"الغارديان": جراح بريطاني يروي محنته خلال عمله في مستشفى بغزة.. ماذا قال؟
لقد زار الدكتور غرام غروم غزة 40 مرة، إلا أنه لم يشهد من قبل مثل هذه الأذية وهذا الجوع والشجاعة التي يتحلّى بها زملاؤه الفلسطينيون.
-
الدكتور غرام غروم
صحيفة "الغارديان" البريطانية تنشر تقريراً يتناول شهادة الطبيب البريطاني غرام غروم عن تجربته في مستشفى ناصر في غزة خلال الحرب المستمرة، مسلطاً الضوء على المعاناة الطبية وظروف الأطباء المحليين، وتدهور الوضع الإنساني، والقيود الإسرائيلية التي تمنع إدخال المعدات الطبية الحيوية.
أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:
كلّ يوم، بين الساعة الرابعة والسادسة صباحاً، كان غرام جروم، جراح العظام من لندن، يستيقظ على دوي أصوات القنابل والصواريخ عند الفجر. وهكذا بدأت 24 ساعة أخرى في مستشفى ناصر بغزة، أكبر مستشفى عامل في القطاع. وبعد الساعة الثامنة صباحاً بقليل، أُدخلت الدفعة الأولى من المرضى إلى غرف العمليات. كان غروم وزملاؤه في قسم جراحة العظام والتجميل يفحصون ما معدله 20 مريضاً في اليوم: ثلثهم من الأطفال، والثلث الآخر من النساء، ورجال من جميع الأعمار، وأطرافهم مشوّهة بسبب القنابل وصواريخ المدافع.
وقد زار غروم، وهو أحد مؤسسي جمعية " آيديلز" الخيرية التي تقدّم خدمات صحية في الأماكن المتضرّرة من النزاع، غزة نحو 40 مرة، بما في ذلك 4 زيارات منذ هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023. وذات ليلة من رحلته الأخيرة، وبينما كانت ورديته التي استمرت أكثر من 12 ساعة على وشك الانتهاء، وصلت حالة طارئة أخرى إلى المستشفى.
كان صبياً في الحادية عشرة من عمره، فقد أشقاءه الـ9 في غارة إسرائيلية على منزل عائلته في خان يونس. كان والده، وهو طبيب، في حالة حرجة، وتوفي لاحقاً متأثراً بجراحه. في تلك الليلة، تمكّن غروم وفريقه من إنقاذ ذراع الصبي، بدلاً من بترها. كان اسم الصبي آدم النجار. ومع تحسّن حالته، وجد طبيب هيئة الخدمات الصحية الوطنية أنه يتحدث الإنكليزية بطلاقة ويتمتع بابتسامة ملائكية.
وبعد بضعة أسابيع، تمّ إجلاء آدم ووالدته إلى إيطاليا. وبحسب غروم، كان آدم في حالة بدنية أفضل بكثير بحلول وقت مغادرته، مع أنه كان من السابق لأوانه تقييم الأثر طويل الأمد للانفجار على دماغه، أو الآثار النفسية المترتبة. وقال: "لم نتمكّن من البدء في الحصول على تقييم للصحة العقلية للآثار المترتبة على فقدان كل أفراد أسرته تقريباً في قنبلة واحدة".
مقابل كل طفل فلسطيني تتصدّر صدمته عناوين الصحف، هناك آلاف آخرون لم تُروَ قصصهم. وقد أفادت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) في 16 تموز/يوليو بأنّ أكثر من 17 ألف طفل قُتلوا وأُصيب 33 ألفاً في الصراع المستمر منذ 21 شهراً.
ويذكر طبيب هيئة الخدمات الصحية الوطنية يعقوب، الطفل البالغ من العمر 7 سنوات، والذي كان مع أخيه الأكبر الناجي الوحيد من الغارة. كانت ساقا يعقوب مكسورتين من فوق الركبتين ومن تحتهما، وجلده وجزء كبير من أنسجته الرخوة ممزقان بفعل القنابل. ويقول: "في الوقت الذي كنتُ أكتب تقرير العملية... كان من المحزن سماعه ينادي على الأم التي ماتت".
كما يذكر الطبيب مريضين آخرين، من بينهما أم كانت تحتضن ابنتها ذات الثلاث سنوات عندما انفجرت القنابل. فقدت الطفلة ساقيها، وتضرّر مرفقا الأم وحُرمت من استخدام ذراعيها. وهي تستعيد حالياً قدرتها على استخدام إحداهما. وفي العادة، يتمّ إخراج المرضى من المستشفى لينتهي بهم المطاف في خيام أو ملاجئ مؤقتة في الرمال من دون الخضوع إلى برامج إعادة التأهيل. وهم يعانون من سوء التغذية، ما يجعل جروحهم أقل التئاماً. أما معدلات العدوى، فهي مرتفعة ومن الصعب تتبّعها لمتابعتها. وفي هذا الإطار، قال غروم: "زملاؤنا الفلسطينيون المذهلون يبذلون قصارى جهدهم. ولولا ذلك، لكانت معدلات الوفيات والعاهات المستدامة أعلى بكثير".
لقد أرسلت جمعية "آيديلز" الخيرية فرقاً طبية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 2009. إلا أنه لم يسبق أن كان إدخال الإمدادات بهذه الصعوبة. في ما مضى، تمكّن غروم وحده من إحضار 5 حقائب كبيرة. وخلال زيارته الأخيرة، مُنع فريقه "تحت طائلة الاستبعاد والمصادرة وربما المعاقبة" من إحضار معدات ضرورية للغاية، مثل أدوات جراحة التجميل الدقيقة لإصلاح الأوردة والأنسجة، أو هياكل تقويم العظام التي تُساعد على التئام الكسور.
ومنذ أن ذهب فريق "آيديلز" للمرة الأولى إلى غزة كانت هناك دائماً مبانٍ متضررة، ولكن "لا شيء على الإطلاق يمكن مقارنته بالدمار الهائل الذي أصاب القطاع اليوم".
لقد أُجبر جميع زملائه الفلسطينيين على النزوح، بعضهم عدّة مرات. وفقد الكثير منهم أقاربه المقرّبين، أو معظم عائلاتهم الممتدة. وهم يعيشون في خيام قرب المستشفيات، مزوّدة بمراحيض حفروها بأنفسهم. ويذكر أنّ إحدى النساء كانت تنام بحجابها كلّ ليلة وأنها "حتى لو قُتلت، ستموت بمظهر حسن. والمدهش هو عدد الذين كانوا يعودون إلى العمل كلّ يوم من خيامهم نظيفين وأنيقين وبشوشين".
لقد بدا أنّ الكثير منهم يتجاهلون معاناة شخصية لا توصف. وعن زملائه الفلسطينيين، قال غروم: "عندما كانوا يتحدّثون عن فقدان أفراد من عائلاتهم، كانوا يقولون: هذه حياتنا. ربما سمعت ذلك عشرات المرات".
وخلال زيارته الأخيرة، التي امتدت من 13 أيار/مايو إلى 4 حزيران/يونيو، اختفت الأكشاك من الأسواق تقريباً. وذكرت وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللّاجئين الفلسطينيّين (الأونروا) يوم الثلاثاء أنّ الأطباء والطواقم التمريضية كانوا من بين الأشخاص "الذين أصيبوا بالإغماء نتيجة الجوع والإرهاق"، بعد أن قالت في وقت سابق إن السلطات الإسرائيلية "تجوّع المدنيين".
وفي 20 تموز/يوليو، أخبر طبيب تخدير، وهو أب لـ6 أطفال، غروم أنه وعائلته يتضوّرون جوعاً. ويعاني أطفاله، الذين تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً، من التعب والضعف والتشنّجات وفقدان الذاكرة. وقال طبيب التخدير في رسائل إلى غروم اطلعت عليها صحيفة "الغارديان" إنهم كانوا في حالة ارتباك وبكاء. ولم يستطع طبيب التخدير سوى إعطائهم الملح والماء.
وقد نقل غروم ما شهده من معاناة في غزة إلى صنّاع القرار في بروكسل وبرلين وباريس، وحثّ الغرب على زيادة الضغط على "إسرائيل". وقال: "في كل مكان، قوبلنا بالتعاطف، وفي كثير من الأحيان بالدموع، ولكن مع شعور بالعجز". وبعد حديثه إلى صحيفة "الغارديان"، اقترحت المفوّضية الأوروبية تعليقاً جزئياً لمشاركة "إسرائيل" في برنامج الأبحاث التابع للاتحاد الأوروبي، وهو أول إجراء عقابي محتمل ضد الحكومة الإسرائيلية، والذي يجب أن توافق عليه أغلبية الدول الأعضاء حتى يدخل حيّز التنفيذ.
وكان غروم قد أعرب عن خيبة أمله الكبيرة عندما لم يتخذ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أيّ إجراء في وقت سابق من هذا الشهر بعد مراجعة علاقات المجموعة مع "إسرائيل"، ولا يرى أنّ الصراع قد شارف على الانتهاء.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.