بين الطرفين إذا لم تُدرك أوروبا جدّية الرسائل المقبلة من البيت الأبيض.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

انتقد نائب الرئيس الأميركي جاي دي فانس أوروبا مجدّداً بسبب سياساتها الاقتصادية وسياساتها المتعلّقة بالهجرة. وأكد أنّ العالم القديم لا ينبغي أن يظلّ تابعاً لأميركا، بل يجب أن يضمن أمنه.
 
في 14 نيسان/أبريل، أثار جيه دي فانس، في مقابلة مع موقع "أنهرد"، موضوع العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، مؤكّداً مجدّداً ضرورة مراجعتها. وأشار إلى أنّ اعتماد الدول الأوروبية الحالي على الولايات المتحدة في الشؤون الأمنية لم يعد يخدم مصالح واشنطن. وشدّد فانس على ضرورة وقف دعم الجانب الأميركي للبنية التحتية الأمنية في أوروبا.

على الرغم من إشادة فانس بنجاحات بريطانيا وفرنسا وبولندا في ضمان أمنها، إلا أنّه أشار إلى أنّ قادة بقية دول أوروبا لا يستثمرون بما يكفي في الدفاع، وأنهم بحاجة إلى إصلاح هذا الوضع. ومن بين أمور أخرى، أشار نائب الرئيس الأميركي إلى أنّ الوقت قد حان لأوروبا "للتوقّف عن كونها تابعة للولايات المتحدة" وأنه من غير المربح لها أن تظلّ في هذا الوضع.
 
ذكّرت تصريحات فانس بشأن أوروبا بخطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن، الذي انتقد فيه بشدّة العالم القديم. اتهم أوروبا بالابتعاد عن الديمقراطية ومبادئ حرية التعبير، وأوضح في الوقت نفسه أنّ الوقت قد حان لأوروبا لبدء عملية إعادة توجيه نفسها من الولايات المتحدة إلى مسألة ضمان الأمن. وكان هذا خروجاً عن التوجّه السائد قبل 80 عاماً.

ما أراد فانس قوله

في مقابلته الأخيرة، لم ينكر فانس، متحدّثاً عن أوروبا كدولة تابعة، وأنّ الولايات المتحدة لا تزال تعتبر أوروبا حليفتها. ومع ذلك، أكد بهذه الطريقة أنّ العلاقات الحليفة تعني موقفاً متساوياً للطرفين، وأنهما يتحمّلان التزامات متساوية تجاه بعضهما البعض. يعارض فانس تحمّل الولايات المتحدة العبء الأكبر من تكاليف الأمن، كما هو الحال الآن.
 
لا يريد البيت الأبيض الآن أن تشير أوروبا إلى موقف الولايات المتحدة في كلّ موقف ممكن أو أن يحثّها على الاستجابة للقضايا الأمنية. وبما أنّ الإدارة الأميركية الجديدة أعلنت أنّ قيمها تختلف عن القيم المعتمدة في أوروبا، فإنّ العلاقات السابقة ينبغي أن يُعاد النظر فيها أيضاً في مجال الأمن بحيث لا تعود ملزمة للولايات المتحدة وتتدخّل في حماية مصالحها.
 
في الوقت نفسه، لا تزال الولايات المتحدة غير مستعدّة للتخلّي تماماً عن التزاماتها السابقة وترك أوروبا من دون نفوذها العسكري. ينبغي النظر إلى الحديث عن استعدادها لمغادرة قارة أجنبية على أنه مطالبة بمقابل عادل لجهودها، وليس نيةً لمغادرة أوروبا من دون أيّ حماية على الإطلاق. ورغم أنّ هذه الفجوة ستكون مفيدة للولايات المتحدة من وجهة نظر مالية بحتة، إلا أنها تفضّل أن تسدّد أوروبا ببساطة التكاليف التي تكبّدها الجانب الأميركي.
 
ويؤكّد ذلك أنّ الولايات المتحدة تضع "سعراً" محدّداً؛ ينبغي على أعضاء الناتو زيادة الإنفاق الدفاعي إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي. وينطبق هذا على كلّ من إنتاج الأسلحة وصيانة القوات. تريد واشنطن فقط من أوروبا عدم فرض أيّ شروط خاصة، وهو ما لا ترى الإدارة الحالية مبرّراً له.

لماذا تُعامل الولايات المتحدة أوروبا بهذه الطريقة؟

إنّ مطالبة فانس لأوروبا بالتفكير في أمنها وتقديم مساهمة مساوية للولايات المتحدة تُغيّر طبيعة العلاقات العالمية. ومع ذلك، فهذا ليس بجديد على السياسيين الأميركيين. تاريخياً، كانت الولايات المتحدة أكثر نفوراً من أوروبا، واتبعت سياسة انعزالية. كان يُنظر إليها على أنها منطقة مضطربة، تُشعل الحروب باستمرار وتمنع بقية العالم من التطوّر بسلام. من ناحية أخرى، عاملت أوروبا الولايات المتحدة كأخ أصغر، مُقيّمةً بتعالٍ تاريخها ومكانتها في العالم.
 
لم يحدث تغيير المواقف إلا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما تولّت الولايات المتحدة موقعاً قيادياً، ولم تكن أوروبا تملك القوة الكافية لفعل أيّ شيء ضدّها. في تلك اللحظة، شعر الأميركيون بأنهم أمّة عظيمة تُعنى بكلّ ما يحدث في العالم. ومع ذلك، لم يختفِ مبدأ الانعزالية في أيّ مكان، ودخلت التقلّبات بين اتجاهي السياسة الخارجية بقوة في الخطاب الأميركي الداخلي. الآن، عاد البندول نحو عدم التدخّل، وبقوة أكبر بكثير مما كان متوقّعاً في أوروبا، ولذلك تُعتبر كلمات فانس جريئةً وتهديدية.
 
يُشير مجتمع الخبراء إلى أنّ الموقف الأميركي الحالي تجاه أوروبا ناجم عن تحوّل التركيز نحو منطقة المحيط الهادئ. إذ يعتبر السياسيون الأميركيون هذه المنطقة ذات أولوية قصوى. في السابق، كانت الولايات المتحدة تعتبر الاتحاد السوفياتي وروسيا خصمها الرئيسي، ولذلك انصبّ اهتمامها على أوروبا. أما الآن، فأصبحت الصين منافسها الرئيسي. إذا كانت واشنطن مستعدة لتقديم مساعدة عسكرية مجانية لأيّ جهة، فمن المرجّح أن تكون دول آسيا وأوقيانوسيا، التي ستصبح بمثابة نقطة انطلاق للولايات المتحدة في حال حدوث تصعيد كبير.
 
بالإضافة إلى الأسباب العملية البحتة لإعادة توجّه الولايات المتحدة نحو أوروبا، هناك أيضاً أسباب أيديولوجية. لا تعني أيديولوجية الترامبية أنّ كياناً نيوليبرالياً عالمياً كأوروبا في شكلها الحالي يمكن أن يصبح حليفاً لأميركا.
 
 فبينما يقاومون في العالم القديم وصول قوى اليمين المتطرّف، فإنّ هذه القوى في الولايات المتحدة دخلت لتوّها البيت الأبيض ولا تريد أن يحظى منافسوها الأيديولوجيون على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي بدعمها. ومهما تجلّت الانعزالية الأميركية، فلن يراقب مؤيّدوها بهدوء بروكسل وهي تمنع هذا التوجّه.

ماذا ينتظر أوروبا؟

إذا لم تُقرأ تحذيرات البيت الأبيض بشكل صحيح في بروكسل، وانهارت العلاقات عبر الأطلسي، فستكون العواقب وخيمة على أوروبا. فقد استندت قوتها الاقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية إلى ثقتها في قدرتها على الاعتماد على الولايات المتحدة لضمان أمنها وامتلاك سوق أميركية ضخمة.
 
من دون هذا الأساس، ستُقطع العلاقات الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وقد تضرّرت بالفعل بشكل كبير بسبب الرسوم الجمركية. ستُعزل أوروبا عن سوقها الرئيسي، وستفقد التعاون التقني، وستُقوّض أمنها الطاقي، الذي لا يقلّ أهميةً عنها وعن أمنها العسكري الاستراتيجي. قد تُثير ظواهر الأزمة اللاحقة اندفاعاً نحو اليمين، وهو ما تسعى الأحزاب السياسية الرئيسية في أوروبا إلى احتوائه. سيُحوّل الناخبون أنظارهم إلى اليمين، يرون فيه قوةً قادرةً على التوصّل إلى اتفاق مع الإدارة الأميركية.
 
إنّ حقيقة أنّ أوروبا ليست كياناً واحداً، بل مجموعة دول منفردة، ستساعد في تأجيل بدء التغييرات الجذرية. تبني الولايات المتحدة علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي ككلّ، ومع أعضائه فرادى، ومع الدول غير الأعضاء في التكتل. أشار فانس نفسه إلى أنه لا يشكو من بعض حلفائه في أوروبا، لذا ستتمكّن الولايات المتحدة من مواصلة التعاون البنّاء معهم. في مثل هذه الحالة، قد تستفيد أوروبا من الاختلالات في مشهدها السياسي، والتي تجنّبتها بجهدٍ في العقود الأخيرة.
 
من المحتمل ألا يحدث انفصال كامل في نهاية المطاف - ففي ظلّ التوترات الجيوسياسية الحالية، لن تجرؤ النخب الأميركية على اتخاذ إجراءات جذرية للغاية. لكنها قد تُخرّب المبادرات الأوروبية تدريجياً، وتدعم سياسيين ذوي توجّهات وطنية، وتبني علاقات تتجاوز مؤسسات الاتحاد الأوروبي. تُرسي الأزمة الأوكرانية ديناميكية معيّنة، ويمكن للولايات المتحدة أيضاً اتخاذ عدد من الإجراءات المتعلّقة بها، وهو ما قد تُواجهه أوروبا، التي لا تُقلّل من دعمها لكييف.

نقله إلى العربية: الميادين نت.